آيات من القرآن الكريم

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرَّجْلَةِ، أَيِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ أَرْجَلُ الرَّجُلَيْنِ أَيْ أَقْوَاهُمَا، وَفَرَسٌ رَجِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْمَشْيِ، وَالرَّجُلُ مَعْرُوفٌ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْمَشْيِ، وَارْتَجَلَ الْكَلَامَ أَيْ قَوِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ، وَتَرَجَّلَ النَّهَارُ قَوِيَ ضِيَاؤُهُ، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ فَهِيَ الْمَنْزِلَةُ وَأَصْلُهَا/ مِنْ دَرَجْتُ الشَّيْءَ أَدْرُجُهُ دَرْجًا، وَأَدْرَجْتُهُ إِدْرَاجًا إِذَا طَوَيْتَهُ، وَدَرَجَ الْقَوْمُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ أَيْ فَنُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ طَوَوْا عُمُرَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْمَدْرَجَةُ قَارِعَةُ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهَا تَطْوِي مَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ، وَالدَّرَجَةُ الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الدَّرَجَةُ الَّتِي يُرْتَقَى فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهُ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ أَزْيَدُ فِي الْفَضِيلَةِ مِنَ النِّسَاءِ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْعَقْلُ وَالثَّانِي: فِي الدِّيَةِ وَالثَّالِثُ: فِي الْمَوَارِيثِ وَالرَّابِعُ: فِي صَلَاحِيَةِ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْخَامِسُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الزَّوْجِ وَالسَّادِسُ: أَنَّ نَصِيبَ الزَّوْجِ فِي الْمِيرَاثِ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِهَا فِي الْمِيرَاثِ مِنْهُ وَالسَّابِعُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَادِرٌ عَلَى تَطْلِيقِهَا، وَإِذَا طَلَّقَهَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا، شَاءَتِ الْمَرْأَةُ أَمْ أَبَتْ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى تَطْلِيقِ الزَّوْجِ، وَبَعْدَ الطَّلَاقِ لَا تَقْدِرُ عَلَى مُرَاجَعَةِ الزَّوْجِ وَلَا تَقْدِرُ أَيْضًا عَلَى أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَالثَّامِنُ: أَنَّ نَصِيبَ الرَّجُلِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، ظَهَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالْأَسِيرِ الْعَاجِزِ فِي يَدِ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ»
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ»،
وَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لِأَجْلِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِلرِّجَالِ مِنَ الدَّرَجَةِ عَلَيْهِنَّ فِي الِاقْتِدَارِ كَانُوا مَنْدُوبِينَ إِلَى أَنْ يُوَفُّوا مِنْ حُقُوقِهِنَّ أَكْثَرَ، فَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ كَالتَّهْدِيدِ لِلرِّجَالِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مُضَارَّتِهِنَّ وَإِيذَائِهِنَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ، كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَقْبَحَ، وَاسْتِحْقَاقُهُ لِلزَّجْرِ أَشَدَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولُ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ السَّكَنُ وَالْأُلْفَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَاشْتِبَاكُ الْأَنْسَابِ وَاسْتِكْثَارُ الْأَعْوَانِ وَالْأَحْبَابِ وَحُصُولُ اللَّذَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ فِيهَا أَوْفَرُ، ثُمَّ إِنَّ الزَّوْجَ اخْتُصَّ بِأَنْوَاعٍ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالذَّبُّ عَنْهَا، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهَا، وَمَنْعُهَا عَنْ مَوَاقِعِ الْآفَاتِ، فَكَانَ قِيَامُ الْمَرْأَةِ بِخِدْمَةِ الرَّجُلِ آكَدَ وُجُوبًا، رِعَايَةً لِهَذِهِ الْحُقُوقِ الزَّائِدَةِ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النِّسَاءِ: ٣٤]
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ بِالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا»
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ غَالِبٌ لَا يُمْنَعُ، مُصِيبٌ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا احْتِمَالُ الْعَبَثِ والسفه والغلط والباطل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.

صفحة رقم 441

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتَةً لَهُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَشَكَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يُطَلِّقُهَا وَيُرَاجِعُهَا يُضَارُّهَا بِذَلِكَ، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّطْلِيقَ الشَّرْعِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَطْلِيقَةً بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي الْأَسْرَارِ: أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مَرَّتَانِ، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا لَمْ يَكُونَا لِلْمَعْهُودِ أَفَادَا الِاسْتِغْرَاقَ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كُلُّ الطَّلَاقِ مَرَّتَانِ، وَمَرَّةٌ ثَالِثَةٌ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَأَفَادَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَشْرُوعَ مُتَفَرِّقٌ، لِأَنَّ الْمَرَّاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَفَرُّقٍ بِالْإِجْمَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ الطَّلَاقِ الْمَسْنُونِ، وَعِنْدِي الْجَمْعُ مُبَاحٌ لَا مَسْنُونٌ.
قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ صِفَةِ السُّنَّةِ، بَلْ كَانَ تَفْسِيرُ الْأَصْلِ الطَّلَاقَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الْأَمْرُ، أَيْ طَلِّقُوا مَرَّتَيْنِ يَعْنِي دَفْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا وقع العدول عن لفظ الأمر إلى الْخَبَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْأَمْرِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَعْنَى الْأَمْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِتَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ، وَعَلَى التَّشْدِيدِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ:
وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ، أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا يَقَعُ إِلَّا الْوَاحِدَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَقْيَسُ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَالْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ سَعْيٌ فِي إِدْخَالِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْوُجُودِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا إِلَّا أَنَّهُ يَقَعُ، وَهَذَا/ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا مُبْتَدَأً، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ ثَابِتٌ دَائِمًا أَوْ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُبَيِّنِ، أَوْ كَالْعَامِّ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُخَصِّصِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذلك الطلاق

صفحة رقم 442

الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ لِلزَّوْجِ حَقُّ الرَّجْعَةِ، هُوَ أَنْ يُوجَدَ طَلْقَتَانِ فَقَطْ وَأَمَّا بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ الْبَتَّةَ حَقُّ الرَّجْعَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: الطَّلَاقُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، يَعْنِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ الَّذِي حَكَمْنَا فِيهِ بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ هُوَ أَنْ يُوجَدَ مَرَّتَيْنِ، فَهَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ مُطَابِقٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَوْلَى لوجوه الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٨] إِنْ كَانَ لِكُلِّ الْأَحْوَالِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُخَصِّصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَهُوَ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الشَّرْطِ الَّذِي عِنْدَهُ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّجْعَةِ، فَيَكُونُ مُفْتَقِرًا إِلَى الْبَيَانِ، فَإِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا كَانَ الْمُخَصِّصُ حَاصِلًا مَعَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَوْ كَانَ الْبَيَانُ حَاصِلًا مَعَ الْمُجْمَلِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا إِلَّا أَنَّ الْأَرْجَحَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأً، كَانَ قَوْلُهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ يَقْتَضِي حَصْرَ كُلِّ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ وَمَرَّةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ لَا بِقَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَلِأَنَّ لَفْظَ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا التَّسْرِيحَ هُوَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، لَكَانَ قَوْلُهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا رُوِّينَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ شَكَتْ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ زَوْجَهَا يُطَلِّقُهَا وَيُرَاجِعُهَا كَثِيرًا بِسَبَبِ الْمُضَارَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ، فَكَانَ تَنْزِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ تَنْزِيلِهَا عَلَى حُكْمٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِمْسَاكُ خِلَافُ الْإِطْلَاقِ وَالْمِسَاكُ وَالْمُسْكَةُ اسْمَانِ مِنْهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَذُو مُسْكَةٍ وَمِسَاكَةٍ إِذَا كَانَ بَخِيلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ بِمَسَاكِ غِلْمَانِهِ، وَفِيهِ مِسَاكَةٌ مِنْ جَبْرٍ، أَيْ قُوَّةٌ، وَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَهُوَ الْإِرْسَالُ، وَتَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَخْلِيصُكَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَسَرَّحَ الْمَاشِيَةَ إِذَا أَرْسَلَهَا تَرْعَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ ذَلِكَ الطَّلَاقُ الَّذِي حَكَمْنَا فِيهِ بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ، هُوَ أَنْ يُوجَدَ مَرَّتَانِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ إِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَمَعْنَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ أَنْ يُرَاجِعَهَا لَا عَلَى قَصْدِ الْمُضَارَّةِ، بَلْ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِنْفَاعِ، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تُوقَعَ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ،
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قِيلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمُرَاجَعَةَ حَتَّى تَبِينَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ هُوَ الْأَقْرَبُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها [البقرة: ٢٣٠] تَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلْقَةِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ ذَلِكَ التَّسْرِيحِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّسْرِيحِ هُوَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، لَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا التَّسْرِيحَ عَلَى تَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ كَانَتِ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، إِمَّا أَنْ يُرَاجِعَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَا يُرَاجِعَهَا بَلْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَوْ يُطَلِّقَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها

صفحة رقم 443

فَكَانَتِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ كُلِّ الْأَقْسَامِ، أَمَّا لَوْ جَعَلْنَا التَّسْرِيحَ بِالْإِحْسَانِ طَلَاقًا آخَرَ لزم ترك أحد الأقسام الثلاث، وَلَزِمَ التَّكْرِيرُ فِي ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ التَّسْرِيحِ هُوَ الْإِرْسَالُ وَالْإِهْمَالُ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى تَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّطْلِيقِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّسْرِيحِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُلْعُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ ظَاهِرَةٌ لَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِّينَاهُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ الْخَبَرُ فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِحْسَانِ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا أَدَّى إِلَيْهَا حُقُوقَهَا الْمَالِيَّةَ، وَلَا يَذْكُرُهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ بِسُوءٍ وَلَا يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَكُونُ مَعَ صَاحِبِهِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ تَشُقُّ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ أَوْ لَا فَإِذَا فَارَقَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ مَانِعَةً مِنَ الرُّجُوعِ لَعَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَظْهَرَ الْمَحَبَّةُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ كَمَالُ التَّجْرِبَةِ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَلَا جَرَمَ أَثْبَتَ تَعَالَى حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ جَرَّبَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الْمُفَارَقَةِ وَعَرَفَ حَالَ قَلْبِهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ إِمْسَاكَهَا رَاجَعَهَا وَأَمْسَكَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُ تَسْرِيحَهَا سَرَّحَهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهَذَا التَّدْرِيجُ وَالتَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بعبده.
[قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إلى قوله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
واعلم أن هذا الْحُكْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَهُوَ بَيَانُ الْخُلْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَنْ يَكُونَ التَّسْرِيحُ مَقْرُونًا بِالْإِحْسَانِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْإِحْسَانِ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي أَعْطَاهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالثِّيَابِ وَسَائِرِ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَلَكَ بُضْعَهَا، وَاسْتَمْتَعَ بِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَعْطَاهَا، فَلَا يَجُوزُ أن يأخذ منها شيئا، ويدل فِي هَذَا النَّهْيِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهَا لِيُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النِّسَاءِ: ١٩] وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ هُوَ كَقَوْلِهِ هُنَاكَ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْبَذَاءِ وَسُوءِ الْخُلُقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطَّلَاقِ: ١] فَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ الْبَذَاءُ عَلَى أَحْمَائِهَا وَقَالَ أَيْضًا: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النِّسَاءِ: ٢٠] فَعَظَّمَ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِفْضَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَنِ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا فَإِنْ كَانَ لِلْأَزْوَاجِ لَمْ يُطَابِقْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَإِنْ قُلْتَ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا.
قُلْنَا: الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ وَآخِرُهَا خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ غَرِيبٍ فِي الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ كُلُّهُ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْأَخْذِ وَالْإِيتَاءِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْآخِذُونَ وَالْمُؤْتُونَ.

صفحة رقم 444

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ الرَّجُلَ أَنَّ يَأْخُذَ مِنِ امْرَأَتِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ شَيْئًا اسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْخُلْعِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي جَمِيلَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَفِي زَوْجِهَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ، وَكَانَ يُحِبُّهَا أَشَدَّ الْحُبِّ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ: فَرِّقْ بيني وبينه فإني أبعضه، وَلَقَدْ رَفَعْتُ طَرَفَ الْخِبَاءِ فَرَأَيْتُهُ يَجِيءُ فِي أَقْوَامٍ فَكَانَ أَقْصَرَهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحَهُمْ وَجْهًا، وَأَشَدَّهُمْ سَوَادًا، وَإِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْهَا فَلْتَرُدَّ عَلَيَّ الْحَدِيقَةَ الَّتِي أَعْطَيْتُهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَأَزِيدُهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَدِيقَتُهُ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ لِثَابِتٍ: خُذْ مِنْهَا مَا أَعْطَيْتَهَا وَخَلِّ سَبِيلَهَا فَفَعَلَ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُجْتَهِدِينَ قَالُوا: يَجُوزُ الْخُلْعُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ وَالْغَضَبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ: لَا يُبَاحُ الْخُلْعُ إِلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ وَقَعَ الْخُلْعُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْخُلْعُ فَاسِدٌ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ طَلَاقِهَا شَيْئًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ حَالَةً مَخْصُوصَةً فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَكَانَتِ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَالُوا: الْخُلْعُ جَائِزٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] فَإِذَا جَازَ لَهَا أَنْ تَهَبَ مَهْرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ لِنَفْسِهَا شَيْئًا بِإِزَاءِ مَا بُذِلَ كَانَ ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ الَّذِي تَصِيرُ بِسَبَبِهِ مَالِكَةً لِنَفْسِهَا أَوْلَى، وَأَمَّا كَلِمَةُ (إِلَّا) فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ كَمَا فِي قوله تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: ٩٢] أَيْ لَكِنْ إِنْ كَانَ خَطَأً فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النِّسَاءِ: ٩٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخَوْفِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْإِشْفَاقُ مِمَّا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّنِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَسَبَبُ حُصُولِهَا ظَنُّ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ مَكْرُوهٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ اسْمَ الْخَوْفِ، وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدْ خَرَجَ غُلَامُكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، فَتَقُولُ: قَدْ خِفْتُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى ظَنَنْتُهُ وَتَوَهَّمْتُهُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:

إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ تُرَوِّي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا
وَلَا تدفنني فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إِذَا مَا مُتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا
ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: ٢٣٠].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ حُصُولُ الْخَوْفِ لِلرَّجُلِ وَلِلْمَرْأَةِ، وَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ مَزِيدِ بَحْثٍ، فَنَقُولُ: الْأَقْسَامُ الْمُمْكِنَةُ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حاصلا

صفحة رقم 445

مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَقَطْ، أَوْ لَا يَحْصُلَ الْخَوْفُ مِنْ قِبَلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يَكُونَ الْخَوْفُ حَاصِلًا مَنْ قِبَلِهِمَا مَعًا.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ نَاشِزَةً مُبْغِضَةً للزوج، فههنا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَمِيلَةَ مَعَ ثَابِتٍ، لِأَنَّهَا أَظْهَرَتِ الْبُغْضَ فَجَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا الْخُلْعَ وَلِثَابِتٍ الْأَخْذَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَطَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَوْفَهُمَا مَعًا، فَكَيْفَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَكْفِي حُصُولُ الْخَوْفِ مِنْهَا فَقَطْ.
قُلْنَا: سَبَبُ هَذَا الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ الْحَاصِلُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ فِي أَمْرِ الزَّوْجِ، وَهُوَ يَخَافُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُطِعْهُ فَإِنَّهُ يَضْرِبُهَا وَيَشْتُمُهَا، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْخَوْفُ حَاصِلًا لَهُمَا جَمِيعًا، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السَّبَبُ مِنْهَا لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكْرَهَ الْمَرْأَةُ مُصَاحَبَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ لِفَقْرِهِ أَوْ لِقُبْحِ وَجْهِهِ، أَوْ لِمَرَضٍ مُنَفِّرٍ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ خَائِفَةً مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي أَنْ لَا تُطِيعَ الزَّوْجَ، وَيَكُونُ الزَّوْجُ خَائِفًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي بَعْضِ حُقُوقِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَقَطْ، بِأَنْ يَضْرِبَهَا وَيُؤْذِيَهَا، حَتَّى تَلْتَزِمَ الْفِدْيَةَ فَهَذَا الْمَالُ حَرَامٌ بِدَلِيلِ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِدَلِيلِ سَائِرِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا إِلَى قَوْلِهِ: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النِّسَاءِ: ١٩، ٢٠] وَهَذَا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَلَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ: إِنَّ هَذَا الْخُلْعَ جَائِزٌ، وَالْمَالَ الْمَأْخُوذَ حَلَالٌ، وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ حَرَامٌ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِهِمَا مَعًا، فَهَذَا الْمَالُ حَرَامٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ إِذَا كَانَ السَّبَبُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ بِقَيْدِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ سَبَبٌ لِذَلِكَ أَمْ لَا وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ لِهَذَا الْقِسْمِ آيَةً أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النِّسَاءِ: ٣٥] الْآيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَعَالَى حِلَّ أَخْذِ الْمَالِ، فَهَذَا شَرْحُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ جَائِزٌ هَذَا هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: إِلَّا أَنْ يَخافا بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» / وَجْهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ إِبْدَالُ أَنْ لَا يُقِيمَا مِنْ أَلِفِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: خِيفَ زَيْدٌ تَرْكُهُ إِقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكَّدٌ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ وَلَمْ يَقُلْ: خَافَا، فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِهِمَا، وَجْهُ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ إِضَافَةُ الْخَوْفِ إِلَيْهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ الْفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهَا، وَالزَّوْجَ يَخَافُ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تُطِعْهُ يَعْتَدِي عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخُلْعُ بِهِ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ:
لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: بَلْ مَا دُونُ مَا أَعْطَاهَا حَتَّى يَكُونَ الْفَضْلُ لَهُ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْمُخَالَعَةَ بالأزيد والأقل

صفحة رقم 446

وَالْمُسَاوِي، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا رَاجِعًا إِلَى مَا آتَاهَا:
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي إِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا قَدْرُ مَا آتَاهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
رُوِّينَا أَنَّ ثَابِتًا لَمَّا طَلَبَ مِنْ جَمِيلَةَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، فَقَالَتْ جَمِيلَةُ وَأَزِيدُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَدِيقَتُهُ فَقَطْ،
وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ بِالزَّائِدِ جَائِزًا لَمَا جَازَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ بَعْضَهَا، فَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا أَزْيَدَ مِمَّا دَفَعَ إِلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ إحجافا بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ وَإِلْحَاقًا لِلضَّرَرِ بِهَا، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْخُلْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُتَقَيَّدَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْضَى عِنْدَ النِّكَاحِ إِلَّا بِالصَّدَاقِ الْكَثِيرِ، فَكَذَا لِلزَّوْجِ أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الْكَثِيرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَظْهَرَتْ الِاسْتِخْفَافَ بِالزَّوْجِ، حَيْثُ أَظْهَرَتْ بُغْضَهُ وَكَرَاهَتَهُ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَتْ إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحسبها فِي بَيْتِ الزِّبْلِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: كَيْفَ حَالُكِ؟ فَقَالَتْ: مَا بِتُّ أَطْيَبَ مِنْ هَاتَيْنِ اللَّيْلَتَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: اخْلَعْهَا وَلَوْ بِقُرْطِهَا،
وَالْمُرَادُ اخْلَعْهَا حَتَّى بِقُرْطِهَا وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ قَدِ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ ثَوْبٍ عَلَيْهَا إِلَّا دِرْعَهَا، فلم ينكر عليها.
المسألة السابعة:
الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ طَلَاقٌ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ، فَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ فَسْخًا ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا صَحَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُسَمَّى: كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا فَإِذَا خَالَعَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَهْرَ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا الْمَهْرُ، كَالْإِقَالَةِ، / فَإِنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ رَدُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلَاقَ فَقَالَ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ مَعَالِمِ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي مُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ، مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ حَصَلَ الْجِمَاعُ فِيهِ حَرَامٌ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَكْشِفَ الْحَالَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَكْشِفْ بَلْ أَمَرَهُ بِالْخُلْعِ مُطْلَقًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً،
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مُطَلَّقَةً لَمْ يَقْتَصِرْ لَهَا عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ.

صفحة رقم 447
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية