وأما قول الصحابة والتابعين بالنسخ فهو مما يتفق مع علو مرتبة هؤلاء وكمالهم، حتى إنهم ليجدون أن وسوسة النفس مما تخضع للحساب، وهم يريدون التطهر من كل آثار الإثم، لذا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتحرجهم من باب كمال التزكية وتمام الطهاوة واعتقاد النقص في أنفسهم.
الإيمان برسالات الرسل والتكليف بالطاقة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٥ الى ٢٨٦]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
الإعراب:
وَالْمُؤْمِنُونَ إما معطوف على الرَّسُولُ فكأنه قال: آمن الرسول والمؤمنون. وإما مبتدأ، وكُلٌّ: مبتدأ ثان، وآمَنَ بِاللَّهِ: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر: خبر المبتدأ الأول. والعائد من الجملة إليه محذوف، وتقديره: كلهم آمن بالله. وقال: آمَنَ: بالإفراد، ولم يقل: آمنوا بالجمع، حملا على لفظ كل. وأضيف بَيْنَ إلى أَحَدٍ لأن المراد به هاهنا الكثرة لأن «أحدا» في سياق النفي يدل على الكثرة، كقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ..
ثم قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما [البقرة ٢/ ١٠٢]. إذ لا تجوز إضافة بَيْنَ إلى الواحد.
غُفْرانَكَ منصوب على المصدر بفعل مقدر تقديره: اغفر لنا غفرانك، أو نسألك غفرانك، وحذف للعلم به لوجود الدلالة عليه.
البلاغة:
يوجد طباق بين كَسَبَتْ في الخير واكْتَسَبَتْ في الشر. ويوجد جناس اشتقاق بين آمَنَ.. وَالْمُؤْمِنُونَ وهناك إطناب في قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وإيجاز بالحذف في قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ أي آمنوا بالله ورسله.
المفردات اللغوية:
آمَنَ الرَّسُولُ صدّق النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من القرآن وَرُسُلِهِ يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي في الرسالة والتشريع، فلا نفضل بعضهم على بعض في ذلك، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض سَمِعْنا ما أمرنا به سماع قبول وتدبر الْمَصِيرُ المرجع بالبعث.
وُسْعَها طاقتها: وهو ما تسعة قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر.
كَسَبَتْ من الخير وثوابه مَا اكْتَسَبَتْ من الشر أي وزره، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد، ولا بما لا يكسبه مما وسوست به نفسه لا تُؤاخِذْنا تعاقبنا أَوْ أَخْطَأْنا تركنا الصواب لا عن عمد، كما آخذت به من قبلنا إِصْراً أمرا أو حملا يثقل علينا حمله أو يشق تحمله كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أي بني إسرائيل، من قتل النفس في التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وقرض موضع النجاسة. ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي ما لا قدرة لنا عليه من التكاليف والبلاء، فالتكليف بما يطاق: هو ما يمكن الإتيان به ولو بمشقة معتادة متحملة، والتكليف بما لا يطاق: هو ما لا يدخل في مكنة الإنسان وقدرته، بأن اقترن بمشقة زائدة غير معتادة. وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا الرحمة أمر زائد على المغفرة مَوْلانا مالكنا وسيدنا ومتولي أمورنا.
جاء في الحديث الذي يرويه مسلم عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، فقرأها صلّى الله عليه وسلّم، قال الله عقب كل كلمة: قد فعلت.
سبب النزول:
سبق بيان سبب نزول هذه الآية فيما رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة في بحث «فقه الحياة» في الآية السابقة. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه.
المناسبة:
بدأ الله تعالى هذه السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين ومقارنتهم بالكافرين، ولا سيما أخبار اليهود، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطالق، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق، ومحاجة الضالين، وختم السورة بالكلام عن إيمان الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالكتب السماوية وبالرسل الكرام دون تفريق أو تفضيل في أصل الرسالة والتشريع، وكان مسك الختام إبداء ما تفضل الله به على هذه الأمة من التكاليف السمحة السهلة التي لا ضيق ولا حرج فيها، وأن الإيمان وأهله منصور على الكفر وأعوانه، إذا صح وصدقت العزيمة وتوافر الإخلاص والصدق وتنفيذ الأحكام الشرعية.
فضل هاتين الآيتين:
ورد في السّنة النّبوية أحاديث كثيرة تشير إلى فضائل هاتين الآيتين، منها:
ما رواه البخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»
ورواه مسلم عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ: «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
ومنها:
ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبيّ قبلي».
وروى ابن مردويه عن علي قال: «لا أرى أحدا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز أعطيه نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم من تحت العرش».
ومنها:
ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد
فتح من السماء، ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له:
أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته».
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وعن المؤمنين بالإيمان بأصول الاعتقاد فقال:
صدّق الرسول محمد والمؤمنون برسالته، بالذي أنزل على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم من ربّه، من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان.
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية فيما رواه الحاكم في مستدركه: «حقّ له أن يؤمن».
كلّ منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتمام حكمته في خلقه، وبوجود الملائكة الذين لهم مهام عديدة منها السفارة بالوحي بين الله ورسله، وبالرّسل الكرام الذين أنزل الله عليهم كتبا وصحفا لهداية البشر، قائلين جميعا: لا نفرق بين الرّسل في الرّسالة والتّشريع من حيث المبدأ، وأن دعوتهم واحدة هي الإقرار بوجود الله ووحدانيته والدّعوة إلى مكارم الأخلاق. وأما التّفضيل بين الرّسل في آية سابقة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة ٢/ ٢٥٣]، إنما هو في مزايا أخرى غير الرّسالة والتّشريع. وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض الرّسل ويكفرون بالبعض الآخر.
وقال المؤمنون: بلّغنا الرّسول بالوحي، فسمعنا القول سماع تدبّر وفهم وقبول، وأطعنا الأوامر إطاعة إذعان وانقياد، معتقدين أن كل أمر ونهي إنما هو لسعادة الدّنيا والآخرة.
ويسألون الله تعالى المغفرة بالسّتر في الدّنيا وترك الجزاء في الآخرة، فأنت المتصرف في أمورنا وإليك المرجع والمآب، فتفعل فينا ما تشاء. قال جبريل:
«إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل: لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلى آخر الآية».
لا يكلّف الله أحدا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى ورأفته بهم، وهذه الآية هي التي أوضحت للصحابة ما أشفقوا منه في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي أنه تعالى وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذّب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلّف به الإنسان، علما بأن كراهية وسوسة السّوء من الإيمان.
ومنع التّكاليف الشّاقة والتّكليف باليسير مشار إليه في كثير من آي القرآن، نحو: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة ٢/ ١٨٥]، ونحو:
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج ٢٢/ ٧٨].
وللنّفس الإنسانيّة من الأعمال التي تدخل تحت التّكليف المحتمل غير الشّاق ما كسبت من خير وما اكتسبت من شرّ، ولها الثواب على الخير، وعليها العقاب على الشّر.
وأضيف الاكتساب إلى الشّر لبيان أنه يحتاج إلى تكلّف وعناء وتخطيط ومصادمة الطبيعة والأعراف، أما الخير فلا يحتاج إلى جهد كثير لأنه مما أودع الله في طبع الإنسان، وترتاح النفس لفعله، ولا يحتاج إلى حذر وتدبير، ويقدم الإنسان عليه كلما صفت نفسه وأحسّت بضعفها أمام الخالق، وبفقرها إليه يوم المحنة الكبرى وكشف الحساب الدّقيق الشامل الرّهيب أمام الله والنّاس.
ثم أرشد الله تعالى عباده إلى هذا الدّعاء، وقد تكفّل لهم بالإجابة وهو:
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي إن تركنا فرضا نسيانا، أو فعلنا حراما ناسين، أو أخطأنا الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي، فلا تعاقبنا عليه، يؤيده
ما رواه ابن ماجه والبيهقي والطبراني والحاكم عن أبي ذرّ
وابن عباس وثوبان أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
- رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أي لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة، وإن أطقناها، كما كلفت الأمم الماضية قبلنا كبني إسرائيل الذين كانت توبتهم بقتل التائب نفسه، وإيجاب ربع المال في الزّكاة، وقطع موضع النّجاسة من الثوب إذا تنجّس. أما رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ففيها التّخفيف والتّيسير والسّماحة والسّهولة لأنه نبيّ الرحمة المهداة للأمم قاطبة،
روى الخطيب وغيره عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السّمحة».
- رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي من التكليف والمصائب والبلاء، فلا تبتلينا بما لا قدرة لنا عليه من الفتن. وَاعْفُ عَنَّا فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا. وَاغْفِرْ لَنا فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة. وَارْحَمْنا فيما يستقبل، فجنبنا بتوفيقك الوقوع في ذنب آخر.
ويلاحظ أن عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ يستتبع العفو، وأن عدم حمل الإصر (الحرج والحمل الثقيل) يستوجب المغفرة، وأن عدم تحميل ما لا يطاق يتطلب الرحمة.
- أَنْتَ مَوْلانا متولي أمورنا ومالكنا، وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوّة إلا بك.
- فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيّك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدّنيا والآخرة.
وكان معاذ رضي الله عنه إذا فرغ من هذه السورة قال: آمين.
وقد تكفّل الله بالإجابة،
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: نعم»
وعن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: قد فعلت».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يلي:
١- الإيمان لا يتجزّأ: فالمؤمن يجب عليه الإيمان بكل ما أوحى الله به، والمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرّسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون، راشدون، مهديون، هادون إلى سبيل الخير.
وليس المؤمنون كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض.
٢- الإيمان يستلزم الطاعة: المؤمن بالله يؤمن بصدق لقائه، ويسمع ويطيع أوامره، ويتجنّب نواهيه، فلا يقصر في واجب، ولا ينغمس في معصية، فذلك يتصادم مع الإيمان.
٣- الإسلام دين اليسر: فهو يمتاز بقلّة التّكاليف والفرائض والواجبات، وبيسر تكاليفه، وعدم التّكليف بالشّاق من الأعمال، فلا تكليف فوق الطاقة، وإنما التّكليف بحسب الوسع والقدرة، والطاعة على قدر الطاقة، فقد يكلّفنا الله بأمور فيها شيء من المشقّة لكنها معتادة متحمّلة مقدور عليها، كثبوت الواحد للعشرة من الكفار في مبدأ الإسلام حينما كان المسلمون قلّة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه، ومفارقة أهله ووطنه وعادته، أما المشقات الثّقيلة والأمور المؤلمة فهي مرفوعة عنا، وكان بعضها على الأمم السابقة، كتكليفهم بقتل أنفسهم
للتوبة، وقرض موضع النّجاسة كالبول من ثيابهم وجلودهم، فلله الحمد والمنّة، والفضل والنّعمة.
والخلاصة: إن قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها نصّ على أن الله تعالى لا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه، ولو كلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه، لكان مكلّفا له ما ليس في وسعه. وهذا أصل عظيم في الدّين وركن من أركان الإسلام.
هذا من حيث الواقع الفعلي، أما من حيث الجواز العقلي، فلم يمنع الأشاعرة من تكليف ما لا يطاق، فهو جائز عقلا وإن لم يقع شرعا.
٤- المسؤولية الشخصية: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة ٢/ ٢٨٦] : للإنسان ما كسب من الحسنات، وعليه ما اكتسب من السّيئات، مثل قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤]، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام ٦/ ١٦٤].
روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي، ضحك، وقال: إنهما من كنز الرحمن تحت العرش»، وإذا قرأ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء ٤/ ١٢٣]، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم ٥٣/ ٣٩- ٤١] استرجع واستكان.
٥- ودلّت آية لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ على أنه يطلق على أفعال العباد الكسب والاكتساب، وعلى أن من قتل غيره بمثقّل كحجر وخشب، أو بخنق أو تغريق، فعليه ضمانه قصاصا أو دية، خلافا لأبي حنيفة الذي جعل ديته على العاقلة (القبيلة) وذلك يخالف الظاهر. ودلّت على أن سقوط القصاص عن الأب بقتل ولده لا يقتضي سقوطه عن شريكه، فالقود واجب على
شريك الأب في رأي المالكية خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك المخطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، ودلّت أيضا على وجوب الحدّ على المرأة العاقلة البالغة إذا مكنت مجنونا من نفسها.
٦- رفع الإثم عن الخطأ والنسيان: دلّت الآية على أن الإثم مرفوع حال الخطأ والنسيان. وأما الأحكام الدّنيوية المتعلّقة بهما فالصّحيح أنها تختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتّفاق كالغرامات والدّيات والصّلوات المفروضات، وقسم يسقط باتّفاق كالقصاص والنّطق بكلمة الكفر. وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا. وهذا يدل على أن أحكام العباد وحقوق الناس ثابتة، كما سنبيّن في سورة النساء.
خلاصة أهم الأحكام في سورة البقرة المسمّاة «فسطاط القرآن» :
أولا- العقائد:
١- دعوة جميع الناس إلى عبادة الله تعالى.
٢- تحريم اتّخاذ الأنداد والشركاء مع الله.
٣- إثبات الوحي والرّسالة بالقرآن وتحدّي الناس بالإتيان بسورة من مثله.
٤- أساس الدّين: توحيد الله، وإثبات البعث ومحاجة الكافرين الضالين في ذلك.
ثانيا- الأحكام العملية الفرعية:
١- إباحة الأكل من الطّيّبات.
٢- الحفاظ على حق الحياة بتشريع القصاص والقتال في سبيل الله.
٣- أحكام أركان الإسلام: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج والعمرة.
٤- إنفاق المال في سبيل الله تحقيقا للتّكافل الاجتماعي في الإسلام.
٥- تحريم الخمر والميسر والرّبا.
٦- الولاية على اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.
٧- أحكام الزواج من طلاق ورضاع وعدّة ونفقة.
٨- الوصية الواجبة.
٩- كتابة وثيقة الدّين والإشهاد عليه والرّهان وكتمان الشهادة ونصاب الشهادة المطلوب في المعاملات.
١٠- أداء الأمانة.
١١- صيغة الدّعاء المطلوبة في التّشريع.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمرانهي السّورة الثالثة، وهي سورة مدنيّة وآياتها مائتان. نزلت بعد الأنفال
مدى صلتها بسورة البقرة:
هناك أوجه اتّصال وشبه ومقارنة بين السورتين: البقرة وآل عمران، وهي ما يأتي:
١- موقف الناس من القرآن: بدئت السورتان بذكر القرآن (أو الكتاب) وحدد موقف الناس منه، ففي البقرة: ذكر حال المؤمنين وغير المؤمنين به، وفي آل عمران: ذكر موقف الزائغين الذين يتصيّدون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وموقف الرّاسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، قائلين: كلّ من عند ربّنا.
٢- عقد التّشابه بين خلق آدم وخلق عيسى: ففي البقرة تذكير بخلق آدم، وفي آل عمران تذكير بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في خلق غير معتاد.
٣- محاجّة أهل الكتاب: في السورة الأولى: إفاضة في محاجّة اليهود وبيان عيوبهم ونقائصهم ونقضهم العهود، وفي الثانية: إيجاز في محاجّة النصارى، لتأخرهم في الوجود عن اليهود.
٤- تعليم صيغة الدّعاء في ختام كلّ منهما: في الأولى دعاء يناسب بدء الدّين ويمسّ أصل التّشريع وبيان خصائصه في قلّة التّكاليف ودفع الحرج والأخذ باليسر والسماحة، وفي الثانية: دعاء بالتّثبيت على الدّين وقبول دعوة الله إلى الإيمان، وطلب الثواب عليه في الآخرة. صفحة رقم 140
٥- إثبات الفلاح للمؤمنين: ختمت السورة الثانية بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو ما بدئت به السّورة الأولى بقوله تعالى واصفا المؤمنين:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمّنت هذه السّورة الكلام على جانبي العقيدة والتّشريع، أما العقيدة:
فقد أثبتت الآيات وحدانية الله، والنّبوة، وصدق القرآن، وإبطال شبهات أهل الكتاب حول القرآن والنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإعلان كون الدّين المقبول عند الله هو الإسلام، ومناقشة النصارى في شأن المسيح وألوهيته والتكذيب برسالة الإسلام، واستغرقت المناقشة قرابة نصف السورة، كما استغرقت سورة البقرة ما يزيد عن ثلثها في مناقشة اليهود وتعداد قبائحهم وجرائمهم، بالإضافة إلى ما تضمنته هذه السّورة من تقريعاتهم، والتحذير من مكائد أهل الكتاب.
وأما التّشريع: فقد أبانت الآيات بعض أحكام الشرع مثل فرضية الحج والجهاد وتحريم الرّبا وجزاء مانع الزّكاة، وبعض الدروس والعبر والعظات من غزوتي بدر وأحد، والتّنديد بمواقف أهل النّفاق.
ثم ختمت السورة بما يناسب الجانبين، فطالبت بالتّفكير والتّدبّر في خلق السّموات والأرض وما فيهما من عجائب وأسرار، وأوصت بالصبر على الجهاد والمرابطة في سبيل الله، ليحظى الإنسان برتبة الفلاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
سبب التّسمية:
سميت السورة سورة آل عمران لإيراد قصة أسرة عمران والد مريم أم عيسى فيها، وإعداد مريم التي نذرتها أمها للعبادة، وتسخير الله الرّزق لها في المحراب
واصطفائها وتفضيلها على نساء عالمي زمانها، وتبشيرها بإنجاب عيسى صاحب المعجزات «١» وسميت آل عمران والبقرة بالزّهراوين لأنّهما النّيّرتان الهاديتان قارئهما للحقّ بما فيهما من أنوار، أي معان، أو لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، أو لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم،
روى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن أسماء بن يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، والتي في آل عمران: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».
فضلها:
أخرج مسلم عن النّواس بن سمعان قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران»
وأخرج أيضا عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزّهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» «٢».
(٢) الغمامة: السحاب الملتف، وهو الغياية، إذا كانت قريبا من الرأس، وهي الظّلّة أيضا، والمعنى أن قارئهما في ظل ثوابهما،
كما جاء في حديث «الرجل في ظل صدقته».
تحاجان:
أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة. والبطلة: السّحرة.