
ثم قال بعد هذا: «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» فأدخل فيه جميع أنواع القرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٨]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
( «حَقَّ جِهادِهِ» : حق الجهاد ما وافق الأمر فى القدر والوقت والنوع، فإذا حصلت فى شىء منه مخالفة فليس حقّ جهاده) «١».
ويقال المجاهدة على أقسام: مجاهدة بالنّفس، ومجاهدة بالقلب، ومجاهدة بالمال.
فالمجاهدة بالنفس ألا يدّخر العبد ميسورا إلا بذله فى الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق «٢». والمجاهدة بالقلب صونه عن الخواطر الرديئة مثل الغفلة، والعزم على المخالفات، وتذكر ما سلف أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار.
ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل- وإن كان فى الأخفّ أيضا حق.
ويقال حق الجهاد ألا يفتر العبد عن مجاهدة النّفس لحظة، قال قائلهم.
يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع | فكلّ أرض لى ثغر طرسوس |
ويقال علم ما كنت تفعله قبل أن خلقك ولم يمنعه ذلك من أن يجتبيك، وكذلك إن رأى ما فعلت فلا يمنعه ذلك أن يتجاوز عنك ولا يعاقبك
(٢) إذا كانت (الإرفاق) فمعناه التسهيل، والقشيري لا يرضى به غالبا لأرباب الطريق لأنهم باحثون عن الأشق، وإذا كانت (الأرفاق) فهى جمع رفق وقد نهى القشيري فى نهاية رسالته عن وفق النسوان والصبيان فهم الأنتان والجيف... إلخ. والسياق هنا بعيد عن ذلك مما يرجح أنها الإرفاق بكسر الهمزة.

قوله جل ذكره: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجب جزيل فضله وإحسانه، وتتخلّص به من أليم عقابه وامتحانه- يسير «١» من الأمر لا يستغرق كنه إمكانك بمعنى أنّك إن أردت فعله لقدرت عليه، وإن لم توصف فى الحال بأنّك مستطيع ما ليس بموجود فيك.
قوله جل ذكره: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ.
أي اتّبعوا والزموا ملّة أبيكم ابراهيم عليه السلام فى البذل والسخاء والجود والخلة والإحسان.
قوله جل ذكره: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ.
الله هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سمّاكم المسلمين. وقيل ابراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» «٢».
قوله: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، نصب الرسول بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يبقى للشفاعة موضعا ومحلا.
قوله جل ذكره: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.
وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومن كانت له شهادة عند أحد- وهو كريم- فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده.
قوله جل ذكره: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
(٢) آية ١٢٨ سورة البقرة.

أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة.
والاعتصام بالله التبري من الحول والقوة، والنهوض بعبادة الله بالله لله. ويقال الاعتصام بالله التمسك بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصام بالله حسن الاستقامة بدوام الاستعانة.
«هُوَ مَوْلاكُمْ» : سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه.
«فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» نعم المولى: إخبار عن عظمته، ونعم النصير: إخبار عن رحمته.
ويقال إن قال لأيوب: «نِعْمَ الْعَبْدُ» «١» ولسليمان «نِعْمَ الْعَبْدُ» «٢» فلقد قال لنا «فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»، ومدحه لنفسه أعزّ وأجلّ من مدحه لك.
ويقال «فَنِعْمَ الْمَوْلى» : بدأك بالمحبة قبل أن أحببته، وقبل أن عرفته أو طلبته أو عبدته.
«وَنِعْمَ النَّصِيرُ» : إذا انصرف عنك جميع من لك فلا يدخل القبر معك أحد كان ناصرك، ولا عند السؤال أو عند الصراط.
السورة التي يذكر فيها المؤمنون
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم اشتقاقه من السمو، وللمسمى بهذا الاسم استحقاق العلو، فالاسم اسم لسموّه من القدم، والحقّ حقّ لعلوّه بحق القدم.
ويقال من عرف «بِسْمِ اللَّهِ» سمت همّته عن المرسومات، ومن أحبّ بسم الله صفت حالته عن مساكنة الموهومات..
اسم من طلبه نسى من الدارين أربه، ومن عرفه وجد بقلبه مالا يعرف سببه.
(٢) «وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» آية ٣٠ سورة ص.