
وَأَطِيعُوا أَمْرِي في ما ذكرته لكم وقرأت فرقة «إنما وإن ربكم الرحمن» بكسر الهمزتين، وقرأت فرقة «إنما» بالكسر «وأن» بالفتح، والقراءة الوسطى ضعيفة فقال بنوا إسرائيل حين وعظهم هارون وندبهم إلى الحق لَنْ نَبْرَحَ عابدين لهذا الإله، عاكِفِينَ عليه أي لازمين له والعكوف الانحناء على الشيء من شدة ملازمته ومنه قول الراجز: [الرجز] عكف النبيط يلعبون الفنزجا قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٢ الى ٩٤]
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
في سرد القصص اقتضاب يدل عليه ما ذكره تقديره فرجع موسى فوجد الأمر كما ذكره الله تعالى له فجعل يؤنب هارون بهذه المقالة، وقرأ الجمهور «تتبعن» بحذف الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بإثباتها في الوصل ويقف ابن كثير بالياء وأبو عمرو بغير ياء، ويحتمل قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي بني إسرائيل نحو جبل الطور فيجيء اعتذار هارون أي لو فعلت ذلك مشت معي طائفة وأقامت طائفة على عبادة العجل فيتفرق الجمع فخفت لومك على التفرق، ويحتمل قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي لا تسير بسيري وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد ويجيء اعتذار هارون بمعنى أن الأمر كان متفاقما فلو تقويت عليه وقع القتال واختلاف الكلمة فكان تفريقا بين بني إسرائيل وإنما لا ينت جهدي. وقوله تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ بمعنى ما منعك أن تتبعني، واختلف الناس في وجه دخول «لا» فقالت فرقة هي زائدة، وذهب حذاق النحاة إلى أنها مؤكدة وأن في الكلام فعلا مقدرا كأنه قال ما منعك ذلك أو حضك أو نحو هذا على «أن لا تتبعن»، وما قبل وما بعد يدل على هذا ويقتضيه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «يبنؤم» يحتمل أن يريد يا بن أما فحذف الألف تخفيفا ويحتمل أن يجعل الاسمين اسما واحدا وبناه كخمسة عشر، وقرأ ابن كثير عن عاصم وحمزة والكسائي «يا بن أم» بالكسر على حذف الياء تخفيفا وهو شاذ لأنها ليست كالياء في قولك يا غلامي وإنما هي كالياء في قولك يا غلام غلامي وهذه ياء لا تحذف، ويحتمل أن يجعل الاسمين اسما واحدا ثم أضاف إلى نفسه فحذف الياء كما تحذف من الأسماء المفردة إذا أضيفت نحو يا غلام، وقالت فرقة لم يكن هارون أخا موسى إلا من أمه ع وهذا ضعيف، وقالت فرقة كان شقيقه وإنما دعاه بالأم لأن التداعي بالأم أشفق وأشد استرحاما، وأخذ موسى عليه السلام بلحية هارون غضبا وكان حديد الخلق عليه السلام.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٥ الى ٩٧]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)

المعنى قال موسى مخاطبا للسامري فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ، وقوله «ما خطبك» كما تقول ما شأنك وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك، و «السامري» قيل هو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل، وقيل هو منسوب إلى قرية يقال لها سامرة ع وهي معروفة اليوم ببلاد مصر، وقيل اسمه موسى بن ظفر.
وقرأت فرقة «بصرت» بضم الصاد على معنى صارت بصيرتي بصورة ما فهو كطرفت وشرفت، وقرأت فرقة «بصرت» بكسر الصاد، فيحتمل أن يراد من البصيرة ويحتمل أن يراد من البصر وذلك أن في أمر السامري ما زاده على الناس بالبصر وهو وجه جبريل عليه السلام وفرسه وبالبصيرة وهو ما علمه من أن القبضة إذا نبذها مع الحلي جاءه من ذلك ما يريد، وقرأ الجمهور «يبصروا» بالياء يريد بني إسرائيل، وقرأ حمزة والكسائي «تبصروا» بالتاء من فوق يريد موسى مع بني إسرائيل، وقرأ الجمهور «فقبضت قبضة» بالضاد منقوطة بمعنى أخذت بكفي مع الأصابع، وقرأ ابن مسعود وابن الزبير وأبي بن كعب وغيرهم «فقبصت قبصة» بالصاد غير منقوطة بمعنى أخذت بأصابعي فقط، وقرأ الحسن بخلاف عنه «قبضة» بضم القاف. و «الرسول» جبريل عليه السلام، و «الأثر» هو تراب تحت حافر فرسه، وسبب معرفة السامري بجبريل وميزه له فيما روي أن السامري ولدته أمه عام الذبح فطرحته في مغارة فكان جبريل عليه السلام يغذوه ويحميه حتى كبر وشب فميزه بذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف. وقوله فَنَبَذْتُها أي على الحلي فكان منها ما تراه وهذا محذوف من اللفظ تقتضيه الحال والمخاطبة، ثم قال وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي وكما حدث ووقع قويت لي نفسي وجعلته لي سولا وإربا حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ونحو هذا، وعلمه مع ذلك وجعل له أن يقول مدة حياته لا مِساسَ أي لا مماسة ولا إذاية. وقرأ الجمهور «لا مساس» بكسر الميم وفتح السين على النصب بالتبرئة وهو اسم يتصرف ومنه قول النابغة: [المتقارب]
فأصبح من ذاك كالسامري، | إذ قال موسى له لا مساسا |

وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر، ومساس وفجار عدلت عن المصدر ومن هذا قول الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله: [الطويل] ألا لا يريد السامري مساس وقرأ الجمهور «تخلفه» بفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لن تخلفه» بكسر اللام على معنى لن تستيطع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف «لن نخلفه» بالنون، قال أبو الفتح المعنى لن نصادفه مخلفا ع وكلها بمعنى الوعيد والتهديد. ثم وبخه عليه السلام بقوله: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي أي انظر صنيعك وتغيرنا له وردنا الأمر فيه إلى الواجب. وقرأت فرقة «ظلت» بفتح الظاء على حذف اللام الواحدة، وقرأت فرقة «ظلت» بكسر الظاء على نقل حركة اللام إلى الظاء ثم حذفها بعد ذلك نحو قول الشاعر: [أبو زبيد الطائي] [الوافر]
خيلا ان العتاق من المطايا | أحسن به فهن إليه شوس |
وعاكِفاً معناه ملازما حدبا. وقرأت فرقة «لنحرقنه» بتخفيف الراء بمعنى بالنار، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس «لنحرقّنه» بضم الراء وفتح النون بمعنى لنبردنه بالمبرد، وقرأ نافع وغيره «لنحرّقنه» بضم النون وكسر الراء وشدها وهذا تضعيف مبالغة لا تعدية وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار وتحتمل بالمبرد، وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه»، وهذه القراءة مع رواية من روى أن العجل صار لحما ودما، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار وإلا فإذا كان جمادا من ذهب فإنما هو حرق بمبرد اللهم إلا أن تكون إذابة ويكون النسف مستعارا لتفريقه في اليم مذابا.
وقرأت فرقة «لننسفنه» بكسر السين، وقرأت فرقة «لننسفنه» بضم السين. و «النسف» تفريق الريح الغبار وكل ما هو مثله كتفريق الغربال ونحوه فهو نسف. والْيَمِّ غمر الماء من بحر وغيره وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يم، ونَسْفاً تأكيد بالمصدر، واللام في قوله: لَنُحَرِّقَنَّهُ لام القسم، وفي هذه الآية من القصص أن موسى عليه السلام برد العجل حتى رجع كالغبار ثم ذراه في البحر ثم أمر بني إسرائيل أن يشرب جميعهم من الماء فكلما شرب من كان في قلبه حب العجل خرج على شاربه من الذهب فضيحة له، وقال مكي رحمه الله وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك فكلمه موسى عنهم وجاء بهم حتى سمع لفظ بني إسرائيل حول العجل فحينئذ أعلمهم موسى ع وهذه رواية، الجمهور على خلافها وإنما تعجل موسى عليه السلام وحده فوقع أمر العجل ثم جاءه موسى وصنع ما صنع بالعجل ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجاة فكان لموسى عليه السلام نهضتان والله أعلم.
قوله عز وجل: صفحة رقم 62