
والمختار في هذه الآية ما ذكره الفراء، وهو أنه قال: المعنى: لا تصانعوا بأموالكم الحكام، ليقتطعوا لكم حقًّا لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم (١).
قال الأزهري: وهذا عندي أصح القولين؛ لأن الهاء في قوله ﴿بِهَا﴾ للأموال، وهي على قول الزجاج للحجة، ولا ذكر لها في الكلام (٢). واختار ابن قتيبة أيضًا قول الفراء، فقال: يقول: لا تُدْلِ بمالِ أخيك إلى الحاكم ليَحكمَ لك به وأنت تعلم أنك ظالم له (٣).
وقوله تعالى: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا﴾ أي: طائفة (٤). ﴿مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ قال ابن عباس: يريد باليمين الكاذبة (٥).
وقال غيرُه: بالباطل (٦)، يعني: بأن يرشو الحاكم ليقضي له ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم مبطلون وأنه لا يحلُّ لَكم (٧).
١٨٩ - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ الآية. قال المفسرون: سأل معاذ بن جبل رسول الله - ﷺ - عن زيادة القمر ونقصانه؟ فأنزل الله هذه الآية (٨).
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢١٤ (دلو).
(٣) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٧٥.
(٤) "تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٣٢٢، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٣٨٦، "البحر المحيط" ٢/ ٥٧.
(٥) هذا من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة.
(٦) "تفسيرالثعلبي" ٢/ ٣٨٦.
(٧) "تفسير الطبري" ٢/ ١٨٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٣٢٢، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٣٨٦، "البحر المحيط" ٢/ ٥٢.
(٨) رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" ١/ ٤٩٣، وعزاه السيوطي في "لباب النقول" =

والأهلة: جمع هِلال، وهو غُرّة القمر حين يراها (١) الناس، يقال لها (٢): هلال ليلتين، ثم يكون قمرًا بعد ذلك.
وقال أبو الهيثم: يسمى القمر لليلتين من أول الشهر وليلتين (٣) من آخر الشهر: هلالًا، ويسمى ما بين ذلك: قمرًا، وسمي الهلال هلالاً: لأنه حين يرى يُهلِّ الناس بذكر الله وبذكره (٤).
ويقال: أُهِلّ الهلال، واستُهِلّ، وأهللنا الهلال، واستَهْلَلْناه (٥)، إذا بُني الفعل للهلال ضُمَّ، وإذا بُنِيَ للرائين فُتِح. هذا قول عامة أهل اللغة، وقال شمِر: يقال: استَهَلَّ الهلال أيضًا وشهر مُستَهِلٌّ، وأنشد:
(١) في (م): (تراها).
(٢) في (م) و (أ): (له).
(٣) من قوله: (ثم يكون قمرًا بعد ذلك). ساقط من (أ)، (م).
(٤) "تفسيرالثعلبي" ٢/ ٣٩٢.
(٥) في (م): (استهللنا).

وشهرٌ مُستهلٌّ بعد شَهْر | وحَوْلٌ بعدَه (١) حولٌ جديد (٢) (٣) |
أخبرَ اللهُ سبحانه أن الحكمةَ في زيادة القمر ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات الناس في حَجِّهم (٦)، وحَلِّ ديونهم، وعِدَدِ نسائهم، وأجور أُجَرَائِهم، ومُدَدِ حواملهم، ووقت صومهم وإفطارهم، فقال: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ (٧).
والمواقيت: جمع الميقات، والميقات: الوقت، كالميعاد بمعنى الوعد. وقال بعضهم: الميقات: منتهى الوقت، قال الله تعالى ﴿فَتَمَّ مِيقَتُ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: ١٤٢] والهلال: ميقات الشهر، ومواضع الإحرام:
(٢) البيت بلا نسبة في "لسان العرب" ٨/ ٤٦٩٠ (هلل). ورواية "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٨٤ (هلل: ويومٌ بعده يومٌ قريب).
(٣) ينظر في هلال: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٨٤ - ٣٧٨٨، "المفردات" ص٥٢٢، "اللسان" ٨/ ٤٦٩٠ (هلل).
(٤) في "معاني القرآن" للزجاج: نحو هلل وخلل، فقالوا: أهلة وأخلة.
(٥) من "معاني القرآن" ١/ ٢٦٢.
(٦) في (ش): (حجتهم).
(٧) "تفسير الثعلبي" ٢/ ٣٩٢، وينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٨٥، "البحر المحيط" ٢/ ٦١.

مواقيت للحج؛ لأنها مقادير يُنْتَهَى (١) إليها (٢). ولا يصرف مواقيت؛ لأنها غاية للجموع، فصار كأن الجمع تكرر فيها. فإن قيل: لم صرفت ﴿قَوَارِيرَ﴾ [الإنسان: ١٥]؟ قيل: لأنها فاصلة وقعت في رأس آية، فنُوِّن ليجري على طريقة الآيات كما ينون القوافي في مثل:
أقلي اللومَ عاذلَ والعتابا (٣)
فالألفُ بدلٌ من التنوين، وليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تَمَكُّن الاسم، وإنما هو للفاصلة (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ قال عامة أهل التفسير: كان أهلُ الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم نَقَبَ في بيته نَقْبًا من مُؤَخَّرِه يخرج منه ويدخل، إلا قريشًا ومن دانوا بدينهم، فبينما رسول الله - ﷺ - وهو (٥) محرم، ورجل محرم فرآه دخل من باب حائط، فاتبعه ذلك الرجل، فقال له: تنح عنى، قال: ولم؟ قال: دخلت من الباب وأنت محرم! فوقف ذلك الرجل فقال: إني رضيت بسنتك وهديك، وقد
(٢) ينظر في المواقيت: "تفسير الثعلبي" ٢/ ٣٩٢، "المفردات" ٥٤٤، "البحر المحيط" ٢/ ٥٩، "اللسان" ٨/ ٤٦٩٠ (هلل).
(٣) عجز البيت:
وقولي إن أصبت لقد أصابا
مطلع قصيدة لجرير يهجو فيها عبيدا الراعي والفرزدق في "ديوانه" ص ٨١٣، "أوضح المسالك" ١/ ١٤. وقوله: عاذل: هو مرخم عاذلة، وهو اسم فاعل مؤنث من العذل، وهو اللوم والتوبيخ.
(٤) ينظر: "البحر المحيط" ٨/ ٣٩٧، "أوضح المسالك" ١/ ١٤.
(٥) ساقطة من (ش).

رأيتك دخلت فدخلت على إثرك، فقال النبي - ﷺ -: "إني أحمس" (١)، يعني: قرشي، وكانت قريش لا تفعل ذلك، قال الرجل: فإن كنت أحمس فإني أحمس (٢) ديننا واحد، فأنزل الله هذه الآية (٣)، وأعلمهم أن تشديدهم في الإحرام ليس ببر، ولكن البِرَّ بِرُّ من اتقى مخالفةَ اللهِ، وأمرهم بتركِ سُنَّةِ
(٢) سقطت من (ش).
(٣) أورده بهذا اللفظ الثعلبي ٢/ ٣٩٤، وكذا ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٥٦، دون سند، وقد جمعه من آثار متفرقة كما ذكر الحافظ في "العجاب" ١/ ٤٥٨، وقد روي نحو هذا عن جابر، رواه ابن أبي حاتم ١/ ٣٢٣، والحاكم ١/ ٦٥٧، وصححه وعزاه الحافظ في "الفتح" ٣/ ٦٢١ إلى ابن خزيمة وعبد بن حميد وأبي الشيخ وبقي، وقال في "العجاب" ١/ ٤٥٦: هو على شرط مسلم ولكن اختلف في إرساله ووصله، وروى الطبري ٢/ ١٨٨، وابن أبي حاتم ١/ ٣٢٣ من طريق العوفي عن ابن عباس بنحوه، كما رواه الطبري ٣/ ٥٥٦ عن قيس بن حبتر، وأصل السبب رواه البخاري (١٨٠٣) كتاب العمرة، باب: قول الله تعالى: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، ومسلم (٣٠٢٦) كتاب التفسير من حديث البراء بن عازب.

الجاهلية فقال: وأتوا البيوت من أبوابها.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ كقوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧]، وقد مرَّ.
وذهب أبو عبيدة في تفسير هذه الآية إلى غير ما ذكرنا، وهو أنه قال: معناه: ليس البرُّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله، وتلتمسوا الأمر من غير بابه، ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾. أي: اطلبوا الخير من وجهه والأمر من بابه (١)، والقول ما عليه العامة.
واختلف القراء في ﴿الْبُيُوتَ﴾ وأخواته، كالجيوب والغيوب، فقرؤوا بضم أولها وكسره (٢)، فمن ضم فهو الأصل، لأن فَعْلًا يجمع على فُعُول بضم الفاء، ومن كسر فلأجل موافقة الياء، فإن الكسرة أشد موافقة للياء من الضمة، ولا يستقبح ذلك، وإن لم يكن في كلامهم فِعُل؛ لأن الحركة إذا كانت للتقريب من الحرف لم تُكره، ولم تكن بمنزلة مالا تقريب فيه، ألا ترى أنه لم يجئ في الكلام عند سيبويه على فِعِل إلا إِبِل، وقد أكثروا من هذا البناء، واستعملوه على اطراد، إذا كان القصد فيه تقريب الحركة من
(٢) قال في "النشر" ٢/ ٢٢٦: واختلفوا في الضم والكسر من (بيوت، والغيوب، وعيون، وشيوخا، وجيوب) فقرأ بضم الباء من (البيوت وبيوت) حيث وقع: أبو جعفر والبصريان (أبو عمرو ويعقوب) وورش وحفص، وقرأ بكسر الغين من (الغيوب) وذلك حيث وقع: حمزة وأبو بكر، وقرأ بكسر العين من (العيون وعيون)، والشين من (شيوخا) وهو في في كافر، والجيم من (جيوبهن)، وهو في سورة النور: ابن كثير وحمزة والكسائي وابن ذكوان وأبو بكر، إلا أنه اختلف عنه في الجيم من جيوبهن.