
وكان صلّى الله عليه وسلم يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره بهذا الدعاء، ليعظم أجره، وليكون في كل الأوقات ذاكرا ربّه تعالى.
والله قادر على إنزال العذاب بهم، وأراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف في يوم بدر وفتح مكة، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
وثانيا- دعاء الاعتصام من الشيطان، والمعنى: يا ربّ إني ألتجئ إليك من نزعات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى، وفي حالات الغضب.
وبين الدعاءين تعليم لأسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وهو مقابلة السيئة بالحسنة، أي بالصفح ومكارم الأخلاق، لتنقلب العداوة صداقة، والبغض محبة، قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم | فطالما استعبد الإنسان إحسانه |
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
الإعراب:
قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ: إنما جاءت المخاطبة بلفظ الجمع، ولم يقل: ارجعني تعظيما لله تعالى، أو على معنى التكرار، كأنه قال: ارجعني ارجعني، فجمع، كما ثنّى في قوله تعالى:
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي ألق ألق. صفحة رقم 98

البلاغة:
إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل، إذ أنه أطلق الكلمة على الجملة.
المفردات اللغوية:
حَتَّى ابتدائية. جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي الكافر، وهو متعلق بقوله: يَصِفُونَ في الآيات المتقدمة، وما بينهما اعتراض، وقد يسأل المؤمن الرجعة أيضا، فإذا رأى الكافر مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن، طلب العودة إلى الدنيا، وكذلك المؤمن يسأل الرجعة، كما جاء في آخر سورة المنافقين: فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [١٠].
ارْجِعُونِ الواو لتعظيم المخاطب، أي ردوني إلى الدنيا. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً بأن أشهد أن لا إله إلا الله. فِيما تَرَكْتُ ضيعت من عمري. كَلَّا كلمة ردع وزجر عن حصول ما يطلب، أي لا رجوع. إِنَّها أي قوله: رب ارجعون كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي لا فائدة له فيها. وَمِنْ وَرائِهِمْ أي من أمامهم. بَرْزَخٌ حائل أو حاجز بينهم وبين الرجعة. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إلى يوم القيامة، ولا رجوع بعده، فهو تيئيس وإقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة.
المناسبة:
بعد أن كشف الله حال المشركين وما يصفون من الشرك والتكذيب، ذكر الله حال الكافرين عند مجيء الموت، فإنهم يتمنون أن يعودوا إلى دار الدنيا ليعملوا صالحا، لكن لا يسمع لقولهم ودعائهم. والمراد أن الكفار ما يزالون على سوء الحال والاعتقاد إلى الموت، فهذه الآية متعلقة بقوله: يَصِفُونَ وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم وإهمالهم، بالاستعانة بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم، ويزحزحه عن الأناة.

التفسير والبيان:
هذا حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو العصاة المفرطين في أمر الله تعالى وماذا يقولون حينئذ، فقال تعالى:
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي إذا دنا الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله من الموت، ورأى ما ينتظره من العذاب، طلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، وقال: ربّ ارجعني لكي أتدارك ما قصرت فيه، وأعمل العمل الصالح الذي ترضى عنه من الطاعات والخيرات وأداء حقوق الناس. وقوله:
لَعَلِّي ليس المراد بها الشك، وإنما يعني كونه جازما بأنه سيتدارك.
وذلك كما قال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم ١٤/ ٤٤] وقال سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف ٧/ ٥٣].
وقال عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة ٣٢/ ١٢] وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا
[الأنعام ٦/ ٢٧]، وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى ٤٢/ ٤٤]، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر ٣٥/ ٣٧].

وهذا كله يدل على أن تمني العودة إلى الدنيا يحدث حال المعاينة للعذاب عند الاحتضار، وحين النشور، وحين الحساب، وحين العرض على النار، وبعد دخولهم النار.
وليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر، وإنما يشمل ذلك المؤمن المقصر في الطاعات وأداء حقوق الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون ٦٣/ ١٠].
كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يجيبهم الله تعالى بقوله: كلا وهي كلمة ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى طلبه، وتلك كلمة لا بدّ من أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولا فائدة من الرجعة، فلو ردّ لما عمل صالحا، وكذب في مقالته هذه كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام ٦/ ٢٨]. ثم إنه بين الظلمة حال الاحتضار وبين الرجوع إلى الدنيا وأمامهم حاجز ومانع من الرجوع. فالبرزخ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة، فمن مات دخل في البرزخ، أو حياة المقابر. وهذا تهديد بعذاب البرزخ، وتيئيس إلى يوم القيامة لهؤلاء المحتضرين من الظلمة من الرجوع أبدا لأنهم إذا لم يرجعوا حال وجود بقية من الحياة فلا يرجعون بعدئذ مطلقا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة، وتلقي عذابها كما قال تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية ٤٥/ ١٠] وقال سبحانه: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم ١٤/ ١٧].
والخلاصة: أن المراد من قوله: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أن العذاب يستمر بهؤلاء إلى يوم البعث، كما
جاء في الحديث: «فلا يزال معذبا فيها»
أي في الأرض وهم في القبور.