
وإما أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها (١).
٢٨٥ - قوله تعالى ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآية. قد ذكرنا في بعض الروايات عن ابن عباس: أنه لما نزل قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ شق ذلك على أصحاب رسول الله - ﷺ - وقالوا: سمعنا وأطعنا. فقيل على هذا القول: إن الله تعالى لما قالوا ذلك أنزل الله هذه الآية وأثنى عليهم (٢).
وقال أبو إسحاق: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرضَ الصلاة والزكاة والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد وأقاصيص الأنبياء وما ذكر من الأحكام ختم السورة بذكر تصديق (٣) نبيه - ﷺ - والمؤمنين بجميع ذلك (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَكُتُبِهِ﴾ فيه قراءتان: التوحيد والجمع (٥)، والكُتُب: جمع كتاب، وهو مصدر كتَب، فنقل وسُمي به، فصار يجري مجرى الأعيان وما لا معنى فِعْلٍ فيه، وعلى ذلك كُسّر، فقيل: كُتب، كما قالوا: إِزَارٌ وأُزُر، ولِجَامٌ ولُجُم، فمن قرأ بالجمع؛ فلأن ما قبله وما بعده بالجمع، فَجَمَعَ الكتبَ أيضًا ليكون مُشاكلًا لما قبله وما بعده، وأما من أفرد؛ فيجوز أن يريد الجنس، كقولهم: كَثُر الدرهم في أيدي الناس والدينار، وكقوله: أهلك الناسَ اللبنُ، ونحو ذلك مما (٦) يفرد، والمراد منه الجمع.
(٢) ينظر: "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٨٥٨.
(٣) سقطت من (أ) و (م).
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٣٦٨.
(٥) قرأ حمزة والكسائي (وكتابه) على الإفراد، وقرأ الباقون (وكتبه) بالجمع. ينظر: "السبعة" ص ١٩٥ - ١٩٦، "الحجة" ٢/ ٤٥٥.
(٦) في (م) (فيما).

ويدل على هذا قوله: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٢١٣] فإن قيل: إن هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة تكون مفردةً معرَّفَةً باللام وهذه مضافة، قيل: قد جاء المضاف من الأسماء ويعني به الكثرة، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤] وفي الحديث: "منعت العراق درهمها وقفيزها" (١) يراد به الكثرة كما يراد بما فيه لام التعريف وقال الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ [البقرة: ١٨٧] وهذا الإحلال شائع في جميع ليالي الصيام (٢) ولا يبعد أن يرجع الإفراد إلى كتاب محمد - ﷺ - الذي هو القرآن ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أكثر القراء فيه على التثقيل، وروى العباس (٤) (٥) عن أبي عمرو فيه التخفيف، والصحيح من مذهب أبي عمرو أنه يخفف ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين مثل ﴿رُسُلُنَا﴾ [الإسراء: ٧٧]
(٢) من "الحجة" ٢/ ٤٥٨ بتصرف. وينظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٨٦١.
(٣) ينظر: "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٨٦٠.
(٤) في (ش): (أبو العباس).
(٥) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد الواقفي الأنصاري، أبو الفضل الأنصاري، قاضي الموصل، من أكابر أصحاب أبي عمرو بن العلاء، كان عظيم القدر، جليل المنزلة في العلم والدين، متروك الحديث، توفي سنة ١٨٦ وقيل: ١٩٥. ينظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٢١٢، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٩٢.

و ﴿رُسُلُكُم﴾ [غافر: ٥٠] (١) فمن ثقل فلأن أصل الكلمة على فُعُل بضم العين، الدليل على أنه فُعُل مضموم العين رفضُهم هذا الجمع فيما كانت لامه حرف علة، نحو: كِسَاء ورِشَاء ورِدَاء وقِبَاء، لم يجمعوا شيئًا من هذا الجنس على فُعُل، كما جمعوا: قَذَالًا وحِمَارًا وكِتَابًا ورِغِيفًا، ولم يجمعوه أيضًا على التخفيف، لأنه إذا خفّف، والأصل التثقيل، كانت الحركة في حكم الثبات، ولو كان الأصل التخفيف لما رفضوا الجمع في هذه الأشياء على فُعْل كما قالوا: عُمْيًا وعُمْي، وعَشْواء وعُشْو، وقَنواء (٢) وقُنْو، فلم يرفضوا هذا الجمع؛ لأن أصله فُعْل مُخَففًا، فصار بمنزلة الآحاد نحو: حُلْوٍ وعُرْيٍ. وأما ما كان عينه حرف العلة من هذا الجنس، فإنهم جمعوه مخففًا، نحو: عَوَان، وعُوْنٍ ونَوارٍ ونُور، وخِوانٍ وخُوْن (٣)، كراهية الضمة في الواو، ثم إذا اضطر الشاعر رده إلى أصله، كما جاء:
......... سُوُكَ الإِسْحِلِ (٤)
(٢) قنواء. مؤنث أقنى، كما في القاموس [القنوة]
(٣) العَوان: كسحاب، من الحروب التي قوتل فيها مرة، ومن البقر والخيل التي نُتِجت
بعد بطنها البكر، ومن النساء: التي كان لها زوج، جمعها: عُون. ينظر: "القاموس" ص ١٢١٧ (مادة: عون)، والنَّوار: كسحاب، جمع: نور بالضم، والأصل: نُوُر، بضمتين، فكرهوا الضمة على الواو، ونارت نَورًا ونوَارًا بالكسر والفتح: نفرت، وبقرة نوار: تنفر من الفحل ينظر: "القاموس" ص ٤٨٨ (مادة: نور).
(٤) البيت: تمامه:
أغر الثنايا أحم اللِّثاث... تمنحه سُوُك الإسحل
وهو لعبد الرحمن بن حسان. ينظر: "الحجة" ٢/ ٤٦٢، "المنصف" ١/ ٣٣٨، "المقتضب" ١/ ١١٣.

في جمع سِوَاكٍ، وقوله:
وفي الأَكَفِّ اللامِعَاتِ سُوُرْ (١)
وأما من خفّف، فلأن ما كان من هذا الوزن يخفّف في الآحاد، نحو: العُنُق والطنُب، وإذا خففت الآحاد فالمجموع (٢) أولى من حيث كان أثقل من الآحاد.
وأما وجه تخفيف أبي عمرو ما اتصل من ذلك بحرفين، فلأن هذا قد يخفف إذا لم يتصل بمتحرك، فإذا اتصل بمتحرك حسن التخفيف، لئلا تتوالى أربع متحركات، لأنهم كرهوا ذلك، ومن ثم لم تَتَوالَ في بناء الشعر إلا أن (٣) يكون مُزَاحَفًا. ومن لم يخفف فلأن هذا الاتصال بالحرفين ليس بلازم، وما لم يكن لازمًا فلا حكم له، ألا ترى أن الإدغام في ﴿جَعَلَ لَكَ﴾ [الفرقان: ١٥] لم يلزم، وإن كان قد توالى (٤) خَمْسُ متحركات، وهذا لا يكون في بناء الشعر (٥)، لا في مُزَاحَفِهِ ولا في سَالمِهِ ولا في الكلم المفرد (٦).
عن مبرِقاتٍ بالبُرين تبدو
ينظر: "الحجة" ٢/ ٤٦٢، "المنصف" ١/ ٣٣٨، "المقتضب" ١/ ١١٣.
(٢) في (ش): (فالجموع)، وهي كذلك في "الحجة"، وفي (ي): (فالجمع).
(٣) في (ي): (مزحفًا).
(٤) سقطت من (ي).
(٥) في (ش) (بدل الشعر) كلمة لم أستطع قراءتها.
(٦) من "الحجة" ٢/ ٤٦٠ - ٤٦٣ بتصرف.

وقوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ فيه محذوف تقديره: يقولون: لا نفرّق بين (١). كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا﴾ [الأنعام: ٩٣] أي: يقولون: اخرجوا (٢). ومعناه: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، حيث آمنوا ببعض الرسلِ وكفروا ببعضٍ، بل نجمع بين الرسل كلهم في الإيمان بهم (٣).
و (بين) تقتضي شيئين فصاعدًا، وإنما جاز مع أحدٍ، وهو واحد في اللفظ، لأن أَحَدًا يجوز أن يؤدي عن الجميع، قال الله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] وفي الحديث: "ما أُحلت الغنائم لأحدٍ سُود الرؤوس غيركم" (٤) وإنما كان كذلك، لأن أحدًا ليس كرجلٍ يثنى ويجمع، وقولك: ما يفعلُ هذا أحدٌ، تريد: ما يفعله الناس كلهم، فلما كان لفظ أحدٍ يؤديَ عن الجميع، جازَ أن يُسْتَعْمَل معه (بين)، وإن كان لا يجوز أن يقول: لا نفرّق بين رجل منهم، وقد استقصينا هذا عند قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ
(٢) ينظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٨٦٣، "التبيان" ص١٧٢، "البحر المحيط" ٢/ ٣٦٥، وذكر أن بعضهم يعربه خبرًا بعد خبر لكل.
(٣) "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٨٦٢.
(٤) الحديث، رواه الترمذي (٣٠٨٥) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال، وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٥٢٩ رقم ٢٢٩، وأحمد ٢/ ٢٥٢، والطيالسي في "مسنده" ٣١٨ رقم ٢٤٢٩، وسعيد بن منصور في سننه ٢/ ٣٧٦ [ط. حبيب الرحمن] وابن أبي شيبة في "مصنفه" ١٤/ ٣٨٧، وابن حبان في "صحيحه" الإحسان ١١/ ١٣٤ برقم (٤٨٠٦) عن أبي هريرة مرفوعا، وأصله في الصحيحين. رواه البخاري (٣١٢٤) كتاب: فرض الجهاد، باب: قول النبي - ﷺ -. أحلت لكم الغنائم، ومسلم (١٧٤٧) كتاب: الجهاد، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة عن أبي هريرة بمعنى الحديث أعلاه.

ذَلِكَ} [البقرة: ٦٨] (١).
والكلام في أحدٍ وأصلهِ ذكرناه (٢) عند قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ [البقرة: ١٠٢].
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، فحذف لأن في (٣) الكلام دليلًا عليه من حيث مُدحُوا به (٤).
وقوله تعالى: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي: اغفر غفرانك (٥)، يُستغني بالمصدر عن الفِعْلِ في الدعاء، نحو: سَقْيًا ورعيًا وأشباههما.
قال الفراء: وهو مصدر وقع موقع الأمر فنصب، قال: ومثله: الصلاةَ الصلاة (٦)، وجميع الأسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت (٧)، وهذا أولى من قول من يقول: معناه: نسألك غفرانك؛ لأنه على الفعل الذي أخِذ منه أدلّ، نحو: حمدًا، وشكرًا، أي: أحمد حمدًا، وأشكر شكرًا (٨).
(٢) في (ي) و (ش): (ذكرنا).
(٣) في سقطت من (ي) و (ش).
(٤) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٣٦٩، "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٨٦٥، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٤٧، "البحر المحيط" ٢/ ٣٦٦.
(٥) قوله: (أي اغفر غفرانك)، سقطت من (أ).
(٦) هذه الجملة ليست في (أ).
(٧) "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٨٨.
(٨) ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٣٦٩، "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٨٦٥ - ١٨٦٦، "التبيان" ص ١٧٢.