
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ إن رجع الضمير إلى أصحاب المطر وهم الذين شبه بهم المنافقين:
فهو بيّن في المعنى، وإن رجع إلى المنافقين: فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين:
أحدهما: تكاد براهين القرآن تلوح لهم كما يضيء البرق، وهذا مناسب لتمثيل البراهين بالبرق حسبما تقدم، والآخر: يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم كما يكاد البرق يخطف أبصار أصحاب المطر المشبه بهم كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه يلوح لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان: ثبتوا على كفرهم، وقيل:
إنّ المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا قالوا هذا دين مبارك فهذا مثل الضوء، وإذا أصابتهم شدّة أو مصيبة عابوا الدين وسخطوا: فهذا مثل الظلمة، فإن قيل: لم قال مع الإضاءة كلما، ومع الظلام إذا؟ فالجواب أنهم لما كانوا حراصا على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي التكرار والكثرة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الآية: إن رجع إلى أصحاب المطر: فالمعنى لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد وأبصارهم بالبرق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم، والباء للتعدية كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية لما قدّم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف: المؤمنين، والكافرين والمنافقين:
أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله، وجاء بالدعوة عامة للجميع لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بعث إلى جميع الناس اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدا، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركا، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنا لَعَلَّكُمْ يتعلق بخلقكم: أي خلقكم لتتقوه كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] أو بفعل مقدّر من معنى الكلام أي:
دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون، وهذا أحسن. وقيل: يتعلق بقوله: «اعبدوا» وهذا ضعيف. وإن كانت لعل للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين، جريا على عادة كلام العرب، وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال، والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو: عسى، فإذا قالها الله: فمعناها أطباع العباد، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى:
الْأَرْضَ فِراشاً تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء مِنَ الثَّمَراتِ من للتبعيض أو لبيان الجنس، لأنّ الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها

والباء في به سببية، أو كقولك: كتبت بالقلم لأنّ الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لا ناهية أو نافية، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأوّل أظهر أَنْداداً «١» يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جلّ وعلا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي: وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين، ويحتمل أن يتعلق بقوله: «اعبدوا» والأوّل أظهر.
فوائد ثلاث
الأولى: هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين: أحدهما: إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والسموات. والآخر: ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام، فذكر أوّلا ربوبيته لهم، ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم، لأنّ الخالق يستحق أن يعبد، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشا والسماء بناء، ومن إنزال المطر، وإخراج الثمرات، لأنّ المنعم يستحق أن يعبد ويشكر، وانظر قوله: جعل لكم، ورزقا لكم: يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع.
الثانية: المقصود الأعظم من هذه الآية: الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها: فلا تجعلوا لله أندادا، وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا: لا إله إلّا الله، فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلّا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات «٢»، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسموات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار، وذلك أنها تدلّ بالعقل على عشرة أمور. وهي: أنّ الله موجود، لأنّ الصنعة دليل على الصانع لا محالة، وأنه واحد لا شريك له، لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: ١٧] وأنه حيّ قدير عالم مريد، لأنّ هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها، وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث، وأنه باق، لأنّ ما ثبت قدمه استحال عدمه، وأنه حكيم، لأنّ آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت، وأنه رحيم، لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات وما في الأرض. وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لعلكم تتقون على
(٢). ربما في الكلام نقص. والله أعلم.