
تعارض فيها. فلا ينبغي أن يعتقد المسلم أن للنذر تأثيرا في ما يصيبه وما لا يصيبه. ومع ذلك فإذا نذر المسلم أن يؤدي لله عبادة أو يفعل خيرا إذا تحقق له مطلب أو أراد أن يشكر الله على تحقيق مطلب له أو أراد أن يتقرّب إلى الله فهو عهد يجب الوفاء به على أن لا يكون في معصية أو فيه مشقة وعناء وتزمّت وغرابة.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
. (١) حرمات الله: قيل إنها ما حرّم الله هتكه ونقضه بصورة عامة. وقيل إنها المحرّمات المتصلة بتقاليد الحجّ وهي: المسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والصيد في الحرم، والأشهر الحرم، والهدي الذي يهديه الحجّاج من الأنعام قربانا لله. وكلا القولين وجيه. ونحن نرجّح القول الأول لأننا نراه يتسق أكثر مع روح الآيات.
في هاتين الآيتين:
١- تعقيب على الآيات السابقة: ففي ذلك الكلام السابق بيان كاف عن حرمات الله ووجوب تعظيمها والوقوف عندها. ومن يفعل ذلك فإنه يضمن لنفسه الخير عند ربه.
٢- واستدراك وجه الخطاب فيه للمؤمنين بخاصة، بأن الله قد أحلّ لهم أكل الأنعام باستثناء ما نهوا عنه من ذلك في القرآن.
٣- وتحذير وأمر للمؤمنين بخاصة باجتناب الأوثان الرجسة واجتناب قول الزور والإفك، وبأن يكون اتجاههم إلى الله وحده غير مشركين به شيئا، فإن مثل

من يشرك به كمثل من تردّى من علوّ شاهق حيث يتحطّم وتتمزق أشلاؤه فتتخاطفها الطيور أو تطوّح به الريح إلى المهاوي السحيقة.
والآيتان متصلتان كما هو واضح بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وما قلناه من احتمال كون الآيات السابقة لهما مكية أو مدنية ينسحب عليهما أيضا لأنها سلسلة واحدة.
والمتبادر أن تعبير إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني إلّا ما ذكر تحريمه من قبل في القرآن. وقد ذكر في سورتي الأنعام والنحل تحريم أكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها والميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح.
وقد قال المفسرون «١» في صدد تعبير قَوْلَ الزُّورِ إن المشركين كانوا يقولون هذه الصيغة في تلبيتهم بالحجّ (لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك)، وأن التحذير متّصل بذلك. وورود التعبير في سياق النهي عن الشرك والأوثان وذكر تقاليد الحجّ قد يدلّ على أنه في صدد التحذير من شيء مثل هذا إن لم يكن هو نفسه. ولا سيما أن الصيغة متّسقة مع ما حكاه القرآن عن عقيدتهم بالله واعتبارهم الشركاء وبتعبير آخر اعتبارهم شركاءهم ملكا لله وخاضعين له. ولقد صارت التلبية التي كانت شركية قبل الإسلام التي ذكرناها قبل في الإسلام خالصة لله عزّ وجلّ (لبّيك اللهم لبّيك. لبّيك لا شريك لك لبّيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
تعليق على الأمر باجتناب قول الزور
على أن بعض المفسرين «٢» أخذوا الأمر باجتناب قول الزور على عموميته، ونبّهوا على عظم الإثم الذي ينطوي في قول الزور، وشهادة الزور، وأوردوا في صدد ذلك وفي سياق هذه الآية أحاديث نبوية منها حديث قال راويه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام خطيبا فقال: «أيّها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك مرتين ثم قرأ
(٢) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. ومنها حديث ورد في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا:
بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال:
ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت» «١».
وبعض الذين نقلوا هذا من المفسرين من قال إن جملة قَوْلَ الزُّورِ هي صيغة تلبية المشركين المذكورة آنفا.
ومهما يكن من أمر فإن الإطلاق في عبارة الأمر يجعل عمومية الأمر باجتناب قول الزور وجيهة، حتى ولو صحّ أن الجملة من الوجهة الزمنية ومقام ورودها قد عنت تلك الصيغة، ويوجب على المسلم أن يتجنب الزور وقول الزور وشهادة الزور في كل ظرف ومكان لما في ذلك من عظيم البغي والضرر والشرّ، حتى استحقّ وصف الرسول الأعظم له بأنه من أكبر الكبائر وبأنه يعدل الشرك.
استدلال على ممارسة المسلمين الحجّ قبل فتح مكة
والمتبادر من الأمر باجتناب الأوثان في هذا المقام أنه يقصد اجتناب الأوثان التي كانت في فناء الكعبة والصفا والمروة، والتي كان المشركون يقومون بطقوسهم ويقرّبون قرابينهم عندها على ما تواترت فيه الروايات «٢». وإذا صح ذلك فإن الآيات تلهم أنه كان يتسنى لبعض المسلمين أن يمارسوا مناسك الحج، فاقتضت حكمة التنزيل تنبيههم إلى وجوب اجتناب الأوثان في أثناء ذلك، وجعل حجّهم خالصا لله مجردا من شوائب الشرك ومظاهره مطلقا. وإذا صحّ احتمال كون الآيات مدنية فمعنى ذلك أن بعض المسلمين كانوا يفدون إلى مكة ويتسنى لهم دخولها في أثناء موسم الحجّ.
انظر ج ٣ ص ١١١.
(٢) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٥ ص ٧٥ وما بعدها.