«أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت».
وأما الدرجة للرجال: فهي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة «١».
عدد الطلاق وما يترتب عليه من أحكام
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٩ الى ٢٣٠]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
الإعراب:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ مبتدأ وخبر، وهذا الكلام فيه اتساع، وتقديره: الطلاق في مرتين، والطلاق في معنى التطليق. وقيل: تقديره: عدة الطلاق الرجعي مرتان.
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: فعليه إمساك بمعروف. ومثله:
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء من غير الجنس. وأن لا يقيما: في موضع نصب، لأن تقديره: من أن لا يقيما، فلما حذف حرف الجر تعدى الفعل إليه.
البلاغة:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ طباق بين لفظي إمساك وتسريح.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة والتعظيم في النفس.
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قصر صفة على موصوف. وجاء هذا الوعيد بعد النهي للمبالغة في التهديد.
المفردات اللغوية:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي التطليق الذي يراجع فيه، كالسلام بمعنى التسليم، ومرتان: دفعتان أو اثنتان فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي فعليكم إمساكهن بعد المراجعة من غير إضرار، بل بإصلاح وحسن معاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إيقاع الطلقة الثالثة بدون رجعة وأداء حقوقها المالية، دون أن يذكرها بعد المفارقة بسوء. حُدُودَ اللَّهِ أحكامه وشرائعه تَعْتَدُوها تتجاوزوها، والاعتداء: تجاوز الحد في قول أو فعل.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي لا إثم ولا حرج على الزوج في أخذ المال الذي افتدت به نفسها ليطلقها، ولا حرج أيضا على الزوجة في بذله. تِلْكَ الأحكام المذكورة الظَّالِمُونَ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. حَتَّى تَنْكِحَ تتزوج زوجا غيره ويطأها، كما في الحديث الصحيح عند الشيخين: البخاري ومسلم. فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجة والزوج الأول أن يتراجعا إلى الزواج الجديد بعقد جديد بعد انقضاء العدة يَعْلَمُونَ يتدبرون.
سبب النزول:
لم يكن للطلاق لدى عرب الجاهلية حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق ثم يراجع وتستقيم الحال، وإن قصد الإضرار يراجع قبل انقضاء العدة، ثم يستأنف طلاقا جديدا، مرة تلو مرة إلى أن يسكن غضبه، فجاء الإسلام لإصلاح هذا الشذوذ ومنع الضرر.
نزول الآية (٢٢٩) :
أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة قالت: «كان الرجل يطلق
امرأته ما شاء أن يطلق، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبيني مني، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي، راجعتك، فذهبت المرأة، وأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسكت حتى نزل القرآن: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
وقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ... الآية: أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال: كان الرجل يأكل من امرأته نحلة- عطاءه- الذي نحلها وغيره، لا يرى أن عليه جناحا، فأنزل الله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.
وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما... الآية:
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فدعاه، فذكر ذلك له، قال: وتطيب لي بذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، فنزلت: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ... الآية.
وروى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبيّ بن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت:
يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضا، وأكره الكفر في الإسلام «١»، قال: أتردين عليه حديقته «٢» ؟ قالت:
نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة».
(٢) وكان قد أصدقها إياها.
نزول الآية (٢٣٠) :
أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقا بائنا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، فطلقها، فأتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إنه طلقني قبل أن يسمني، أفأرجع إلى الأول؟ قال:
لا حتى يمس، ونزل فيها: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فَإِنْ طَلَّقَها بعد ما جامعها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا.
التفسير والبيان:
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة ٢/ ٢٢٨] فهي واردة لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة، والعدد الذي لا رجعة فيه. والمعنى: إن عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان، أي اثنتان أو طلقتان فقط، وليس بعد المرتين إلا أحد الأمرين: الإمساك بالمعروف والمعاشرة الحسنة، أو التسريح لها بإحسان، بمعنى أن تتركها، حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، ولا تراجعها.
وقيل: المراد من الآية إيقاع الطلاق مفرّقا، لا مجموعا، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام، كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، بدليل
حديث ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلق لكل قرء تطليقة».
وقال مجاهد وعطاء وجمهور السلف وعلماء الأمصار: المراد من التسريح
بإحسان: الطلقة الثالثة، بدليل
حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره، أنه سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، سمعت الله تعالى يقول: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال: أو تسريح بإحسان. ويكون قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ بيانا لهذا «١».
والحكمة من جعل الطلاق مرتين وإثبات حق الرجعة بعد كل من الطلاق الأول والثاني: هو إعطاء الفرصة لإصلاح كل من الزوجين حاله، لأن الأوضاع تعرف بأضدادها، فلا يجد المرء مقدار النعمة ولذتها حتى يذوق طعم النقمة ويشعر بمرارتها، فقد يكون الرجل عصبي المزاج، حاد الطبع، سيء الخلق، فيتورط في الطلاق، مرة بعد أخرى، فتذكره الفرقة، وما تتركه الزوجة من وحشة وفراغ «٢»، وما يتطلبه البيت والأولاد من خدمات، فيثوب لرشده، ويحد من سوء خلقه، ويصلح معاملته لزوجته، ويعاشرها بالمعروف كما أمر الله تعالى.
وقد تكون المرأة مهملة حقوق زوجها وبيتها وأولادها، مترفعة سادرة «٣» في كبريائها، فإذا أحست بألم الفرقة، ووحشة الطلاق، وأدركت أخطاءها، عادت إلى الحياة الزوجية بوجه جديد، وسلوك أفضل من السابق.
(٢) قال الرازي في تفسيره الكبير (٦/ ٩٨) : الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري، هل تشقّ عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه، فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع، لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المنحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
(٣) السادر: الذي لا يهتم ولا يبالي بما يصنع.
وعلى هذا النحو من التنازلات من كلا الزوجين، والعتاب الخفيف اللطيف، والتماس أوسط الحلول وأقربها إلى مصلحة الطرفين، والنظر البعيد إلى مستقبل الأسرة والأولاد، يمكن تجديد بنية العلاقات الزوجية، وتوجيهها وجهة معقولة متسمة بالحكمة والاتزان، ومراقبة الله تعالى في كل شيء، دون تفريط ولا إفراط، ولا بغي أو ظلم أو اعتداء من طرف على آخر، والله يحب المحسنين.
فإن اختار الرجل التسريح على الإحسان- وهو أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق الذي لم يشرع إلا للضرورة-، حرم عليه أخذ شيء مما أعطاها:
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة ٢/ ٢٢٩] سواء من مهر أو غيره، بل يجب عليه إهداؤها شيئا من الهدايا العينية أو النقدية زائدا عن حقوقها السابقة، عملا بقوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب ٣٣/ ٤٩] وهذا تحذير للرجال من إلحاق الظلم بالنساء وهضم حقوقهن.
ولكن يجوز للرجل أخذ ما تبذله المرأة من فداء مالي عن الطلاق، لتفتدي به نفسها، لأنه برضاها واختيارها دون إكراه، إذا كانت المرأة هي الطالبة لفراق زوجها، لكراهتها إياه، أو لسوء خلق منها أو منه، دون قصده الإضرار، لقوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق ٦٥/ ٦]، وخاف الزوجان تجاوز حدود الله- أي أحكامه- التي شرعها للزوجين من حسن العشرة وأداء الحقوق المطلوبة في ظل ولاية الرجل، بأن خافت المرأة الوقوع في المعصية مثل جحد نعمة العشرة أو الخيانة، أو خاف الرجل تجاوز الحدود في مؤاخذة الناشز، وهذا الفراق على عوض مالي من المرأة يسمى الخلع، وتجب بعده العدة كالطلاق، ولا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة، بخلاف الطلاق الرجعي، وقد حث النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ترك طلب الخلع من المرأة من غير ضرورة،
روى أحمد والترمذي والبيهقي عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما امرأة سألت
زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هن المنافقات» «١».
ثم حرّم الله تعالى تحريما قاطعا تجاوز حدود الله التي حدها في العلاقات الزوجية وغيرها: وهي الأحكام المقررة المشتملة على الأوامر والنواهي، فلا يجوز تجاوز ما أحله إلى ما حرمه، وما أمر به إلى ما نهى عنه.
ثم حذر وأوعد المخالفين الذين يعتدون على أحكام الشرع، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويتعدون حدود الله، ووصفهم بأنهم الظالمون، ولا ظالم غيرهم.
ثم أبان تعالى حكم الطلاق الثالث الذي تصبح المرأة بعده بائنا بينونة كبري، فقال: فإن طلقها بعد الطلقتين السابقتين، فلا تحل له أبدا من بعد هذا الطلاق الثالث، حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به الدوام والاستمرار دون أن يقصد به مجرد تحليل المرأة المطلقة لزوجها، ولا بد في الزواج الثاني من الدخول الحقيقي بالمرأة (أي الجماع) عملا بما رويناه سابقا في قصة رفاعة، التي
رواها الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم بعبارة أخرى مشهورة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» «٢».
فإن طلقها الزوج الثاني بنحو طبيعي، وانقضت العدة، فيجوز للزوج الأول أن يعقد عليها عقدا جديدا، إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية
(٢) العسيلة: هي أقل ما يكون من غشيان الرجل المرأة.
والتزام ما أمر الله به من المعاشرة الحسنة، فتلك حدود الله، وأما إن ظنا حين المراجعة أنهما يعودان لما كان، من إضرار بها، أو نشوز منها، فالرجوع ممقوت عند الله، وإن صح قضاء.
ويلاحظ أنه لم يقل: «إن علما أنهما يقيمان» لأن اليقين مغيب عنهما، لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن فسر الظن هاهنا بالعلم، فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه قام، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظنا «١».
أما نكاح التحليل المؤقت: وهو الذي يقصد به تحليل المرأة لزوجها الأول بشرط أو اتفاق في العقد أو غيره بالنية، فهو زواج باطل غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول الذي طلقها، وهو معصية لعن الشرع فاعلها، سواء علم الزوج المطلّق أو جهل بذلك وهو رأي مالك وأحمد والثوري والظاهرية. وقال الحنفية والشافعية: هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط التحليل في العقد.
والرأي الأول أصح وأحق بالاتباع، لما
روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود، وابن ماجه عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له».
وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المحلّل، قال: «لا، إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل، ثم تذوق العسيلة».
وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك، فقال: كلاهما زان». وسأل
رجل ابن عمر، فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلّها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وسئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته ثلاثا، ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
بهذا يتبين أن التحليل المؤقت ليس من شرع الله ولا دينه، وفيه مفاسد كثيرة، وهو زنى، وإن تم بعقد في الظاهر.
ثم ختم الله تعالى الآية بإعلان صريح: وهو أن هذه الأحكام هي حدود الله يبينها بأجلى بيان، ويوضحها بأتم وضوح، لقوم يدركون فائدتها، ويعلمون مصلحتها، فلا يحيدون عنها، ولا يتحايلون عليها، وإنما يعملون بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة المرجوة، فلا يضمر الرجل السوء أو يبيت الانتقام إذا راجع امرأته.
إن أحكام الله وشرعه ومنها الطلاق والرجعة منسجمة مع الحكمة والواقع، فقد تستعصي الحلول، فيلجأ إلى الطلاق، وما أكثر حوادث الطلاق في بلاد الغرب لأتفه الأسباب التي نستغربها أشد الغرابة في بلادنا. ويحدث الندم عادة وغالبا في الطلاق بين المسلمين والمسلمات إذا لم يكن هناك انحراف واضح أو سلوك معوج يصعب تقويمه، كالخيانة الزوجية أو السلوك المشبوه الذي يعجز الرجل عن إثباته، فيكون الطلاق حال الانحراف أو الشذوذ طريق الخلاص المحتوم، وتكون الرجعة في الأحوال التي تحتمل الإصلاح والتربية الناجعة.
وأما الأخطاء التي يرتكبها الرجل في الإقدام على الطلاق بغير وجه مشروع أو يسيء استعمال هذا الحق الممنوح له لأحوال اضطرارية أو استثنائية، فيتحمل
وزرها أصحابها، ويكون الإسلام منها براء.
تلك حدود الله أي ما منع منه يبينها لقوم يعلمون الحقائق ويعلمون المصالح المترتبة على العمل بها، لأن الجاهل لا يحفظ الأمر والنهي ولا يتعاهده، والعالم يحفظ ويتعاهد.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيتان على أحكام ثلاثة: هي الطلاق الرجعي وهو الطلاق الأول والثاني، والخلع وهو الفراق على عوض من المرأة، والطلاق الثلاث أو البائن بينونة كبري: وهو حكم المبتوتة.
١- عدد الطلاق والسنة فيه:
نزلت الآية كما عرفنا لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة والعدد المشروع الذي تصح بعده المراجعة، ردا على ما كان عليه العرب في الجاهلية من أن الطلاق لا حد له، وقد تستخدم الرجعة للإضرار بالمرأة، فتصبح لا هي مزوجة ولا هي مطلقة، وإنما معلقة.
والطلاق: هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها،
وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: «فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق» وقد طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة ثم راجعها «١».
وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلّق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب.
وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، وكيف يطلقون أي مفرقا، فمن طلق اثنتين، فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية كما قال القرطبي: تتضمن المعنيين، أي تحديد عدد الطلاق وتفريقه، ودليلهم ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن مسعود في قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ..
قال: «يطلقها بعد ما تطهر، من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها، راجعها، ثم إن شاء الله طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض، وتبين منه بها».
وعلى هذا يكون قد بين الله سنة الطلاق في هذه الآية، وبين أن من سنته تفريق الطلاق، ولأنه قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرقتين، لأنهما إن كانتا مجتمعتين، لم يكن مرتين.
فإذا خالف المطلق وجمع التطليقات الثلاث في لفظ واحد، فاختلف العلماء في ذلك.
قال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة: يقع به ثلاث طلقات، مع الكراهة عند الحنفية والمالكية، لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة، ثم يتركها، حتى تنقضي عدتها.
وقال الشيعة الإمامية: لا يقع به شيء.
وقال الزيدية وابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه.
ومنشأ الخلاف: كيفية فهم آية الطَّلاقُ مَرَّتانِ هل هي متعلقة بما قبلها، أم مستقلة عنها؟ وكيفية تأويل حديث ابن عباس.
أما الآية: فقال الإمامية ومن وافقهم: إن التعريف للعهد، أي الطلاق
المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، أي ليس مشروعا كون الطلاق كله دفعة واحدة.
ورأى مالك أن معناه: الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، فتكون الآية مرتبطة بما قبلها، فالله لما ذكر أن بعولتهن أحق بردهن، أراد أن يبين الطلاق الذي فيه الرجعة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن معناه: الطلاق الجائز مرتان.
وأما حديث ابن عباس الذي رواه أحمد ومسلم من طريق طاوس فهو كما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر:
طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم».
أما أئمة المذاهب الأربعة فأوّلوا الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات، بأن يقول الرجل: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» فيلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع، وكان مسلمو الصدر الأول يصدقون في إرادة التوكيد، لورعهم وتقواهم، ثم تبدل الحال، فصار الغالب عليهم قصد الثلاث، بدليل قول عمر: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة» وهذا الحكم إنما هو في القضاء، أما في الديانة فيعمل كل واحد بنيته.
وأما الإمامية وموافقوهم فقالوا: يجب العود إلى سنة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وترك اجتهاد عمر، لأن إمضاء الثلاث إبطال للرخصة الشرعية والرفق المشار إليه بقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق ٦٥/ ١].
وبالرغم مما أراه وهو رجحان مذهب الجمهور، لا أجد مانعا من الأخذ برأي ابن تيمية ومن وافقه، لأن الطلاق هدم للأسرة، وتعريض لضياع الأولاد، وهو
كما
قال صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر-: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»
والشريعة أجازته لدفع ضرر أشد، وتحصيل مصلحة أكثر، ولا يلجأ إليه إلا للضرورة القصوى، والله شرع الطلاق مرتين متفرقتين في طهرين كما أرشدت إليه السنة، لا مجتمعتين، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق. وفي هذا تيسير على الناس، وبخاصة أنهم يقصدون غالبا بالطلاق التهديد والزجر، لا الحقيقة والوقوع الفعلي، ثم إن الفرقة تحدث بطلقة واحدة، فيكون ما يتلوها مؤكدا لها.
٢- الخلع:
نهى الله تعالى الأزواج أن يأخذوا شيئا من أزواجهم على وجه المضارّة، إذا طلقوهن وكان مما آتوهن، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهن، لأن العرف بين الناس: أن يطلب الرجل عند وقوع النزاع ما قدم من صداق وجهاز.
ولكن إذا بذلت الزوجة الفدية على الطلاق، جاز الأخذ في رأي الجمهور إذا كان النشوز من قبلها. وذهب بعضهم (داود الظاهري) إلى أن الذي يبيح أخذ الفداء هو خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا، لكراهة كل منهما صحبة الآخر. والظاهر الرأي الأول وهو أن نشوزها وسوء عشرتها لزوجها كاف في جواز أخذ الفداء، وإن كان ظاهر الآية يؤيد رأي غير الجمهور.
وعليه، فإن الخلع جائز عند أكثر الأئمة، سواء أكان في حالة الخوف أم في غير حالة الخوف، بدليل قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء ٤/ ٤].
وذهب الجمهور: إلى أنه يجوز الخلع بأزيد مما أعطاها، لأنه عقد معاوضة يوجب ألا يتقيد بمقدار معين، لكن يكره عند الحنفية، ولا يستحب عند غيرهم أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، لقصة امرأة ثابت بن قيس المتقدمة، التي
قال
النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيها: «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: نعم وزيادة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أما الزيادة فلا».
ومنع الشعبي والزهري والحسن البصري الخلع بأكثر مما أعطاها، لقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي مما آتيتموهن. وأخذ الجمهور بإطلاق هذه الآية.
وأجاز الجمهور غير الشافعي الخلع على غرر (أمر محتمل) أو معدوم ينتظر وجوده، كثمرة لم يبد صلاحها، وجمل شارد، وجنين في بطن أمه، أو نحو ذلك من وجوه الغرر، بخلاف البيوع والزواج، وله المطالبة بذلك كله، فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شيء له، والطلاق نافذ على حكمه.
وقال الشافعي: الخلع جائز وله مهر مثلها. وقال أبو ثور: الخلع باطل.
وهل الخلع طلاق أو فسخ؟
ذهب الجمهور (الحنفية والمالكية، والشافعية على الراجح) : إلى أن الخلع طلاق لا فسخ يقع به طلقة بائنة، لقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وإنما يكون فداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل، ولو لم يكن بائنا لملك الرجل الرجعة، وكانت تحت حكمه وقبضته، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر.
أما كونه طلاقا: فلأنه لو كان فسخا لما جاز بأكثر من المهر، كالإقالة في البيع، مع أنه يجوز بالأكثر، وإذا بطل كونه فسخا، تعين كونه طلاقا.
واستدلوا أيضا بما
ورد عن ابن عباس في امرأة ثابت بن قيس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: اقبل الحديقة، وطلقها طلقة واحدة» «١».
والمعتمد لدى الحنابلة التفصيل: وهو أن الخلع طلاق بائن، إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما، أو بكنايات الطلاق، ونوى به الطلاق، لأنه كناية نوى بها الطلاق، فكانت طلاقا.
وهو فسخ لا ينقص به عدد الطلاق إذا لم ينو طلاقا، بأن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة، ولا ينوي به طلاقا، فيكون فسخا لا ينقص به عدد الطلاق.
وذهب ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد: إلى أن الخلع فسخ لا طلاق، لأن الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم ذكر الخلع، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فلو كان طلاقا لكان ذلك يدل على أن للرجل أربع تطليقات. ورد عليهم بأن الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم بين أنه لا يجوز أخذ مال على الطلاق، إلا في الحال التي ذكرها الله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما.. سواء أكان ذلك عند الطلقة الأولى أم الثانية أم الثالثة، ثم بين الطلقة الثالثة بقوله:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ.
واستدلوا أيضا بما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه، جعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عدتها حيضة». ولو كان طلاقا لكانت عدتها ثلاثة قروء كما قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة ٢/ ٢٢٨].
وإذا وقع الخلع على غير عوض، كان طلاقا بائنا في رواية عن مالك. ووقع خلعا بعوض في الرواية الأخرى عنه، وفي رأي الحنفية والشافعية والحنابلة، لأن البدل في ذاته كالمهر لازم في الخلع على كل حال، بل إنه عند الحنابلة ركن، فإن خالعها بغير عوض، صح الخلع ولزم العوض عند الحنفية والشافعية، ولم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ طلاق، فيكون طلاقا رجعيا.
وهل يجبر الرجل على قبول الخلع؟
جميع الفقهاء يرون أنه لا يجبر الرجل على قبول الخلع، فلا بد فيه من التراضي بين الطرفين، لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
[النساء ٤/ ١٩] وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة ٢/ ٢٢٩] وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا.
وقال ابن رشد: والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك (أبغض) المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل «١».
وأما أهلية الخلع: فكل من يصح طلاقه يصح خلعه، فيصح الخلع عند الجمهور من البالغ العاقل، رشيدا أو سفيها. وأجاز الحنابلة: أن يكون مميزا يعقله. أما من لا يصح طلاقه ولا يصح خلعه فهو كالصبي والمجنون والمعتوه ومن اختل عقله لمرض أو كبر سن.
وللرشيدة «٢» أن تخالع عن نفسها في رأي الجمهور، أما السفيهة فلا تخالع لأنها محجورة. ويصح الخلع من الحاكم ولي غير المكلف من صبي أو مجنون إذا كان في الخلع مصلحة. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي وأحمد للأب خلع زوجة ابنه الصغير والمجنون ولا طلاقها. وقال مالك: يخالع الأب على ابنه الصغير وابنته الصغيرة، لأنه في رأيه يطلّق على الابن، ويزوج الصغيرة. وأما الطلاق بعد الخلع في العدة: بأن خالع الرجل زوجته، ثم طلقها، وهي في العدة، فيلحقها في رأي الحنفية، ولا يلزمها في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد).
(٢) الرشد عند الحنفية: صلاح المال ولو كان فاسقا، وعند الشافعية: صلاح الدين والمال، فلا يكون الفاسق رشيدا.
٣- نكاح المبتوتة:
وهي المطلقة طلاقا ثلاثا.
لها أن تتزوج بزوج آخر بعد انتهاء العدة من الزوج الأول، وتحل للزوج الأول إن كان الزواج الثاني قائما على الرغبة والدوام والبقاء لا السفاح، وحدث طلاق من غير تواطؤ، وانقضت العدة بعد هذا الطلاق.
واختلف في ذلك النكاح الذي اشترط لحل المطلقة ثلاثا، فذهب سعيد بن المسيب إلى أنه العقد، فتحل المطلقة ثلاثا للأول بمجرد العقد على الثاني. وهذا من شذوذاته»
. وذهب سائر العلماء إلى أن المراد به الوطء، كما بينا: وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج، ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق. واشترط مالك أن يكون الوطء مباحا: بألا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا.
واشترط أحمد أيضا أن يكون الوطء حلالا، وأن يكون الواطئ له اثنا عشر سنة. ولم يشترط أبو حنيفة كون الوطء مباحا، فيجوز في وقت غير مباح كحيض أو نفاس، وأجاز كون الواطئ بالغا عاقلا أو صبيا مراهقا أو مجنونا، لأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل. واتفق علماء المذاهب الأربعة على أن النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا، ويشترط أن يكون النكاح صحيحا.
ومنشأ الخلاف بين ابن المسيب والجمهور: أن النكاح ورد في القرآن بمعنى العقد والوطء، واحتمل أن يكون المراد بقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ:
العقد أو الوطء، فجاءت السنة وبينت أن المراد به الوطء، كما قدمنا في الأحاديث.
وقد عرفنا حكم نكاح المحلل، وهو البطلان في رأي مالك وأحمد والثوري وأهل الظاهر. والكراهة في رأي الحنفية والشافعية، ما لم يشترط التحليل في العقد.
وإذا عقد الزوج الأول على المطلقة من الثاني ضمن قيود الشريعة عادت إليه بطلقات ثلاث.
وهل يهدم الزواج الثاني مادون الثلاث؟ فيه رأيان:
قال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة، ومحمد وزفر من الحنفية) :
لا يهدم، أي أن المطلقة مرة واحدة أو مرتين، ثم تزوجت زوجا آخر، ثم رجعت إلى زوجها الأول، تكون على ما بقي من طلاقها، لأن الوطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والإمامية في أشهر الروايتين: إنه يهدم، فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث، كما يهدم ما دون الثلاث، لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة، فهو أحرى أن يهدم ما دونها، لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلا يتسع ثلاث تطليقات، فيتسع لما دونها بالأولى.
وهل على الزوجة خدمة؟
اختلف المالكية، فقال بعضهم: ليس على الزوجة خدمة، لأن العقد يتناول الاستمتاع، لا الخدمة، فهو ليس بعقد إجارة، ولا تملّك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء ٤/ ٣٤].