
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا)، ليس على حقيقة الأكل، ولكنه كان على الأخذ، كقوله تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). فإذا كان هذا على الأخذ فقوله تعالى: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) هو على التمثيل، ليس على التحقيق.
وقال آخرون: هو على نفس الأكل، وما ذكر من العقوبة، لما أكلوا من الربا لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون المنخنق.
وقال غيرهم: ذلك لاستحلالهم الربا، وتخبيطهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ في الحكم في تحريمهم الربا بقولهم: (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا).
ثم قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، فيه دليل جواز القياس في العقل؛ لأنه لو لم يكن في العقل جوازه لم يكن لقولهم: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) معنى. لكنهم لم يعرفوا معنى المماثلة.
ثم المماثلة على الوجهين: مماثلة أسباب، ومماثلة أحوال.
فالمماثلة التي هي مماثلة أحوال: هي ابتداء محنة في الفعل، لا يقاس على غيره، نحو أن يقال: اقعد، أو أن يقال: قم، لا يقاس القيام على القعود، ولا القعود على القيام، إنما هو محنة لا يلزم غير المخاطب به.
وأما مماثلة الأسباب: فهي مماثلة الإيجاب، نحو أن يقال: حرم اللَّه السكر في الخمر، فحيث ما وجد السكر يحرم؛ لأنه يجني على العقل، فكل شيء يجني عليه فهو محرم التناول منه.
وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا).
يقولون: لما جاز أن يباع ثوب يساوي عشرة بأحد عشر، كيف لا جاز أن يباع عشرة بأحد عشر؟

وقيل: كان الرجل منهم إذا حل ما له على صاحبه طلبه، فيقول المطلوب للطالب: زدني في الأجل وأزيدك على ما لك. فيفضلان على ذلك ويعملان به. فإذا قيل لهما: هذا ربا، قالا: هما سواء: الزيادة في البيع، أو الزيادة عند محل البيع. فأكذبهم اللَّه تعالى في ذلك وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، أي: ليس هكذا: البيع كالربا.
ويحتمل: فيه ابتداء حرمة أن حل ما هو بيج لا ما هو ربا.
ثم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا):
فلقائل أن يقول: إنما يحرم منه قدر الربا، وأما العقد فإنه يجوز لما ليس فيه ربا.
لكن الأصل عندنا فيه: أن الدرهم الزائد يأخذ كل درهم من العشرة قسطًا منه وجزءًا من أجزاء كل درهم منه، فلا سبيل إلى إمضاء العقد لأخذ أجزائه كل درهم من الذي فيه العقد، وهو ربا.
وفيه وجه أَخر: وهو أنه ختم الكلام على قوله: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)، ولا يزاد رأس المال في عقد قد مضى. ثم معرفة الربا من غير الربا ما ليس بإرادة بدل.
ثم فيه دلالة أن حرمة الربا كان ظاهرًا عندهم حتى حكوا، وكان حرمته فيما بينهم كهو فيما بين أهل الإسلام؛ لذلك قال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن لا يجوز بيع الربا فيما بين أهل الإسلام وبين أهل الذمة. وعلى ذلك خرج الخطاب منه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً).
وقوله تعالى: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى):
قيل: (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، بيان تحريم الربا.
وقيل: (فَمَنْ جَاءَهُ) نهي في القرآن (مِنْ رَبِّهِ) وفي تحريم الربا، (فَانْتَهَى) عن الربا.
ويحتمل: الموعظة، هي التذكير لما سبق منه، فيتذكر فيرجع عن صنيعه.
وقوله تعالى: (فَلَهُ مَا سَلَفَ)، قيل فيه بوجهين:
قيل: (مَا سَلَفَ) له في الجاهلية صار مغفورًا له، وهو كقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
ويحتمل قوله تعالى: (مَا قَدْ سَلَفَ) هو، وذلك أن الكافر إذا تاب ورجع عن صنيعه، يرجع لا أن يعود إلى فعله أبدًا، ويندم على كل سيئة ارتكبها، فيجعل اللَّه كل سيئة كانت منه حسنة، وهو كقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
وقوله تعالى: (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)، في حادث الوقت أن يعصمه.