جزاء الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود، وأجيب بأن ما يكفر مستحلّه لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره، وقال بعض المحققين في الجواب: إن جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا.
وأما قوله سبحانه: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى وقوله تعالى: وَمَنْ عادَ فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه،
أخرج أحمد، وابن ماجه، وابن جريج، والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».
وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق، ولعل هذا مخرج الغالب، وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى لأهله منه شيء وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة.
أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا- فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرج الشافعي، وأحمد مثل ذلك.
والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان- كذا قيل- وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية الربا.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ لا يرتضي كُلَّ كَفَّارٍ متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له أَثِيمٍ منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟ أعاذنا الله تعالى من ذلك.
فقد أخرج الطبراني، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»
وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإنّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه».
وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال: «درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام».
وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه».
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما وجب الإيمان به وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على الوجه الذي أمروا به وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تخصيصهما بالذكر مع اندارجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما، فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية لَهُمْ أَجْرُهُمْ الموعود لهم حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوفور حظهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه وَذَرُوا أي اتركوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لكم عند الناس إِنْ كُنْتُمْ
صفحة رقم 51
مُؤْمِنِينَ
عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله، ومِنَ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقي، وقيل: متعلقة- يبقي وقرأ الحسن بقي بقلب الياء ألفا على لغة طيء، والآية كما قال السدي: نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو، وربيعة بن عمرو، وحبيب بن عمير وكلهم إخوة وهم الطالبون، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة: والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل- ويقال- عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، فكتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله تعالى ورسوله
وذلك قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف فَأْذَنُوا أي فأيقنوا- وبذلك قرأ الحسن- وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثاني، وقيل: لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف- وجمهور المفسرين على الأول- وقرأ حمزة. وعاصم في رواية ابن عياش فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم، وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير- حرب- للتعظيم، ولذا لم يقل بحرب الله تعالى بالإضافة، أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يدي لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. وَإِنْ تُبْتُمْ عما يوجب الحرب فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تأخذونها لا غير لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة وَلا تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل، وقرأ المفضل عن عاصم- لا تظلمون- الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى، والجملة إما مستأنفة- وهو الظاهر- وإما في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا- وهو رأي الأخفش- ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون ومالهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رؤوسهم فكيف برؤوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه، ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه،
وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم، قال المولى أبو السعود. وغيره: واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أي إن وقع المطلوب- ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على- إن- كان تامة، وجوز بعض الكوفيين- إن- تكون ناقصة،
وذُو اسمها والخبر محذوف أي- وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم.
وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ذا عسرة. وقرئ- ومن كان ذا عسرة- وعلى القراءتين كانَ ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم، وإن لم يذكر، والآية نزلت- كما قال الكلبي: حين قالت بنو المغيرة لبني عمرو بن عمير: نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فَنَظِرَةٌ الفاء جواب الشرط- ونظرة- مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي- فالأمر، أو فالواجب نظرة، والنظرة كالنظرة- بسكون الظاء الانتظار، والمراد به الإمهال والتأخير، وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير ذُو عُسْرَةٍ أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق- لابن، وتامر- وعنه أيضا- فناظره- أمر من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى وقت أو وجود يسار، وقرأ حمزة، ونافع- ميسرة- بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة، وقرئ بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة- كما قيل في مكرم- جمع مكرمة، وقيل: أصله ميسورة فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها وَأَنْ تَصَدَّقُوا بحذف إحدى التاءين، وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برؤوس أموالكم كلا أو بعضا خَيْرٌ لَكُمْ أي أكثر ثوابا من الإنظار، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا.
أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: النظرة واجبة وخير الله تعالى الصدقة على النظرة، وقيل: المراد بالتصدق الإنظار لما
أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة»
وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه: خَيْرٌ لَكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب، واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا أم لا. وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والحسن، والضحاك، وأئمة أهل البيت، وذهب شريح، وإبراهيم النخعي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جواب «إن» محذوف- أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه- وفيه تحريض على الفعل وَاتَّقُوا يَوْماً. وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا تُرْجَعُونَ فِيهِ على البناء للمفعول من الرجع، وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل: في التهويل، وقرئ- يرجعون- على طريق الالتفات، وقرأ أبيّ- تصيرون- وعبد الله- تردون. إِلَى اللَّهِ أي حكمه وفصله ثُمَّ تُوَفَّى أي تعطى كملا كُلُّ نَفْسٍ كسبت خيرا أو شرا ما كَسَبَتْ أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول: إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله.
أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية وَاتَّقُوا يَوْماً إلخ آخر ما نزل من القرآن، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل: تسع ليال، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات،
وقيل: أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحدا وثمانين يوما ثم مات- بنفسي هو- حيا وميتا صلّى الله عليه وسلم.
روي أنه قال: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية أخرى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «جاءني جبرائيل فقال: اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة»
ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري. وأبو عبيد. وابن جرير. والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم آية الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب- كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي- أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وبما جاء منه إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا بِدَيْنٍ فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن تَدايَنْتُمْ يجيء بمعنى تعاملتم بدين، وبمعنى تجازيتم، ولا يرد عليه أن السياق يرفعه لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن، وقيل: ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ [المائدة: ٨] وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس، وقيل: ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك إِلى أَجَلٍ أي وقت وهو متعلق بتداينتم، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل مُسَمًّى بالأيام أو الأشهر، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض فَاكْتُبُوهُ أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوثق والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: ٢٨٣] والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه- ثم قرأ الآية- واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا، ومفعول- يكتب- محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للايذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب- أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص- ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا- بكاتب- أو بفعله، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم، فالكلام- كما قال الطيبي- مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص- وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيها- ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحب المفسدين.
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر أَنْ يَكْتُبَ بين المتداينين كتاب الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق- بيكتب- والكلام على حد- وأحسن كما أحسن الله تعالى إليك- أي- لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن الله تعالى تفضل عليه
وميزه- ويجوز أن يتعلق الكاف- بأن يكتب- على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه: بِالْعَدْلِ وجوز أن يتعلق بقوله تعالى: فَلْيَكْتُبْ والفاء غير مانعة كما في وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: ٣] لأنها صلة في المعنى، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأول للتأكيد، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناء بشأن الكتابة، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل، وأما على الوجه الثاني فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع من المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد الحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى؟! و «ما» قيل: إما مصدرية أو كافة- وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة- وعليهما فالضمير لها، وعلى الأولين للكاتب، وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم وَلْيُمْلِلِ من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت، وقد يبدل أحد المضاعفين ياء ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال: إملاء فهو والإملال بمعنى أي، وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى وَلْيَتَّقِ أي الذي عليه الحق اللَّهَ رَبَّهُ جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال وَلا يَبْخَسْ أي لا ينقص مِنْهُ أي من الحق الذي يمليه على الكاتب شَيْئاً وإن كان حقيرا، وقرئ «شيا» بطرح الهمزة و «شيّا» بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير، وقيل: يجوز أن يرجع ضمير- يتق- للكاتب وليس بشيء لأن ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهي عن كليهما، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل، وإرجاع كل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن، وفي مِنْهُ وجهان: أحدهما أن يكون متعلقا ببخس ومن- لابتداء الغاية، وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصب حالا. وشَيْئاً إما مفعول به وإما مصدر فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب والحق فاعل، وجوز أن يكون عَلَيْهِ خبرا مقدما، الْحَقُّ مبتدأ مؤخرا فتكون الجملة اسمية، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول سَفِيهاً أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد، أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي أَوْ ضَعِيفاً أي
صبيا، أو شيخا خرفا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي- أو غير مستطيع
للاملاء بنفسه لخرس- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في- أن يمل- وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، وقيل: إن الضمير فاعل- ليمل- وتغيير الأسلوب اعتناء بشأن النفي، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم، ومثله الفك في قوله تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيّم والوكيل والمترجم، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه بِالْعَدْلِ بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس، واستدل بعضهم- بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس- وليس بشيء كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بقوله سبحانه: فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي، والجبائي، والرماني إلا أنهم قالوا: إنها واجبة على الكفاية- وإليه يميل كلام الحسن- وقال مجاهد، والضحاك: واجب عليه أن يكتب إذا أمر، وقيل: هي مندوبة، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا، وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك مِنْ رِجالِكُمْ متعلق باستشهدوا- ومِنْ لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين، ومِنْ تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين، والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة، وإلى ذلك ذهب شريح، وابن سيرين، وأبو ثور، وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه- فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض، وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت مللهم.
فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي الشهيدان رَجُلَيْنِ أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فان لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان، أو فرجل وامرأتان يشهدون. أو يكفون، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا، وإن جعلت- يكن- تامة استغنى عن تقدير شهود، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح، وقال مالك: لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص، ولا الولاء ولا الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك ما بين في الكتب الفقهية، وقرئ- «وامرأتان» - بهمزة ساكنة، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات مِمَّنْ تَرْضَوْنَ متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به
فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين، وقيل: هو صفة لشهيدين- وضعف بالفصل الواقع بينهما، وقيل: بدل من- رجالكم- بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا، واختار أبو حيان تعلقه- باستشهدوا- ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله- وهو كما ترى- والخطاب للمؤمنين وقيل: للحكام ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر مِنَ الشُّهَداءِ متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى: فَتُذَكِّرَ قيل: والنكتة في إيثار أَنْ تَضِلَّ إلخ على- أن تذكر إن ضلت- الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه، وإِحْداهُما الثانية يجوز أن تكون فاعل- تذكر- وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر- والأخرى- فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى- كما وهم- حتى يتعين الأول بل من قبيل- أرضعت الصغرى الكبرى- لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا- كما قيل- عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي، وذكر غير واحد أن العدول عن- فتذكرها- الأخرى- وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش- إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال- بإحداهما- بعينها والتذكير بالأخرى، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير إِحْداهُما الأولى راجعا إلى الشهادتين، وضمير إِحْداهُما الأخرى إلى المرأتين فالمعنى- أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما- وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه: ضَلُّوا عَنَّا [الأعراف: ٣٧] أي ضاعوا منا، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام، وما ذكر في التأييد ينبىء عن قلة الاطلاع على اللغة.
ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير، والضحاك، والربيع، والسدي، وغيرهم، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل: إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى فَتُذَكِّرَ إلخ فتجعل إحداهما اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى
واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بيّن، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه- وبعد التجوز ليس على ظاهره- لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة معهما، وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا- والتزام توجيه مثل ذلك، وعرضه في سوق القبول- لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول، ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار- إحدى- معرضا بما ذكره المغربي فقال:
يا رأس أهل العلوم السادة البرره | ومن نداه على كل الورى نشره |
ما سر تكرار- إحدى- دون تذكرها | في آية لذوي الاشهاد في البقرة |
وظاهر الحال إيجاز الضمير على | تكرار إِحْداهُما لو أنه ذكره |
وحمل الاحدى على نفس الشهادة في | أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة |
فغص بفكرك لاستخراج جوهره | من بحر علمك ثم ابعث لنا درره |
يا من فوائده بالعلم منتشره | ومن فضائله في الكون مشتهره |
يا من تفرد في كشف العلوم لقد | وافى سؤالك والأسرار مستتره |
(تضل إحداهما) فالقول محتمل | كليهما فهي للاظهار مفتقره |
ولو أتى بضمير كان مقتضيا | تعيين واحدة للحكم معتبره |
ومن رددتم عليه الحل فهو كما | أشرتم ليس مرضيا لمن سبره |
هذا الذي سمح الذهن الكليل به | والله أعلم في الفحوى بما ذكره |
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش | ثمانين حولا لا أبا لك يسأم |
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا | فخاطر فحديث النفس فاستمعا |
يليه هم فعزم كلها رفعت | سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا |
أخرجه أحمد، ومسلم عن أبي هريرة قال: «لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: ٢٨٥] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] إلخ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن مسعود، وعائشة رضي الله تعالى عنهم،
وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- أحسبه ابن عمر إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال: نسختها الآية التي بعدها، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني.
ومن هنا قال الطبرسي: وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد، وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: ١٠٩] كأنه قيل: كيف يحمل ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم صفحة رقم 62
التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام
وقال: «أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلّى الله عليه وسلم: أصبت بعضها وأخطأت بعضها»
ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى، وقيل: معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك- يحاسبكم به الله- وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال: نزلت في الشهادة، وقيل: الآية على ظاهرها، و «ما في أنفسكم» على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى «يحاسبكم» يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر فتدبر، وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب.
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى:
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران: ٢٩] فلما قيل: إن المعلق- بما في أنفسهم- هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية فَيَغْفِرُ بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من عباده وَيُعَذِّبُ بعدله. مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من عباده، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه، وقرأ غير ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار- أن- وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك:
والفعل من بعد الجزا إن يقترن | بالفاء أو الواو بتثليث قمن |
أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض- كضربت زيدا رأسه- وقيل: غير ذلك، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال:
ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله:
متى تأتنا- تلمم- بنا في ديارنا | تجد خير نار عندها خير موقد |
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر آمَنَ الرَّسُولُ قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة، الزكاة، والطلاق، والحيض والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدين، والربا، ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بالفعل وذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده.
أخرج الحاكم. والبيهقي عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آمَنَ الرَّسُولُ قال عليه الصلاة والسلام: وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة- وهي شاهد لحديث أنس- «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن»
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا، وأجمله إجلالا لمحله صلى الله تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة صفحة رقم 64
والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف وَالْمُؤْمِنُونَ يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما
أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ- وآمن المؤمنون-
وعليه يكون قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ، وكُلٌّ مبتدأ ثان، وآمَنَ خبره، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون كُلٌّ تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها- ورجح الوجه الأول- بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلّى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك، وتوحيد الضمير في آمَنَ مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى:
وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: ٨٧] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله- آمن- بِاللَّهِ أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك وَمَلائِكَتِهِ من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى: وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: ١٧٧] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وكتابه- بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع- على ما ذهب إليه إمام الحرمين والزمخشري- وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد- وهذا المبحث من معضلات علم المعاني- وقد فرغ من تحقيقه هناك.
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير كُلٌّ مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع- ولعله أولى- والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير آمَنَ أو مرفوعة على أنها خبر آخر- لكل- أي يقولون، أو يقول: لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها، ومن اعتبر إدراج الرسول في كُلٌّ واستبعد هذا قال: بالتغليب هاهنا، ومن لم يستعبد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى: وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة: ١٣٦] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات، وقرأ يعقوب. وأبو عمرو في رواية عنه- لا يفرق- بالياء على لفظ كُلٌّ وقرئ لا يفرقون حملا على معناه، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا، والكلام على أَحَدٍ وإدخال بَيْنَ عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَقالُوا عطف على آمَنَ والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم سَمِعْنا أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع وَأَطَعْنا وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي، وقيل: سَمِعْنا ما جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته، وأَطَعْنا ما فيه من الأمر والنهي غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك، أو نسألك غفرانك ذلك، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به- ولعل الأول أولى- لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي، والجملة قيل: معطوفة على مقدر أي فمنك المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجيء- والتكليف- إلزام ما فيه كلفة ومشقة، والوسع- ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه- لا يكلف نفسا- من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه الأمة خاصة.
وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» - بفتح السين (١) والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فبطريق الأولى، وقيل: إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى.
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته- قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره- وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل: يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم- ولا يخفى أنه بعيد- من جهة- قريب من أخرى- والضمير في لَها للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين ما الأولى الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه، ومبين ما الثانية الشر لدلالة- على- الدالة على الضر عليه: وإيراد الاكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل: استيفاء لحكاية الأقوال، وفي البحر- وهو المروي عن الحسن- أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل وقد تقدم:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه | من فيض جودك ما علمتني الطلبا |
ولم أك عند الجود للجود قاليا | ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا |
إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير، الثالث أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه.
ويؤيد ذلك مفهوم
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني، وقال النووي حديث حسن: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه»
وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه.
والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل: الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرئ آصارا على الجمع، وقرأ أبيّ- ولا تحمّل- بالتشديد للمبالغة كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا
في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا- وهو ما كلفه بنو إسرائيل- من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم. وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها، وقيل: من البدن وصرف ربع المال في الزكاة.
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار دنوبنا بترك العقوبة.
وَاغْفِرْ لَنا بستر القبيح وإظهار الجميل وَارْحَمْنا وتعطف علينا بما يوجب المزيد، وقيل: اعْفُ عَنَّا من الأفعال وَاغْفِرْ لَنا من الأقوال وَارْحَمْنا بثقل الميزان، وقيل: وَاعْفُ عَنَّا في سكرات الموت وَاغْفِرْ لَنا في ظلمة القبور وَارْحَمْنا في أهوال يوم النشور، قال أبو حيان: ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ رَبَّنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء- فاعف عنا- مقابلا لقوله تعالى: لا تُؤاخِذْنا وَاغْفِرْ لَنا لقوله سبحانه: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَارْحَمْنا لقوله عز شأنه: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ والعفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب أَنْتَ مَوْلانا أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال: مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء:
وإن صخرا- لمولانا وسيدنا- | وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار |
الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم الجار.
(ومن باب الاشارة في هذه الآيات) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه وَما فِي الْأَرْضِ أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ يشهده بأسمائه وظواهره يُحاسِبْكُمْ بِهِ وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ سيئاته في نفسه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب آمَنَ الرَّسُولُ الكامل الأكمل بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ يرد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق وَقالُوا سَمِعْنا أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ بالفناء فيك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات لَها ما كَسَبَتْ من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ وتوجهت إليه بالقصد من السوء رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة أَوْ أَخْطَأْنا بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك وَاعْفُ عَنَّا سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك وَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر وَارْحَمْنا بالوجود الموهوب بعد الفناء أَنْتَ مَوْلانا أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم، هذا
وقد أخرج مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت،
واخرج أبو سعيد، والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها،
وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين،
وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»
وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان»
وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة اجزأتاه عن قيام الليل»
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن
الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء»
وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه،
والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال: ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من سورة البقرة.
والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه، وصلّ وسلم على خليفتك الأعظم، وكنزك المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.
سورة آل عمران
«وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس، والنحاس، والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة، واسمها في التوراة- كما روى سعيد بن منصور- طيبة، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين- وتسمى الأمان، والكنز، والمعنية، والمجادلة، وسورة الاستغفار، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [البقرة: ١٣٦] بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم- والسورة التي هي فيها- جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: ٢٤] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: ١٣٣] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: ١٣٠، ٢٢٠] وافتتحت الأولى بقوله سبحانه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: ٤] وختمت آل عمران بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران: ١٩٩] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: ٢٤٥، الحديد: ١١] الآية: يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: ١٨١] وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: ١٢٩] الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: ١٦٤] الآية إلى غير ذلك.