
محرم كالتأخر عن إقامتها عن تحملها في بعض الأحوال وقوله: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ أي يأثم بذلك قلبه، ويجوز أن يكون معناه: " إنما يكتم الشهادة ومن يكتم لأنه قد أثم قلبه " قيل فحمله ذلك على ارتكاب المحارم واحتقاب المآثم، وإضافة الإثم إلى القلب مبالغة في الذم، فالقلب مقر البر والإثم، ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، وقال بعضهم: " في أية الدين صلاح للدين والدنيا "، فالإنسان بمراعاة ما أرشده الله إليه فيهما يبعد عن جحود الحق الذي هو سبب التنازع، والتنازع سبب كل شر ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، ومن هذه الوجه منع من البيعات المجهولة وجهل المدة وسائر الأشياء المؤدية إلى المنازعة، أوجب الإشهاد من أوجبه، لأن كل ما يؤدي إلى فساد فحسم مادته واجب..
قوله - عز وجل:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الآية (٢٨٤) - سورة البقرة.
قد تقدم ما هو جواب عن سؤال من قال: لم قال الله: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ودلالة خطابه تقتضي أن ليس له السماوات والأرض، وقال بعض الصوفية في قوله: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تنبيه أنه لا يجب الاشتغال بهما، بل يجب الاشتغال بمن أوجدهما وملكهما - تنبيها أن من تركها وأقبل عليه ملكه إياهما وما هو أفضل منهما، وإياه قصد بقوله: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾،
إن قيل: ما وجه نظم هذه الآية مع ما قبلها؟ قيل: إنه لما فرغ من حكم الإيمان والعبادة والأحكام المذكورة في هذه السورة، ختمها بالموعظة ونبه على وجوب تفويض الأمر إليه، ولما كانت حقيقة العبادة متعلقة بالقلب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أخلص يكفك القليل من العمل "، وهو أحد ما أفاد قوله - عليه الصلاة والسلام: " البر ما اطمأن إليه

القلب " وقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، كقوله: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾، وقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾..
إن قيل: هذه الآيات تقتضي أن يكون الإنسان مؤاخذا بما تتحرك به الخواطر، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام ينافيه في الظاهر " إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها " وكذلك قوله: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه..
قيل: قد تقدم إن أول ما يعرض من حديث النفس السابح ثم الخاطر، ثم الإرادة والهم، ثم العزم وأن السابح والخاطر متجافي عنهما بكل وجه وأنه متى صار نية، فذلك عمل مأخوذ به وعلى هذا قال تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾، وألهمه متى كانت من وسوسة الشيطان وتصدي الإنسان لدفعها وقمعها فهو المتجافي عنها بل هو الموعود بالإثابة على دفاعها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ومتى كانت نفس وإجماع من النفس، فذلك فعل منه، ولذلك قال بعض الصالحين: " عليكم

بحفظ الهمة، فإنها أول ما تظهر من الإنسان وهي تقدمة الأشياء " وقال عليه الصلاة والسلام: " لينظر أحدكم ما يتمنى، فإنه لا يدري ما كتب له " ومن تصور هذه الجملة علم أن قول من قال هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وجعل علة النسخ أن حديث النفس وما يهجس فيها غير مقدور على صرفه، فإنما استعمل لفظ النسخ في معنى التخصيص، فأما أنه أمر بما لا يقدر عليه ثم نسخ، فمجال وعلى هذا ما روي أنه قيل لابن عباس إن ابن عمر يبكي لقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ فقال ابن عباس: " رحم الله ابن عمر، لقد وجد المسلمون منها ما وجدوا " حتى نزل ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، فإنه عنى أن هذه الآية مخصصة ومبينة للأولى ونبه بقوله: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ﴾ على سعة قدرته وعدله وفضله ثم من الذي يغفر له والذي لا يغفر له لا يعقل من ظاهر الآية.
صفحة رقم 596