
إن كانت السلطة لهم في الدنيا لازموا أوصافا أربعة: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف الذي هو خير، والنهي عن المنكر الذي هو شر محض.
قال سهيل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له، واجب عليه، ولا يأمروا العلماء، فإن الحجة قد وجبت عليهم.
٨- في قوله سبحانه: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة، وأن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة، فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبدا.
الاعتبار بهلاك الأمم السابقة
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)

الإعراب:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ: الكاف في موضع نصب بفعل مقدر يفسره الظاهر، وتقديره:
وكأين من قرية أهلكتها، وهذا إذا جعلت أهلكتها خبرا. فإن جعلتها صفة ل قَرْيَةٍ لم يجز أن تكون مفسرة لفعل مقدر لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف.
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ معطوف بالجر على قوله قَرْيَةٍ وتقديره: وكم من بئر معطلة، وقيل: هو معطوف على عُرُوشِها.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ.. تسلية له صلّى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس وحده منفردا في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ تأنيث قوم باعتبار المعنى. وَعادٌ قوم هود. وَثَمُودُ قوم صالح. وَأَصْحابُ مَدْيَنَ قوم شعيب.
وَكُذِّبَ مُوسى كذبه القبط، لا قومه بنو إسرائيل، لذا غيّر فيه النظم، وبني الفعل للمفعول لأن قومه لم يكذبوه، وإنما كذبه القبط، ولأن تكذيبه كان أشنع. فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أمهلتهم بتأخير العقاب لهم. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب أي أهلكتهم. نَكِيرِ إنكاري عليهم، بتغيير النعمة محنة، والحياة هلاكا، والعمارة خرابا. والاستفهام ب فَكَيْفَ للتقرير، أي هو واقع موقعه، ويراد به التعجب.
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كم من قرية أهلكتها، أي بإهلاك أهلها. وَهِيَ ظالِمَةٌ أي أهلها بكفرهم. خاوِيَةٌ ساقطة. عَلى عُرُوشِها سقوفها، أي ساقطة حيطانها على سقوفها أو خالية. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر معطلة، أي متروكة بموت أهلها عطفا على قَرْيَةٍ. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ رفيع أي مرفوع حال، بموت أهله، أو مجصص مبني بالشّيد أي الجصّ، أخليناه عن ساكنيه، وذلك يقوي أن معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي كفار مكة، وهو حثّ لهم أن يسافروا، ليروا مصارع المهلكين، فيعتبروا. يَعْقِلُونَ بِها أي يدركون ما يجب أن يعقل، وما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال بما نزل بالمكذبين قبلهم. أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من الوحي، والتذكير بحال من يشاهد آثارهم. فَإِنَّها الضمير عائد للقصة أو مبهم يفسره الإبصار، أي أن الضمير ضمير الشأن والقصة، وهو يجيء مذكرا ومؤنثا. وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي تعمى عن الاعتبار، أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما في سوء استعمال عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد. وذكر الصدور للتأكيد.

قال ابن عباس ومقاتل: لما نزلت: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ بإنزال العذاب، لامتناع الخلف في خبره، فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين، ولكنه صبور لا يعجل بالعقوبة.
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ من أيام الآخرة بسبب العذاب. كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا، وهو بيان لتناهي صبره وتأنيه.
نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، لقوله: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف ٧/ ٧٠] وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، لقوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال ٨/ ٣٢].
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. أَمْلَيْتُ لَها أمهلتها كما أمهلتكم. وَهِيَ ظالِمَةٌ مثلكم. ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب أي أخذت أهلها. الْمَصِيرُ المرجع، أي وإلى حكمي مرجع الجميع.
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى أن المشركين الكفار أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم، وضمن للرسول والمؤمنين النصرة عليهم، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من إيذائه وإيذاء المؤمنين بالتكذيب وغيره، ممن خالفه من قومه.
التفسير والبيان:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ.. نَكِيرِ أي إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون، فلست فريدا في هذا ولا بدعا من الرسل، وإنما هي سنة الأمم الغابرة، فقد كذبت قبلهم قوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم إبراهيم ولوط، وأصحاب مدين قوم شعيب، وكذب القبط الذين أرسل إليهم موسى، مع ما جاءهم به أنبياؤهم من الآيات البينات والدلائل الواضحات، فأنظرت

العذاب عن الكافرين وأخرتهم إلى الوقت المعلوم عندي، ثم أخذتهم بالعذاب والعقوبة وأهلكتهم، فانظر كيف كان إنكاري عليهم بتدميرهم ومعاقبتي لهم؟! ويلاحظ أنه لم يقل: وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط، وفرعون وقومه.
وما جرى على المثيل يجري على مثيله، فإني سأفعل بالمكذبين من قومك مثلما فعلت بأمثالهم، وإن أمهلتهم، فإني منجز وعدي فيهم: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج ٨٥/ ١٢] فلا تتعجل العذاب.
ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى، وبين إهلاك الله أربعون سنة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
هذه هي سنة التكذيب، وأما العقاب فهو كما قال تعالى:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ... قَصْرٍ مَشِيدٍ أي كم من قرية أهلكتها، وهي ظالمة أي مكذبة لرسلها، والمراد أهلها، فأصبحت ديارهم ساقطة حيطانها على سقوفها، أي قد قربت منازلها، وتعطلت حواضرها، أو أصبحت خالية من أهلها مع بقاء عروشها على حالها وسلامتها.
وكم من بئر معطلة أي لا يستقى منها، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها، وكم من قصر مشيد دمّر أو بقي بعد فناء أهله؟! والمشيد:
المجصص: المبيض بالجص، أو المرفوع البنيان.
والمعنى الإجمالي للآية: كم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك، لدلالة مُعَطَّلَةٍ عليه؟!

وذلك كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الأنبياء ٢١/ ١١].
ثم لفت أنظارهم إلى ضرورة العبرة بما حدث وشاهدوا فقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها هذا حثّ على السفر، والاتعاظ بالفكر، والتأمل بالبصيرة، أي هلا يسافر هؤلاء في البلاد، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم، وينظروا بأعينهم ما وقع، ويشاهدوا آثارهم، ويفكروا بعقولهم في النتائج، ويسمعوا الأخبار بآذانهم، ليقفوا على الحقائق ويطلعوا على الأسباب، ويدركوا الأسرار، فيعتبروا بما شاهدوا ورأوا، ويقلعوا عما هم فيه من شرك وتكذيب لرسول الله، وينيبوا إلى ربهم الذي خلقهم، وأقام لهم الأدلة والبراهين في الكون على وجوده ووحدانيته.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي ولكنهم لم يفكروا ولم يعتبروا ولم ينظروا، لا لأنهم قوم عمي البصر، وإنما هم عمي البصائر، فليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت أبصارهم سليمة، فإنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم، فلم يتفحصوا حقائق الأمور، ولم ينفذوا إلى العبر.
ذكر الرازي أن الآية تدل على أن العقل هو العلم، وأن محل العلم هو القلب لأن المقصود من قوله: قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها العلم، وقوله:
يَعْقِلُونَ بِها كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل «١». وأضاف العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن.
وبعد أن أبان تعالى ما هم عليه من التكذيب، ذكر أنهم قوم طائشون، حمقى، يستهزئون بحلول العذاب، فقال:

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي يتعجل وقوع العذاب الذي تنذرهم به هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال تعالى: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢] وقال سبحانه:
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص ٣٨/ ١٦].
وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي والعذاب آت حالّ لا بد منه، فإن الله لا يخلف وعده الذي وعدهم به، وهو إقامة الساعة، والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه، وما وعده إياهم ليصيبنهم ولو بعد حين.
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي إن الله تعالى حليم لا يعجل، ومن حلمه واستقصاره المدد الطوال أن يوما واحدا عنده كألف سنة مما تعدون، أي إن يوما من أيام العذاب عند ربك، التي تحل بهم في الآخرة يعادل لشدة عذابه ألف سنة من أيام الدنيا، فأين هم من عذاب ربك؟ وإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجّل وأنظر وأملى.
وهذه الآية كقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة ٣٢/ ٥].
والخلاصة: أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، فاقتضت حكمته الإمهال.
وتأكيدا للإنظار والإمهال، وإن طال الأمد، قال تعالى:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وكثيرا من القرى أملى الله لها، وأخّر عنها العذاب وإهلاكها، مع أنها مستمرة في

ظلمها وهو الكفر والمعصية، فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذتها بأن أنزلت العذاب بها، أي بأهلها، فتأخير العذاب من باب الإمهال، لا الإهمال، كما
جاء في الحديث الصحيح: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن نجاح النبي محمد صلّى الله عليه وسلم في رسالته متوقف أولا على الصبر على أذى قومه، لذا علمه ربه دروس الصبر، فكانت هذه الآيات تسلية له وتعزية، فقد كان قبله أنبياء كذّبوا، ذكر الله سبعة منهم، فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فما عليه إلا أن يقتدي بهم ويصبر.
٢- من حكمته تعالى وحلمه أنه كان يؤخر العقوبة عن أولئك الكفار المكذبين رسلهم، الملحدين الجاحدين ربهم، ثم يعاقبهم، فتكون عقوبتهم عبرة للمعتبر، مدعاة للنظر والتأمل: كيف كان تغييره ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك.
وكذلك يفعل بالمكذبين من قريش إذ ما جرى على النظير يجري على نظيره عقلا وعادة وعدلا.
٣- تدل هذه الآية فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ على أنه سبحانه يفعل بقوم النبي صلّى الله عليه وسلم كل ما فعل بالأقوام الآخرين الغابرين إلا عذاب الاستئصال، فإنه لا يفعله بقوم محمد صلّى الله عليه وسلم، وإن كان قد مكّنهم من قتل أعدائهم وثبّتهم.
قال الحسن البصري: السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين:

أحدهما- أن عند الله حدا من الكفر من بلغه عذّبه، ومن لم يبلغه لم يعذبه.
والثاني- أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن. فأما إذا حصل الشرطان: وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر، ويعلم الله أن أحدا منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء، فيدعون على أممهم، فيستجيب الله دعاءهم، فيعذبهم بعذاب الاستئصال، وهو المراد من قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي من إجابة القوم، وقوله لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وإذا عذبهم فإنه ينجي المؤمنين لقوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي بالعذاب، نجينا هودا «١».
٤- كثير من أهل القرى أهلكهم الله، حال استمرارهم على الظلم وهو الكفر، فتصبح بيوتهم خاوية على عروشها، أي ساقطة أو خالية من أهلها، كما تصبح آبارهم معطلة عن وارديها وسقاتها، وقصورهم المرفوعة البنيان خربة أو خالية من سكانها، فتحل الوحشة محل الأنس، والإقفار بعد العمران.
وفي ذلك موعظة وعبرة وتذكرة، وتحذير من مغبّة المعصية، وسوء عاقبة المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه.
٥- قوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حثّ واضح على الاعتبار بآثار الأمم البائدة التي أهلكها الله بكفرها وظلمها، فإذا اعتبر الناس بذلك كانوا منتفعين بحق بحواسهم وإدراكاتهم وعقولهم، وإن لم يعتبروا كانوا معطلين لتلك الطاقات والنعم، فاستحقوا العقاب.
ومن كان في الدنيا أعمى بقلبه عن الإسلام، فهو في الآخرة في النار.