
الحسنة والبعد عن المنكر. ومن ثم فإن المسلمين أمروا بأن يدعوا لأجل جمع خير الدنيا والآخرة لهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
. (١) ألدّ الخصام: أشد الناس في العداوة والخصومة.
(٢) يهلك الحرث والنسل: كناية عن الإيغال في الفساد والعدوان وأثرهما في الناس والبلاد.
(٣) أخذته العزة بالإثم: كبر عليه قول الناس له اتق الله وأخذته حمية النفس والاعتداد بها وحملته على الإصرار على الإثم.
(٤) يشري نفسه: يبيع نفسه، والمعنى يقدم على تضحية نفسه.
في هذه الآيات: وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافا لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكبارا من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلا لرضاء الله.
وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده، وقد صرف بعض

المفسرين «١» هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم إن جملة: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة.
تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والآيات الأربع التالية لها
والآيات كما يبدو فصل جديد، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد.
وقد روى المفسرون»
أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وصار يقسم له أنه محبّ له وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية «٣» أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم «٤». ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «أقبل صهيب مهاجرا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم جلا، وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي
(٢) انظر تفسير المنار.
(٣) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير والبغوي.
(٤) انظر كتب التفسير السابقة وتفسير القاسمي معها.

بمكة وخلّيتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» «١». وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا «٢».
والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني.
وأسلوب الآيات مطلق حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان.
ووصف المنافق قوي نافذ، وفيه جملة لاذعة، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضررا أو فسادا في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص.
ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة وَإِذا تَوَلَّى بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتا في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» «٣». وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة
(٢) المصدر السابق نفسه.
(٣) التاج ج ٥ ص ٤١.