
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ... الآيَةَ: «يَا» : حرفُ نداءٍ، وفيه تنبيهٌ، و «أَيُّ» هو المنادى، قال مجاهد: يا أَيُّهَا النَّاسُ حيث وقع في القرآن مكّيّ، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مدنيٌّ «١».
قال ع «٢» : قد تقدَّم في أول السورة أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدنيّ:
يا أَيُّهَا النَّاسُ.
وأما قوله في: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فصحيح.
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: معناه: وحِّدوه، وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم إِذ كانت العرب مقرة بأن اللَّه خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجةً عليهم، ولعل في هذه الآية قال فيها كثيرٌ من المفسِّرين: هي بمعنى إيجاب التقوى، وليست من اللَّه تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع، وفي «مختصر الطَّبَرِيِّ» : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عن مجاهد، أي: لعلَّكم تطيعون «٣»، والتقوَى التوقِّي من عذاب اللَّه بعبادته، وهي من الوقاية، وأما «لَعَلَّ» هنا، فهي بمعنى «كَيْ» أو «لامِ كَيْ»، أي: لتتقوا، أوْ لكَيْ تتقوا، وليست هنا من اللَّه تعالى بمعنى الترجِّي، وإنما هي بمعنى كَيْ، وقد تجيء بمعنى «كَيْ» في اللغة قال الشاعر: [الطويل]
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا | نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ موثق «٤» |
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٠٥).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ١٩٦) برقم (٤٧٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٧٤)، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.
(٤) وبعده:
فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم | كلمع سراب في الملا متألّق |

انتهى.
قال ع «١» : وقال سيبويه «٢» : ورؤساءُ اللِّسَان: هي على بابها، والترجِّي والتوقُّع إنما هو في حيز البشر، أي: إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجَوْتُمْ لأنفسكم التقوى، و «لَعَلَّ» : متعلِّقة بقوله: «اعبدوا»، ويتجه تعلُّقها ب «خَلَقَكُمْ» أي: لَمَّا وُلِدَ كلُّ مولود على الفطرة، فهو إِن تأمله متأمِّل، توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و «تَتَّقُونَ» : مأخوذ من الوقاية، وجعل بمعنى «صَيَّرَ» في هذه الآية لتعدِّيها إِلى مفعولين، و «فِرَاشاً» معناه: تفترشونها، و «السَّمَاء» قيل: هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل: هو جمعٌ، واحده سَمَاوَة، وكلُّ ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ يريد السحاب، سمي بذلك تجوُّزاً لَمَّا كان يلي السماء، وقد سَمَّوُا المطر سماءً للمجاورة ومنه قول الشاعر: [الوافر]
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ | رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا «٣» |
وواحد الأنداد نِدٌّ، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأوّلون من المخطاب بهذه الآية، فقالتْ جماعة من المفسِّرين: المخاطَبُ جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا:
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يريد العلم الخاصَّ في أنه تعالى خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق، وقيل: المراد كفَّار بني إسرائيل، فالمعنى: وأنتم تعلَمُون من الكتب التي عندكم أنّ الله لا
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٠٥).
(٢) عمرو بن عثمان بن قنير الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب «سيبويه» : إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو. ولد في إحدى قرى «شيراز»، وقدم «البصرة»، فلزم الخليل بن أحمد، ففاقه، وصنف كتابه المسمى «كتاب سيبويه» في النحو. لم يصنع قبله ولا بعده مثله، ناظر الكسائي وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم. كان أنيقا جميلا، توفي شابا، ولد سنة (١٤٨ هـ.) وتوفي سنة (١٨٠ هـ.).
ينظر: «ابن خلكان» (١: ٣٨٥)، «البداية والنهاية» (١٠: ١٧٦)، «الأعلام» (٥/ ٨١).
(٣) البيت لمعود الحكماء. انظر: «تأويل مشكل القرآن» (١٣٥)، الأصبهاني (٢١٤)، الصاحبي (٦٣)، «معجم الشعراء» (٣٩١)، «المفضليات» (٣٥٩)، «الصناعتين» (٢١٢)، «معجم مقاييس اللغة» (٣/ ٩٨)، «العمدة» (١/ ٢٣٧)، وفيه النسبة لجرير بن عطية، «معاهد التنصيص» (٢/ ٢٦٠).
والشاهد فيه: الاستخدام، وهو أن يراد بلفظ له معنيان: أحدهما، ثم يراد بضمير الآخر، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما، ثم يراد بالآخر الآخر، فالأول كما في البيت هنا، فإنه أراد بالسماء الغيث، وبالضمير الراجع إليه من «رعيناه» النبت.

ندَّ له، وقال ابنْ فُورَكَ «١» : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ، أي: في شكٍّ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ:
الضمير في «مِثْلِهِ» عند الجمهور: عائد على القرآن «٢»، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، أي: مَنْ شهدكم وحضركم من عون ونصير قاله ابنُ عَبَّاس «٣» : إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أي: فيما قلتم من أنَّكم تقدرون على معارضته. ويؤيِّد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى: / ١٢ ب لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١]، وفي قوله جل وعلا: وَلَنْ تَفْعَلُوا إِثَارةٌ لِهِمَمِهِمْ، وتحريكٌ لنفوسهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ: أمر بالإيمانِ وطاعةِ اللَّه، قال الفَخْر «٤» ولما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلم وإِذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، واتقاءُ النار يوجب ترك العناد فأقيم قوله: فَاتَّقُوا النَّارَ مُقَامَ قوله: «واتركوا العِنَادَ»، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة وذلك يدلُّ على قوتها، نجَّانا اللَّه منها برحمته الواسعة.
وقرَنَ اللَّه سبحانه النَّاسَ بالحجارة لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناماً يعبدونها قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨] فإحدى الآيتين مفسِّرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوع ما منعوا، انتهى.
(٢) وقال قوم آخرون: إن معنى قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: من مثل محمد من البشر لأن محمدا بشر مثلكم، يعني لأنه لم يكن قرأ الكتب ولا درس، فأتوا بسورة فيها حق من مثل محمد، كما جاء بذلك صلّى الله عليه وسلم.
ينظر: «تفسير الطبري» (١/ ٣٧٤)، و «بحر العلوم» للسمرقندي (١/ ١٠٢).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٢٠٢) برقم (٤٩٦)، وذكره ابن عطية (١/ ١٠٧)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٧٧)، وعزاه لابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم.
(٤) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٢/ ١١٢).