
لله ملك السموات والأرض وإحاطة علمه بكل شيء ومحاسبة العباد على أفعالهم ونواياهم
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
الإعراب:
فَيَغْفِرُ ومثله وَيُعَذِّبُ: يجوز فيه الرفع والجزم والنصب، فالرفع على الاستئناف وتقديره: فهو يغفر، والجزم بالعطف على يُحاسِبْكُمْ، والنصب ضعيف، على تقدير (أن) بعد الفاء، والفعل وما بعده في تأويل المصدر لعطف مصدر على مصدر حملا على المعنى دون اللفظ، كأنه قال: إن يكن إبداء أو إخفاء منكم، فمحاسبة، فغفران منّا.
البلاغة:
يوجد طباق بين: وَإِنْ تُبْدُوا.. أَوْ تُخْفُوهُ وبين فَيَغْفِرُ.. وَيُعَذِّبُ.
المفردات اللغوية:
تُبْدُوا.. تظهروا ما في أنفسكم من السوء والعزم عليه أَوْ تُخْفُوهُ تسرّوه يُحاسِبْكُمْ..
يخبركم به الله يوم القيامة فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يستر من أراد المغفرة له وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعاقب من أراد تعذيبه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عظيم القدرة على أي شيء، ومنه محاسبتكم وجزاؤكم، قال أبو حيان: لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء، عقب ذلك بذكر القدرة إذ ما ذكر جزء من متعلّقات القدرة.
المناسبة:
هذه الآية متممة لآخر كل من الآيتين السابقتين وهما: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ

عَلِيمٌ
، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ودليل على إحاطة علم الله بالأشياء لأن من ملك شيئا وخلقه، فلا بد من أن يعلمه، كقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك ٦٧/ ١٤]، وكذلك من ملك شيئا فله حسابه على أفعاله وما يخفيه صدره، ومنها كتمان الشهادة، وصاحب السلطة المطلقة في شيء وهو الحساب، له الإرادة المطلقة في العفو عمن شاء ممن أخطأ، وعقاب من شاء، وذلك كله مقترن بالقدرة المطلقة على كل شيء.
وللآية أمثال كثيرة في القرآن الكريم نحو: قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران ٣/ ٢٩] ونحو: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه ٢٠/ ٧] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر ٤٠/ ١٩].
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى في هذه الآية أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر والسرائر والضمائر وإن دقت وخفيت، وأنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم، كما قال ابن كثير فلله ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما، وهو العليم بكل شيء، فإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه، أو تكتموه عن الناس وتخفوه، فالله يحاسبكم عليه ويجازكم به، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهو يغفر بفضله لمن يشاء من عباده، ويعاقب من يشاء عقابه، ومما يكون عونا على المغفرة توفيق الله عبده إلى التوبة والعمل الصالح، كما قال تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ

آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[غافر ٤٠/ ٧- ٩].
والحساب من الله لعباده: أن يطلعهم على جميع أعمالهم، ثم يسألهم: لم فعلوها؟.
فقه الحياة أو الأحكام:
تتضمن الآية إنذارا وتخويفا شديدا من الحساب الإلهي، لكون الإنسان مملوكا لله، والله مطلع على كل أفعاله، محاسب له على جليل الأعمال وحقيرها، مما أدى إلى إيقاع الرهبة في النفوس والإشفاق عليها من شدة العذاب، وتفويض أمره مطلقا إلى الله وحده
أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: لما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جثوا على الرّكب، فقالوا: أي رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير؟». فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها:
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ.. الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الآية.
وظاهر قوله: «نسخها الله» يدل على نسخ هذه الآية بالآية التي بعدها وهي: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ.. وقد فهم بعض المفسرين «١» من ذلك أن هذه الآية

منسوخة لأنها تثبت الحساب على الوساوس وخواطر النفوس. والراجح أن الآية غير منسوخة، وأن المراد من قوله: «نسخها الله» : أزال ما أخافهم، وأن آية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ليست ناسخة، ولكنها موضحة، أيدها
الحديث الذي رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلّم أو تعمل»
، وقد قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد: إن الآية محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى الله عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.
ويدل على منع القول بالنسخ الأدلة التالية:
١- إن قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ خبر، والأخبار لا تنسخ عند جمهور الأصوليين.
٢- إن كسب القلب وعمله مما دل الكتاب والسنة والإجماع والقياس على ثبوته والجزاء عليه، ظهر أثره على الجوارح أم لم يظهر، كقوله تعالى:
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة ٢/ ٢٢٥] وقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء ١٧/ ٣٦].
٣- إن الوساوس العارضة وحديث النفس الذي لا يصل إلى درجة القصد الثابت والعزم الراسخ لا يدخل في مفهوم الآية، كما قال المحققون.
٤- إن تكليف ما ليس في الوسع ينافي الحكمة الإلهية.
٥- لا يظهر معنى للنسخ وهو تغيير الحكم لتغير مصلحة المكلفين لأن ما في النفس لا يتغير ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال.