ويظل المنع من رجوعهم إلى فتح سد يأجوج ومأجوج، وهم الناس جميعا، أو هم يأجوج ومأجوج، وهو الأظهر في رأي القرطبي، وإلى خروج الناس من قبورهم مقبلين من كل حدب (مرتفع من الأرض)، وذلك يحصل عند قيام الساعة (القيامة) وهذا دليل على إثبات النشر والحشر.
ثم أثبت الله تعالى البعث والجزاء بقوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وما يتعرض له الكفار من أهوال وشدائد تشخص منها أبصارهم، أي ترتفع من هول القيامة لا تكاد تطرف، ويقولون: يا ويلنا ويا هلاكنا إنا كنا ظالمين بمعصيتنا، ووضعنا العبادة في غير موضعها.
أحوال الكافرين والمؤمنين في الآخرة وحال السماء فيها
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٨ الى ١٠٦]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
الإعراب:
كَطَيِّ السِّجِلِّ الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف، أي نطوي السماء طيّا كطي السجل، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه، والمصدر مضاف إلى المفعول إذا كان بمعنى المكتوب فيه وهو الصحيفة، أي كما يطوى السجل. وللكتاب: أي للكتابة، كقوله تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران ٣/ ٤٨].
وَعْداً عَلَيْنا منصوب بوعدنا المقدر قبله، وهو مؤكد لمضمون ما قبله.
البلاغة:
نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ فيه تشبيه مرسل مفصل، أي نطوي السماء طيا مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها.
المفردات اللغوية:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إنكم أيها الكفار والمشركون وما تعبدونه من الأوثان من غير الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ما يرمى به إليها من حطب ووقود. وارِدُونَ داخلون فيها.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً لو كان هؤلاء الأوثان آلهة كما زعمتم. ما وَرَدُوها دخلوها لأن المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها. وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ كل من العابدين والمعبودين خالدون دائمون في جهنم.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي للعابدين في جهنم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف.
لا يَسْمَعُونَ شيئا لشدة غليانها. الْحُسْنى المنزلة الحسنى أو الكلمة الحسنى التي تبشر بثوابهم الحسن على أعمالهم. حَسِيسَها صوتها الذي يحس من حركتها. وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من النعيم. خالِدُونَ دائمون في غاية التنعم، وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ النفخة الثانية أو الأخيرة لقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل ٢٧/ ٨٧] وقيل: هو الانصراف إلى النار وهو أن يؤمر بالعبد إلى النار، وقيل: حين يطبق على النار، أو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تستقبلهم الملائكة مهنئين عند خروجهم من القبور. هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي ويقولون لهم: هذا اليوم الذي كنتم توعدون به في الدنيا.
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ أي اذكر يوم الطي: وهو ضد النشر. السِّجِلِّ الصحيفة المكتوب فيها. لِلْكُتُبِ للكتابة فيها. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ أي من عدم. نُعِيدُهُ بعد إعدامه. وَعْداً منصوب ب نُعِيدُهُ، أو بفعل مقدر تأكيدا ل نُعِيدُهُ أي وعدناه وعدا. عَلَيْنا أي علينا إنجازه. إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ما وعدنا ذلك لا محالة.
الزَّبُورِ كتاب داود. الذِّكْرِ أي التوراة، أو جنس الكتب المنزلة، أو اللوح المحفوظ. أَنَّ الْأَرْضَ أرض الجنة. عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أي عامة المؤمنين أو كل صالح.
إِنَّ فِي هذا القرآن أو ما ذكرناه من الأخبار والمواعظ والمواعيد. لَبَلاغاً كفاية في دخول الجنة. لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي همهم العبادة دون العادة.
سبب النزول: نزول الآية (١٠١) :
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى: أخرج الحاكم عن ابن عباس قال:
لما نزلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قال ابن الزّبعرى: عبد الشمس والقمر والملائكة وعزير، فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ونزلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف ٤٣/ ٥٧- ٥٨].
المناسبة:
بعد بيان أحوال أهل النار وأهل الجنة، واقتراب الساعة، ذكر الله تعالى حال العابدين والمعبودين من دون الله، وأنهم سيكونون وقود جهنم، باستثناء أهل السعادة أو البشرى بالثواب.
التفسير والبيان:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ.. إنكم أيها المشركون بالله من عبدة الأصنام والأوثان وما تعبدون من غير الله، وقود جهنم، أنتم جميعا داخلون فيها، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة ٢/ ٢٤].
ويشمل ما يعبدون من دون الله الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم
لهم، واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ولا تشمل هذه الآية عزيرا والمسيح والملائكة لأن قوله: إِنَّكُمْ خطاب مشافهة مع مشركي قريش، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط، ولأنه تعالى لم يقل: (ومن تعبدون) بل قال: وَما تَعْبُدُونَ وكلمة ما لا تتناول العقلاء، فسقط سؤال ابن الزبعرى، كما أبان الرازي «١». وأما قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس ٩١/ ٥] وقوله:
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون ١٠٩/ ٢] فهو محمول على الشيء، ونظيره هاهنا أن يقال: إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم، فلا يرد سؤال ابن الزبعرى.
ويتضح سبب النزول المتقدم ودخول الشياطين في المعبودين بما يأتي:
روى محمد بن إسحاق في سيرته: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد، وصناديد قريش في الحطيم «٢»، وحول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فأقبل عبد الله بن الزّبعرى، فرآهم يتهامسون، فقال فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله، فقال عبد الله: أما والله، لو وجدته لخصمته، فدعوه، فقال ابن الزّبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك وربّ الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، يعني عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام.
(٢) الحطيم: جدار حجر الكعبة أي حجر إسماعيل من ناحية الشمال.
وأما سبب إدخال المعبودين في النار: فهو كما أبان الزمخشري «١» ليزداد العابدون بهم غمّا وحسرة، وليكونوا أبغض شيء لديهم بعد أن اتخذوهم في الدنيا شفعاء لهم في الآخرة.
ثم ذكر تعالى دليل كون المعبودين غير آلهة فقال:
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها أي لو كان هؤلاء الأصنام وأشباههم آلهة صحيحة تنفع وتضر كما يظن العابدون ما دخلوا النار، إذ لو كانت تنفع وتضر لأبعدت الضر عن نفسها، فهي جديرة بالهجرة والإهانة.
وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أي وكل من هؤلاء الآلهة المعبودين دائمون في عذاب النار، لا مخرج لهم منها.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي ولهم في النار من شدة العذاب وشدة الكرب والغم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف، كما قال تعالى:
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود ١٠/ ١٠٦] وهم لا يسمعون فيها ما يسرهم أو ينفعهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية.
وبعد بيان أحوال أهل النار، ذكر الله تعالى أحوال السعداء من المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أي إن الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، فهم مبعدون عن دخول النار، وهم في الجملة: أهل السعادة أو البشرى بالثواب، أو التوفيق للطاعة، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس ١٠/ ٢٦].
يروى أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية، ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر،
وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة، فقام يجرّ رداءه، وهو يقول: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها.
وأوضاع نعيمهم هي:
١- لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي لا يسمعون صوت النار، وحريقها في الأجساد، ولا يصيبهم شررها.
٢- وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ أي وهم ماكثون أبدا فيما يشتهونه من نعيم الجنة ولذائذها. والشهوة: طلب النفس اللذة.
٣- لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ لا يخيفهم هول النفخة الثانية أو الأخيرة بعد قيامهم من قبورهم للحساب، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل ٢٧/ ٨٧]. وقيل بغير ذلك كما تقدم في بيان المفردات. والأصح: أنه أهوال يوم القيامة والبعث.
٤- وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي وتستقبلهم الملائكة تقول لهم وتبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: هذا يومكم الذي وعدتم به في الدنيا، يوم المسرة والكرامة والمثوبة والحسنى.
وذلك التلقي والاستقبال هو كما قال تعالى:
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء، أو تتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء يوم القيامة كما يطوى السجل، أي الصحيفة للكتابة فيه، وهذا موقف آخر فيه روع وخوف وحيرة، كما قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر ٣٩/ ٦٧].
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي أن هذا الطي
كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق بالبعث خلقا جديدا، كما بدأهم في المرة الأولى، وهو القادر على إعادتهم، وذلك وعد الله الذي لا يخلف، والله تعالى فاعله حتما، فهو واجب الوقوع، ولا بدّ من تحققه لأنه قادر عليه. وقوله:
إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل ذلك.
ونظير الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام ٦/ ٩٤]، وقوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
[الكهف ١٨/ ٤٨].
ثم أخبر الله تعالى عما قضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، فقال:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ.. أي ولقد قضينا قضاء محتما في كتاب الزبور بعد التوراة أو القرآن أن وراثة الأرض في الدنيا والآخرة لا تكون إلا للعباد الصالحين وهم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى.
والذّكر: التوراة، وقال ابن عباس: القرآن، وقيل: إنه أم الكتاب يعني اللوح المحفوظ، فهو اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب.
والأرض: إما أرض الجنة، كما قال تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٤]. وإما أرض الدنيا، وأهلها الصالحون لعمارتها، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥]، وقال سبحانه: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف ٧/ ١٢٨]. وإما الأرض المقدسة يرثها الصالحون، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف ٧/ ١٣٧].
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي إن في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة البلاغ أي الكفاية والمنفعة لقوم عابدين: وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبّه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن المشركين بالله والآلهة التي عبدوها من دون الله من الأصنام والأوثان والشياطين وقود جهنم، هم جميعا داخلون فيها، إظهارا لعدم فائدة عبادتها، وزيادة لعابديها في الغم والحسرة، وإيجاد الكراهية الشديدة لها، وإمعانا في السخرية منهم ومن عبادتهم، وإقامة الحجة القاطعة على قدرة الله الشاملة لكل شيء.
وقد استدل الأصوليون بقوله تعالى: وَما تَعْبُدُونَ على القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة بدليل الاستثناء منها.
٢- الدليل على إبطال صفة الألوهية لتلك الآلهة المزعومة أنه لو كانت الأصنام وأمثالها آلهة لما ورد عابدوها النار، ولما خلدوا هم والمعبودون فيها.
٣- أحوال المعذبين النفسية في النار غريبة وشديدة، فلهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين زفير: وهو صوت المغموم الذي يخرج من القلب، ولا يسمعون ما يسرهم، بل ما يسوؤهم من أصوات الزبانية الذين يتولون تعذيبهم.
٤- إن أهل السعادة والتوفيق للطاعة والبشرى بالثواب مبعدون عن دخول النار.
وأحوالهم سارة، فهم لا يسمعون حسّ النار وحركة لهبها وحريقها الأجساد، ويتمتعون بنحو دائم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، كما قال تعالى:
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
[فصلت ٤١/ ٣١].
ولا يحزنهم الفزع الأكبر الذي يصيب غيرهم وهو أهوال يوم القيامة والبعث، وتستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فما أجمل هذا الاستقبال والترحاب الحار الصادق، وما أحسنه اطمئنانا وإسعادا للنفس!! ٥- الثابت في هذه الآية: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وغيرها على أن السموات والأرض تتبدل يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم ١٤/ ٤٨].
٦- والثابت أيضا أن الله تعالى سيحشر الناس من قبورهم ويعيدهم خلقا جديدا أحياء، كما خلقهم في المرة الأولى يوم بدئوا بالخلق في البطون.
روى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا- غير مختونين- أوّل الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ثم قرأ:
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ».
وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام».
٧- المقرر في جميع الكتب السماوية المنزلة أن أرض الجنة في الآخرة، وكذا الأرض في الدنيا- كما يفهم من إطلاق الآية- يرثها عباد الله الصالحون.
والصالحون للآخرة هم المؤمنون العاملون بطاعة الله، والصالحون للدنيا: من يصلح لعمارتها والقيام بحقها.