
ظهور المبادئ الهدامة، والأفكار الضارة كانت دليلا على أن الإسلام دين سماوي، ونظام رباني، لا يمكن أن يصدر عن بشر.
وحين أوجب على الغنى حقا للفقير، وجعل له في مال أخيه المسلم حقا معلوما.
كان يريد الخير للغنى والفقير، ويؤسس دولة على دعائم العدل والرحمة، والتعاطف والبر، بالمجتمع الإنسانى.
(ج، د) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: وجعلهما أساسا في كيان الدولة، وإباحتهما للجميع. وهما أساس النقد الحر، دليل على أن الإسلام يريد لأبنائه الحرية المطلقة، ولكنها حرية مشوبة بروح الدين، ومطبوعة بالطابع الإسلامى الخالص.
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا توافرا في مجتمع كبح جماع العصاة الخارجين وحد من ثورة الحكام الفاسدين، وألزم كل إنسان طريق الحق، وما قيدت الحريات ولا ضعف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في أمة من الأمم إلا باءت بالخسران، وانهدم كيانها، وانمحت من الوجود.. ألم يذكر الله من أسباب اللعن لبنى إسرائيل وضياع ملكهم أنهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟ [المائدة ٧٩].
ومن هنا نعرف أن الله ينصر من ينصره، ويدافع عمن يدفع عن نفسه الهلاك والخسران من الأمم التي تقيم الصلاة، وتؤدى الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وهذه أسس الخير، ودعائم الإصلاح، وما فرطت أمة في واحدة إلا ذلت.
ألست معى في أن المسلمين فرطوا في الأربعة، فضاعت هيبتهم بين الأمم وسلط الله عليهم أعدى أعدائهم، ولا طريق لهم إلا التمسك بالقرآن وحكمه، وامتثال أمره واجتناب نهيه، خصوصا هذه الدعائم الأربعة.
حثهم على العبرة بمن تقدمهم من الأمم [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)

المفردات:
فَأَمْلَيْتُ أمهلت وأخرت عنهم العقوبة نَكِيرِ النكير بمعنى الإنكار وهو يفيد التغيير وقد غير نعمته عليهم وجعلها نقمة فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ كثير من القرى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها أى: أن السقف سقط على الأرض ثم تهدمت الحيطان فوقه مُعَطَّلَةٍ متروكة لأنها غائرة الماء أو لفناء أهلها مَشِيدٍ رفيع طويل، أو شيد بالجص والطلاء، وعلى كل فهو قصر حصين.
ما تقدم كان في بيان إخراج الكفار للمؤمنين من ديارهم بغير حق، وقد أذن الله للمؤمنين في قتالهم ووعدهم بالنصر على أعدائهم، وهزيمة الكفار على كثرتهم، ولله عاقبة الأمور، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه فانظروا لمن سبقكم من الأمم، وفي هذا سلوى وبيان للمؤمنين.

المعنى:
وإن يكذبك يا محمد هؤلاء الناس، ويسعوا في الأرض فسادا ويؤذوا أصحابك بأنواع الأذى، فلا تحزن ولا تتألم أنت وصحبك الأبرار فقديما كذبت الأمم رسلها.
ثم كان النصر للمؤمنين حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف آية ١١٠].
وها هو ذا أبوك نوح قد كذبه قومه وعصوه، وأخوك هود مع عاد، وصالح مع ثمود، وإبراهيم مع قومه، ولوط مع قومه، وشعيب مع أصحاب مدين، فهل رأيت إلا إيذاء وتكذيبا من القوم، وصبرا وثباتا من الرسل، فلست بدعا من الرسل والناس هم الناس.
وهذا موسى- عليه السلام- مع ظهور آياته ومعجزاته كالعصا واليد قد كذب، ولكن الحكم العام أن الله يملى للكافرين، ويمهل الظالمين ولا يهمل أبدا حتى إذا حان وقت العذاب أخذت بعذاب بئيس، وعقاب شديد.
فانظر: كيف كان إنكار ربك عليهم؟!! وكيف غير نعمتهم إلى نقمة، وبدل سرورهم إلى حزن، وقصورهم إلى خراب إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج ١٢].
فكثير من القرى أهلكناها، وأبدنا أهلها عن آخرهم، والحال أنها ظالمة فأصبحت لا ترى إلا مساكنهم، التي هي خاوية على عروشها، قد سقط السقف أولا ثم الحيطان عليه، وهذا نوع من الإبادة شديد.
وكثير من الآبار عطلت لفناء أصحابها أو لغور مياهها، وكذلك كثير من القصور المشيدة أخليت من سكانها وتركت تنعى أصحابها وروادها بلسان الحال!! أعمى هؤلاء المشركون من قريش، والمكذبون للنبي صلّى الله عليه وسلم، والذين يؤذون النبي وأصحابه فلم يسيروا في الأرض!! فتكون لهم قلوب يعقلون بها الحقائق، ويدركون بها الأسرار، وخفيات الأمور، حتى يعلموا عاقبة تكذيبهم، وأنه وبال عليهم، وسيحل بهم ما حل بمن سبقهم، فسنة الله لا تتغير أبدا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «١».
فإنها لا تعمى الأبصار الظاهرة وحواسها، ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور.