آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

ولمّا كانت ليست بآلهة ولا تستحق العبادة يقول الله تعالى «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» ٩٩ العابدون والمعبودون «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» هو خروج النفس بشدة حتى يظهر له صوت عال من ألم العذاب «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» ١٠٠ شيئا مما يقال لهم لانشغالهم بأنفسهم.
مطلب إخساء عبد الله بن الزبعرى وجماعته، ومن كان كافرا في أصل الخلقة:
ولما نزلت هذه الآيات الثلاث دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد وصناديد قريش في الخطيم، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فعرض له النفر من قريش منهم النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه هذه الآيات الثلاث، وقام فأقبل عبد الله الزبعرى السهمي، فأخبره الوليد بن المغيرة بما قاله حضرة الرسول، فقال ابن الزبعرى أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون الآيات؟ قال نعم، قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة، أهؤلاء في النار؟
قالوا فضحكت قريش وارتفعت أصواتهم وفرحوا على زعمهم أنه حجّ محمدا، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، قال تعالى في حق عيسى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية ١١٧ من المائدة في ج ٣، وقال بحق الملائكة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) الآية ٤١ من سورة سبأ المارة، وقال تعالى في حق عزير (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية ٢٥٩ من البقرة في ج ٣، بعد أن ضرب الله به المثل، ثم التفت صلّى الله عليه وسلم إلى ابن الزبعرى وقال بل هم يعبدون الشيطان لا هؤلاء، ثم قال له ما أجهلك بلغة قومك، وذلك أن ما وضعت لما لا يعقل، فيكون ما ذكر غير داخل في الآية، لأنها لم تأت بلفظ من الموضوعة لمن يعقل ليصح الاحتجاج بها، لأنها جاءت لحمل الآية على حقيقتها ورفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب كما قاله بعض المفسرين، وبما أن ما صريحة هنا بأنها لغير العقلاء فلم يتجه خلط ابن الزبعرى، وهذا بعد أن قال له ذلك حضرة الرسول نكس رأسه، وخسىء هو ومن معه، وتفقئوا خجلا وحياء بعضهم من بعض،
ثم أنزل الله بعدها «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» كعيسى وعزير

صفحة رقم 333

وإخوانهم من الأنبياء والملائكة وأصنافهم وكل صالح محسن مطيع من المؤمنين ممن سبقت لهم السعادة «أُولئِكَ» الأفاضل الأكارم «عَنْها» أي جهنم «مُبْعَدُونَ» ١٩١ لا يردونها ورود دخول أبدا. وهذه الآية عامة يدخل فيها كل من قدر الله له دخول الجنة وهؤلاء المحسنون «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» صوت لهيبها «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ» من نعيم الجنة وكرامة ربهم «خالِدُونَ» ١٠٢ في جنة ربهم المقدرة لهم «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» في هول الموقف ودخول النار «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» على أبواب الجنة يحيونهم ويقولون لهم «هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» ١٠٣ في الدنيا، وما قيل إنه بعد ذلك ذهب أبو جهل وجماعة من قريش إلى أبي طالب وكلفوه منع ابن أخيه من التعرض لآلنهتهم على الصورة المارة في الآية ١٠٧ من سورة الأنعام المارة، وعلى الصورة التي ذكرناها في الآية ٢٦ من السورة نفسها لا يصح، لأن أبا طالب توفي قبل هاتين الحادثتين بكثير كما أشرنا إليه في الآيتين المذكورتين، وأن هذه متأخرة عن وفاة أبي طالب، لذلك فإنه قيل لا قائل له، واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» مثل طي الصحف والطي ضد النشر وهو تكويرها ولفها ومحو رسومها بعد أن كانت مبسوطة منشورة بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم، لأن طي الشيء كناية عن نسيانه وإعدامه وعدم تذكره بالمرة. وقال بعض المفسرين إن السجل اسم ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان دفع كتابه إليه فطواه ورفعه، والأول أولى، لأن السجل هو مجموع الصحائف التي تسجل فيها الأعمال، ومنه أخذ أهل الدنيا تسميتهم ما يدون به وقائع الأحوال الدنيوية سجلا في المحاكم وغيرها «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» بعد الموت مثل ما خلقناه أولا على هيئته، وقد وعدنا الرسل بذلك «وَعْداً» حقا ثابتا لا يبدل ولا يغير وهو لازم «عَلَيْنا» بأن من خلقناه في الأزل كافرا نعيده بعد الموت كافرا، ومن خلقناه مؤمنا نعيده يوم الحشر مؤمنا، وهذا واجب علينا إنجازه على طريق الوفاء بالوعد «إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» ١٠٤ لما نعد به لا نخلفه البتة، وهذه الآية والآية ٣٠ من سورة الأعراف في ج ١ تؤيدان ما مشينا

صفحة رقم 334

عليه من تفسيرهما بأن الذي خلق يوم خلق الذر كافرا يموت كافرا ويحشر كافرا ولو عمل ما عمل من الخير كإبليس، والذي خلق مؤمنا يموت ويحشر مؤمنا، ولو فعل ما فعل من الشر، كسحرة فرعون، والحديث الصحيح الذي ذكرناه في الآية ٨٤ من سورة الإسراء في ج ١، يؤيد هذا بزيادة فيما يبدو للناس، كما هو في صحيح البخاري، وعليه فلا عبرة فيما يقع للعبد في متوسط عمره من أفعال الخير والشر، وإنما العبرة بالخاتمة نسأل الله حسنها. قال تعالى «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ» المنزل على داود عليه السلام «مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة لنزوله بعدها، وقيل الذكر اللوح أو أم الكتاب أو غير ذلك، والأول أولى «أَنَّ الْأَرْضَ» أل فيها للعهد والمعهود من أرض الدنيا الأرض المقدسة «يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ١٠٥ لعمارتها وحفظها بإعلاء شأن دين الله وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية ٥٦ من سورة النور في ج ٣، وهناك أقوال أخر بأن المراد بالصالحين الصالحون بعمارتها الدنيوية، وعليه فيراد بالأرض الأرض كلها قال تعالى (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الآية ١٢٧ من سورة الأعراف في ج ١ ولفظ العباد لا يختص بالمؤمنين وأقوال أخر بأنها أرض الجنة، قال تعالى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) الآية ٧٤ من سورة الزمر المارة وأولاها أوسطها والله أعلم، وقد جاء في الزبور الموجود الآن عند النصارى وغيرهم في المزمور ٣٧ والآية ٢ ما نصه: اسكن الأرض وارع الأمانة. وفي الآية ١١ أما الورعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة. وفي الآية ٢٤ لأن المباركين يرثون الأرض، والملعونين يقطعون. وفي الآية ٢٧ صدّ عن الشر وافعل الخير واسكن إلى الأبد. وفي الآية ٢٩ الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد. وفي الآية ٣٤ انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض إلى انقراض الأشرار.
هذا أيها الناس كتابنا ينطق بالحق عما في كتب الأنبياء السالفين، مصدقا لما جاء فيه كما أخبرنا الله على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فاعتبروا رحمكم الله في هذه العبرة العظيمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد «إِنَّ

صفحة رقم 335

فِي هذا»
المتلو عليكم أيها الناس، «لَبَلاغاً» اخطارا كافيا وانذارا شافيا ووعظا وافيا، «لِقَوْمٍ عابِدِينَ» ١٠٦ الله وحده مخلصين له العمل الموصل إلى البغية والمؤدي إلى المطلوب ولا بعد هذا البلاغ والبلاغ المار ذكره آخر سورة إبراهيم المارة بلاغ لمن يعتبر ويتذكر «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ١٠٧ اجمع، لأن هذه الآية عامة لمن آمن به واتبعه ومن لم يؤمن به لأنه أتى من عند نفسه فضيّع نصيبه من هذه الرحمة، وإنما كان إرساله صلّى الله عليه وسلم رحمة لأنه حينما بعث كان الناس في كفر وجهالة، وكان أهل الكتاب في حيرة لما وقع من الاختلاف بينهم في أمر دينهم وكتبهم، ولم يكن لطالب الحق من سبيل، فدعاهم صلّى الله عليه وسلم كلهم إلى الهدى وبين لهم طريق الصواب وشرع لهم الأحكام، ووضح لهم الحلال من الحرام، وأظهر حقائق ما اختلفوا فيه، ورفع الله عن العباد المسخ والخسف وعذاب الاستئصال الذي كان يقع على الأمم السابقة، ببركته صلّى الله عليه وسلم القائل إنما بعثت رحمة مهداة، ففاز من فاز برشده، وخسر من خاب بغيّه، لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إلى الخلق كافة إنهم وجنّهم وملائكتهم، بنص هذه الآية والآية ٢٨ من سورة سبأ المارة والآية ١٥٨ من سورة الأعراف في ج ١، لدخولهم في عموم لفظيّ الناس والعالمين وهو كذلك أما كونه رحمة للأنس والجن فظاهرا لأنه هداهم إلى الحق وأنفذهم من الكفر وشرفهم بالإيمان وسبب لهم دخول الجنان، وأما الملائكة فرحمة لهم لأنهم وقفوا بواسطته على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع الله في كتابه الذي فيه ما كان وسيكون عبارة وإشارة، وأي سعادة أفضل من التحلي بمزية العلم وقد أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهره وأمنهم مما ابتلى به هاروت وماروت، وأيد هذا صاحب الشفاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إلى السيد جبريل عليه السلام هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن. وقال ابن القيم في كتابه مفتاح السعادة لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معشية ولا قوام لمملكة، ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم من آثار النبوة، وكل شر وقع في العالم أو سيقع بسبب

صفحة رقم 336

إخفاء آثار النبوة ودرسها، فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه. ولهذا فإذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها، فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة، وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلّى الله عليه وسلم أكمل النبيين، وما جاء به أجمل مما جاءوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف. ووجه كونه صلّى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين أجمع أسودهم وأحمرهم عربهم وعجمهم هو أنه أكرمهم على الله، وأحبهم إليه، وأنفعهم لعباده وأتقاهم، وأرضاهم إليه، وأسخاهم فيما لديه، وأوفرهم نصيبا عنده وأكثرهم مروءة بخلقه وغيرة على دينه وكونه خاتم الرسل. وما قبل إن العالمين خاص بالمؤمنين غير وجيه لعدم وجود ما يخصصه بهم، بل إنه عام مطلق، وقد بعث صلّى الله عليه وسلم رحمة لكل فرد من أفراده إنسهم وجنهم وملائكهم، إلا أن الرحمة متفاوتة فتكون لكل بحسبه بمقتضى أعماله، كما أن العذاب والعقاب يكون كذلك. هذا وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أدع على المشركين، قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة. قال تعالى «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إنما أداة حصر، والحصر قصر الحكم على شيء، أو قصر
الشيء على حكم، وعليه يكون المعنى أن الإله إله واحد لا غير البتة، وهو الذي أوحى إلي ما تلوته عليكم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ١٠٨ منقادون إلى توحيد الله.
وهذا استفهام بمعنى الأمر، مثله في قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الآية ٩١ من المائدة في ج ٣ أي هلا تنتهون عن شرب الخمر واللعب بالميسر وكل ما نهى الله عنه؟
والمعنى هنا هلا أسلمتم بعد ما أوضحنا إليكم الدلائل، فأسلموا تسلموا خير لكم، ولهذا يقول الله «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا محمد ولم يذعنوا لك «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ» أعلمتكم وأنذرتكم أيها الناس ما أمرني به ربي. وكلمة آذن تتضمن الإنذار والتحذير من الحرب، ولا سيما قد تقدمه الإنذاران المشار إليهما آنفا، وهذه كلها من مقدمات الهجرة التي آن أوانها والتي ستكون سببا للحروب معهم وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى «عَلى سَواءٍ» أي لم أخص أحدا منكم بذلك الإعلام المسبوق

صفحة رقم 337
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية