آيات من القرآن الكريم

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ۚ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ

وَغَالِبُ الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ اقْتِرَانُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ بِجَعْلِ فَقْدِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ الْمُسَمَّى بِالْعَمَى كَأَنَّهُ غَيْرُ عَمًى، وَجَعْلِ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى دَلَالَةِ الْمُبْصَرَاتِ مَعَ سَلَامَةِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ هُوَ الْعَمَى مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي اسْتُعِيرَ إِلَيْهِ، فَالْقَصْرُ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفَانِينُ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ وَبَدَاعَةِ النَّظْمِ.
والَّتِي فِي الصُّدُورِ صفة ل الْقُلُوبُ تُفِيدُ تَوْكِيدًا لِلَفْظِ الْقُلُوبُ. فَوِزَانُهُ وِزَانُ الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨]. وَوِزَانُ الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ:
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمرَان: ١٦٧] فَهُوَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّشْخِيصِ.
وَيُفِيدُ هَذَا الْوَصْفُ وَرَاءَ التَّوْكِيدِ تَعْرِيضًا بِالْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَفْئِدَتِهِمْ مَعَ شِدَّةِ اتِّصَالِهَا بِهِمْ إِذْ هِيَ قَارَّةٌ فِي صُدُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَالْآنَ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ»، فَإِنَّ كَوْنَهَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَحَبَّ الْأَشْيَاء إِلَيْهِ.
[٤٧]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٤٧]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ [الْحَج: ٤٢] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ فَإِنَّ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْوَعِيدِ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي وَعِيدِهِ لَعَجَّلَ لَنَا وَعِيدَهُ، فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ التَّعْجِيلَ بِنُزُولِ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً،

صفحة رقم 290

كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢]، وَقَالَ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: ٢٨] فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ [الْحَج: ٤٤] الْآيَةَ.
وَحُكِيَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَكْرِيرِهِمْ ذَلِكَ تَجْدِيدًا مِنْهُمْ لِلِاسْتِهْزَاءِ وَتَوَرُّكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ إِبْلَاغُهُ إِيَّاهُمْ.
وَالْبَاءُ مِنْ قَوْلِهِ بِالْعَذابِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ بِشِدَّتِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ يَحْرِصُونَ عَلَى تَعْجِيلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي أَوَّلِ [سُورَةِ الرَّعْدِ: ٦].
وَلَمَّا كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ إِيَّاهُ تَعْرِيضًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ:
وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، أَيْ فَالْعَذَابُ الْمَوْعُودُ لَهُمْ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَفِيه تأنيس للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَسْتَبْطِئُونَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ إِنَّمَا اسْتَعْجَلُوا عَذَابَ الدُّنْيَا تَهَكُّمًا وَكِنَايَةً عَنْ إِيقَانِهِمْ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ بِلَازِمٍ وَاحِدٍ، وَإِيمَاءً إِلَى عَدَمِ
وُقُوعِ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِلَازِمَيْنِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَدًّا عَامًّا بِقَوْلِهِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِإِنْذَارِهِمْ بِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ أَيْضًا وَهُوَ أَشَدُّ الْعَذَابِ.
فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ، وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

صفحة رقم 291
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية