
قولنا: تمر عتيق.
وتقدم بالرتبة الوضيعة نحو قولنا: الواحد قبل الاثنين، وقوله: " الذين " ها هنا يتناول نوع العقلاء وغيرهم من جميع الأشياء.
وفي ذلك تنبيه أن الله تعالى خالقنا وخالق كل ما تقدمنا، وكل ما هو سبب في وجودنا وحصولنا من الآباء والأمكنة والأزمنة والسماء والأرض وسائر ما لو توهمناه مرتفعاً لم يحصل، وأخرج الكلام مخرج المقرر عند المخاطبين أنه تعالى خالق الكل ومبدع الجميع، فعلم ذلك عندهم إما موجود وإما ممكن وجوده، ولهذا قال ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ولعل ذكر بعضهم أن معنى ما في غاية القرآن، قال: لأن " لعل " للشك، والشك لا يصح على الله تعالى، فكما لا يصح أن يقول أرجو، وأشك وأظن، فكذلك لا يصح منه أن يقول " لعل " و " عسى " بمعنى ذلك فثبت أن معناه إذا أورده معنى ما وهذا تصور بعيد، وذاك أن القائل إذا قال: " إفعل كذا لعلك تفلح يصح أن يكون " لعلك " حال للمخاطب بمعنى أنا طامع راج لفلاحك ويصح أن يكون للمخاطب بمعنى " وأنت طامع في فلاحك "، ولما دلت الدلالة أن الطمع إنما يكون لمن يخفى عليه العواقب، علم أنه لا يصح أن يكون لله تعالى إذا ورد في كلامه، فصار ذلك حال للمخاطب كأنه قال: " اعبدوا ربكم راجين تقاكم "، وإخراج الكلام على ذلك لأن من شرط المكلف أن يكون واقفا بين الرجاء والخوف ولذلك قال في مدح المؤمنين ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ وقال: ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ وكذلك التقوى فقد تقدم أن لها ثلاث منازل: الأولى: ترك الكفر، والثانية: ترك المحارم التي تحظرها الشريعة.
والثالث: حفظ الخواطر والنيات، والآخران اللذان رجانا هما الله تعالى ها هنا دون الأولى، إذ لا يصح فعل العبادة مع وجود الكفر، وحقيقة التقوى جعل النفس في وقاية من كل ما يبعد عن الله تعالى ولهذا قال بعض المحققين التقوى أن يتجنب الإنسان بغاية جهده الأخلاق الحيوانية، ويتخصص بالأخلاق الملكية، فلا يكون متكبراً كالنمر، ولا معيناً كالكلب، ولا حقوداً كالجمل، ولا غمراً كالثور، ولا جاهلاً كالحمار - وقد نبه بالآية أن العبادة لله تعالى هي المبلغة بنا إلى نهاية التقوى التي يستحق بها حوار الله تعالى، نحو قوله عز وجل: ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
قوله - عز وجل -: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ الآية (٢٢) - سورة البقرة.
جعل: لفظ عام في الافعال كلها، ويتصرف على ثلاثة أوجه: تارة تجري مجرى صار، و " طفق "

فلا يتعدى مثل قولك جعل زيد يقول كذا، قال الشاعر:
وقد جعلت قلوص بني سهيل....
من الأكوار مرتعها قريب
وتارة تجري مجرى " أوجد، فيتعدى إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ وتارة تجري نجرى صير وكون فيتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ وتقول جعلته خارجاً إذا جملته على الخروج وإذا أخبرت عنه بالخروج أو حكمت له سواء كان خارجاً أو لم يكن والفراش والبساط متقاربان وهو كل ما فرش من ثوب أو غيره والبناء لكل مرتفع وحائط وغيره والقصد بالآية إلى ما جعله الله تعالى لنا من الآية الواصلة إلينا من السماء والأرض وما بينهما ودل على ذلك بأظهر الآلاء وأقربها من الحواس وقد بسط ذلك المعنى بأبلغ من هذا في قوله ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وهذا المعنى على مقتضى ظاهر اللفظ.
وقد قال بعض المفسرين إن الله تعالى مع إرادته لهذا المعنى جعل ذلك مثلاً فذلك أنه جعل الأرض فراشاً أي مركباً من قوله: " افترشت البعير " إذا ركبته، (والسماء بناء) أي الجنة مقراً أو منزلاً، وجعل ما يصل إلينا من الوحي والعلم ماء، وما يثمره من الأعمال الصالحة التي هي سبب الحياة الأبدية ثمرات، وهذا إذا جعل مثلاً فليس ببعيد، إذ قد علم أن السماء تجعل مثلاً لكل منزلة رفيعة كقول الشاعر:
نالوا السماء فأمسكوا بعنانها...
حتى إذا كانوا هناك استمسكوا
ولا منزلة أرفع من الجنة، ثم لما كانت الجنة في السماء على ما روي في الخبر صح أن يعبر به عنها وقد جعل الأرض مركباً لنا لما روى في الخبر: " اجعلوا الدنيا مطية تبلغكم إلى الآخرة، واجعلوا الآخرة دار مقركم ومحط رحالكم، وجعل المساء مثلاً للعلم والحكمة حتى قيل في قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أنه عنى بالماء القرآن بدلالة أنه علقه بالسماع، وليس الماء مما يسمع، وفي قوله - عز وجل - ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ أنه عنى به القرآن، فذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ويروى أن رجلاً قال لابن سيرين:

رأيت في منامي كأن ماء يتبعني وأنا أهرب منه وكنت عطشان "، فقال إنه يعرض عليك علم أنت محتاج إلهي وتأبى أن تتعلمه "، وجعل الثمر مثلاً لما يتحصل من الأفعال الصالحة عن ذلك البيان، وقد جعل الله تعالى الماء والثمر مثلاً في قوله ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ الآية..
، وجعل بعضهم ذلك مثلاً على وجه آخر، فقال: الأرض مثل للأبدان، والسماء مثل للعقل، والماء مثل لما أفاض الله به علينا من العلوم المكتسبة التي تحصل بواسطة العقل.
والثمرات التي جعلها الله رزقاً لنا مثل لما يحصل من الأفعال التي تقتضيها العلوم والله أعلم.
وهذا يكون أبلغ في المعنى، لأنه يحصل مع المعنى المحسوس معنى معقول.
والله أعلم.
قوله - عز وجل -: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الآية: (٢٢) - سورة البقرة.
الند والشبه والمساوي والشكل والمثل متقاربة المعنى، لكن بيناه فروق - فند الشيء هو المشارك له في الجوهر وإن خالفه في الكمية والكيفية وشبهه مماثله في الكيفية، وإن خالفه في غيرها ومساويه مماثله في الكمية كلها وإن خالفه في غيرها، وشكله مماثله في القدر والمساحة ويدل على هذا الفرقان إنه إذا قيل ما هذا؟ فيقال: ند كذا، أو يقال كم هذا؟ فيقال مساو لكذا، أو يقال: كيف هذا؟ فيقال: شبه كذا قنع المخاطب متى عرف المشبه به، ولو قال كم هذا؟ فيقال: شبه هذا أو قال كيف هذا؟ فيقال مساو لهذا لم يقنع به، والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبيه من كل وجه خصه بالذكر، فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وقال أبو عبيد: الند " هو الضد، وهذا نظر منه إلى بعض الأنداد،

وذلك أن الشيئين قد يشتركان في الجوهر، ثم يختلفان في فصل ما، كالإنسان والفرس فإنهما مشتركان في الحيوانية، ومنفصلان في كثير من المعاني فمن اعتبر في مثل ذلك ما بينهما من الفصل قال: الند: هو الضد أو المخالف لأن أهل اللغة يطلقون الضد على المتقابلين، وعلى المختلفين كثيراً على ما يدل عليه كلامهم في الأضداد، وقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ عام في النهي عن الشرك المطلق وعن الدقائق المؤدية إلى الشرك المنبأ عنه بقوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ ولهذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في هذه الآية هو قول الرجل: (لولا نباح الكلب لدخل علي اللص) وقيل: هو نهي لقوم كانوا يقولون: إن شاء الله وشاء رسول الله - عليه السلام: " أمثلان أمثلان؟ قولوا إن شاء الله " فأنزل الله هذه الآية.
إن قيل: ما وجه قوله: " وأنتم تعلمون "؟ فإن ذلك إن جعلته خبراً مستأنفاً، فلابد له من ذكر معلم يقترن به حتى يحصل به تمام الخبر، إن جعلته حالاً يصير تقديره: " لا تجعلوا له أنداداً في حال علمكم "، وذلك غير صحيح، لأن جعل الأنداد محظور في كل حال، قيل إن ذلك حال للمنتهي، وليس الاتيان به شرطاً لقصر الحكم على هذه الحال، وإنما هو تنبيه على قبح فعلهم، لأن مرتكب القبيح مع علمه بقبحه أعظم جرماً، وإذا قيل: " لا تكفر معانداً " فذلك نهي عن الكفر وعن العناد، فكذلك هذا، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ ثم قوله: (وأنتم تعلمون) عام فيمن حصل له العلم بذلك، وفيمن له التمكن مع العلم به، فقد