آيات من القرآن الكريم

۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ

القاتل إذا استحل القتل كفر، ويقتل حدا، وإذا لم يستحله فلا، إلا أنه يكون مؤمنا فاسقا عاميّا، لأن من يقترف الكبائر دون استحلال يبقى على إيمانه بدليل تسميتهم مؤمنين، لأن الله تعالى صدر الآية بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وبدليل تسمية القاتل أخا لولي المقتول، فلولا أن الإيمان باق عليه لم تثبت له أخوة ولي المقتول، وبدليل ندب الله تعالى ولي المقتول للعفو عنه، والعفو من صفات المؤمن أما الآية ٩٢ من سورة النساء الآتية محمولة على الاستحلال، هذا والله أعلم.
مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي:
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بأن ظهرت آثاره عليه وكان قادرا على الإيصاء «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» مالا كثيرا «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» بر أي إذا لم يكونا أهلا لاستحقاق الإرث كما سيأتي «وَالْأَقْرَبِينَ» غير الوارثين أيضا وعلى المؤمن أن لا يخص بوصيته الأغنياء، لأن الفقراء أحق بالوصية إلا إذا كانوا فسقة وغلب على ظنه إنفاق ما يوصي به إليهم في طرق الشر، وهذه الوصية ينبغي أن تكون «بِالْمَعْرُوفِ» الذي لا وكس فيه ولا شطط بأن يعدل في ذلك عدلا «حَقًّا» لازما «عَلَى الْمُتَّقِينَ» (١٨٠) الإله الذي أمرهم بهذا، على أن لا يجنحوا بوصاياهم إلى غير العدل وإلى عدم الإيصاء إلا بالمعروف. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يوصون للأجانب طلبا للفخر والسمعة ورفع الصيت والشهرة، فأوجب الله في بداية الإسلام هذه الوصية لمن يترك مالا كثيرا بدليل تسميه خيرا، قال رجل لعائشة رضي الله عنها أريد أن أوصي، فقالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف درهم، قالت كم عيالك؟
قال أربعة، قالت إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا كثيرا، وهذا يسير، فاتركه لعيالك.
قال تعالى «فَمَنْ بَدَّلَهُ» أي القول الواقع من المريض الموصي «بَعْدَ ما سَمِعَهُ» منه سواء كان وصيا أو وليا عند الكتابة أو القسمة أو الشهادة، وسواء وقع التبديل في قول الموصي أو فيما أوصى به «فَإِنَّما إِثْمُهُ» أي التبديل الواقع من أولئك «عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» خاصة، أما الموصي والموصى له فهما بريئان من هذا الإثم، فإذا أخبر الوصي أو الشهود أن الموصي

صفحة رقم 124

أوصى للموصى له بأكثر من الموصى به وأخذه الموصى له غير عالم فلا إثم عليه، وإذا أخبروا بأقل منه فأخذه وسكت لعدم علمه فالموصي أيضا لا إثم عليه لأنه أوصى وحمل غيره مؤنة التنفيذ، ويكون الإثم في الحالتين على الوصي والشهود لكتمهم حقيقة الحال، ولهذا ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لقول الميت الموصي والوصي والشهود وبما أوصى به وشهدوا عليه «عَلِيمٌ ١٨١» بحقيقة الأمر ممن يبدل قول الموصي وبكتم الشهادة، وفي هذه الجملة من التهديد ما لا يخفى.
قال تعالى «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً» جورا وميلا وعدولا عن الحق في الوصية «أَوْ إِثْماً» ظلما منه فيها يستوجب الإثم بأن أسرف الميت في وصيته أو أخطأ فيها «فَأَصْلَحَ» هذا السامع الحاضر «بَيْنَهُمْ» بين الوصي والموصي له في الموصى به، واعلم (أن خافَ هنا بمعنى ظن في الكلام الشائع) وكيفية هذا الإصلاح المخاطب به كل من سمعه هو إذا رأى الوصي إفراطا في وصية الموصي بأن أوصى بأكثر من اللازم وكان عنده عيال فله أن ينصحه بأن يقتصد في الوصية فإذا لم يقبل ينصح الموصى له بأن يترك لورثة الموصي المفرط شيئا مما أوصى له به، فالفاعل لهذا من كل من يسمع وصية الموصي والمتوسط لعمل هذا الخير «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» في عمله بل يؤجر إذا خلصت نيته، وهذا قد يقع من الذين يكرهون أولادهم بقصد حرمانهم من الإرث فيوصون بجميع مالهم أو بأكثره للغير ولو تركوها لأولادهم لكان أحسن حتى لا يكونوا عالة على الناس، ولعل الله أن يصلحهم بسبب كفايتهم، وإن كان في هذا الفعل من الميت الموصي فيه ما فيه من الإثم فقد ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لمن فعل هذا وقبله «رَحِيمٌ ١٨٢» بالموصى له والورثة. وقد ذكرنا في الآية ٤٤ من سورة النحل ج ٢، وفي المقدمة ج ١ أن الآية لا تنسخ بالحديث، لأن الحديث لا ينسخ القرآن البتة، لأنه مهما كان صحيحا لا يساوي كلام الله فضلا عن أنه لا يكون خيرا منه، راجع الآية ١٠٧ المارة يظهر لك أن هذه الآية لم تنسخ بحديث (لا وصية لوارث) وإنما خصصت بآية المواريث الآتية في سورة النساء، وهذا الحديث لا يعارضها، لأن حضرة الرسول قال عند نزولها (إن الله قد أعطى كل

صفحة رقم 125

ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث) أي بعد أخذ حقه، فكان هذا الحديث مبينا لهذه الآية ومفيدا أن الله تعالى كتب عليكم أن تؤدوا للوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير انصبائهم، بل فوض ذلك إلى آرائكم إذ قال (بِالْمَعْرُوفِ) أي العدل، فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات، وأعطى كل ذي حق حقه منهم بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة، بأن يأخذ كل نصيبه المعين له في كلام الله إذ لم يبق مدخل للرأي في ذلك أصلا، وليس بعد بيان الله بيان، ومما يدل على عدم نسخ حكمها الذي قال به جمع من المفسرين ما ذهب إليه الحسن ومسروق وابن طاوس والضحاك ومسلم بن يسار بأن إطلاقها خصص بجواز الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين بسبب قتل أو رق خلاف دين، وبه قال ابن عباس وقتادة. ومن هنا تعلم أن لا نسخ في كتاب الله بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ، بل هو كما ذكرنا من حيث الإطلاق والتقييد والتخصيص والتعميم، تدبر. ولأن الوصية لمن لا يرث كالمذكورين أعلاه جائزة شرعا حتى الآن فضلا عن وقت نزول هذه الآية الكريمة، إذ كان كثير من الناس من أبوه أو أمه أو أبواه كفار وهو مسلم، وبالعكس، أو زوجته غير مسلمة، وبالعكس، تدبر. والآن كثير من المسلمين متزوجون بكتابيات.
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع السنة التاسعة من الهجرة من وجع اشتد بي، فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أما أتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قلت بالشطر؟ قال لا، قلت فالثلث يا رسول الله؟
قال الثلث والثلث كثير، أو قال والثلث كبير، إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. أي يسألونهم بأكفهم. ورويا عن ابن عباس قال في الوصية: لو أن الناس عفوا عن الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لسعد (والثلاث كثير)، وقال علي كرم الله وجهه: لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.

صفحة رقم 126

فمن أوصى بالثلث فلم يترك. هذا وانظر ما قالته عائشة رضي الله عنها آنفا.
اعلم أن الحكم الشرعي في الوصايا جوازها عند كثرة المال المتروك وقلة العيال، وتستحب للفقراء وطرق الخير، وتكره إذا خصّ بها الأغنياء، وتحرم لمن يغلب ظنه أنه يصرفها في المعاصي لما فيها من إعانة العاصي على المعصية. فالصدقة على الأغنياء الأتقياء أي الوصية لهم أفضل، والأفضل والأكثر ثوابا على الفقراء الأتقياء لما ورد: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم. أي أن الرجل كما يختار زوجته من أهل الدين، فكذلك ينبغي للمتصدق أن يخص بصدقته أهل الدين لينفقها في طاعة الله، ألا فليتق الله المؤمنون الموصوفون، وليعلموا بما يعود عليهم بالخير.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الرجل والمرأة (أي جنسهما) ليعملا بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران (أي يوصلا الضرر إلى آخر) في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الآية ١٢ من النساء الآتية، وذلك بأن لا يخص الوصية أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف الوصي أو الورثة فيها كما مرّ تفصيله.
مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٨٣» الله فتعرضون عن شهواتكم الخسيسة إلى طاعة ربكم النفسية، لأن الصوم يعقم الشهوة، وقد فرض الله تعالى على هذه الأمة المحمدية الصوم، وأعلنه رسولها محمد صلّى الله عليه وسلم على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، قبل غزوة بدر الموافقة في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة، بشهر وبضعة أيام، أي في أوائل شعبان، وقد أخبر الله في هذه الآية أن الصوم ليس من خصائص هذه الأمة بل هو فرض قديم، تعبد الله تعالى به الأمم السابقة، قالوا إن النصارى كانوا يصومون رمضان فشق عليهم في الحر فأجمعت علماؤهم على جعله في فصل معتدل من السنة بزيادة عشرة أيام كفارة

صفحة رقم 127

لعملهم، ثم إن أحد ملوكهم مرض فنذر زيادة سبعة أيام إن شفاه الله، فشفي، ثم كان ملك آخر فأكمله ثلاثة أيام فصار خمسين يوما، ثم خففوه على أنفسهم بالاقتصار على عدم أكل كل ذي روح، وهم يصومونه الآن على هذه الصورة في موسم الربيع، وقد تواترت الآثار على أن الصيام متعبد فيه من لدن آدم عليه السلام ولم تخل أمة منه، فهو عبادة قديمة لم يخل زمن منها البتة. والعبادة إذا عمت سهلت، وإذا خصت شقّت. وكان قبل الإسلام من كل شهر ثلاثة أيام ويسمونها الليالي البيض الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، وسميت بيضا لكمال البدر فيها، وبالنظر لما ورد فيها من الأخبار فإن بعض الناس وخاصة النساء يصومونها الآن، وكذلك اليوم العاشر من المحرّم الحرام المسمى عاشوراء، روى البخاري ومسلم عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (أي النكاح) فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (أي خصاء) لأن الوجيء رخي الخصيتين ودقهما، ولما كان هذا الصيام الذي كتبه الله تعالى مبهما بينه بقوله عز قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» أي أنه أكثر ممّا كان قبل متعارفا من صيام أيام البيض وعاشوراء، ولما كانت هذه الأيام أيضا مهمة لأنها غير محصورة فإنها تحتاج إلى التوضيح والتحديد، لأن لفظ أياما يحتمل يومين فأكثر لأن الأمم الماضية كانت تصوم أياما معلومات من أشهر مخصوصة كالمحرم ورجب وذي الحجة، وصيام موسى عليه السلام كان إتمام شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة فقد بينه بالآية التالية لهذه وشرع يبين الرخصة فيه فقال «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ» يشق عليه فيها الصيام فاضطر لما رأى من الكلفة في حضر أو سفر إلى الفطر «فَعِدَّةٌ» أي عليه صوم مقدار عدة الأيام التي أفطرها «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» بعد شفائه من مرضه أو عودته من سفره «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» يكلفون بصومه فيرون فيه كلفة زائدة لكبر أو عجز ولا يتمكنون من القضاء، لأن كل أيامهم هكذا بخلاف المرض غير المزمن والسفر المنقطع إذ يتمكنون فيما بعدها من قضاء ما أفطروه بالشفاء والإقامة، أما الذين لا شفاء لهم كالزمنى والمرضى

صفحة رقم 128

الذين لا يرجى برؤهم والهرم العاجز، فمثل هؤلاء إذا كانوا أغنياء يكون عليهم «فِدْيَةٌ» بدل صيامهم لأنهم معذورون كل عمرهم، والفدية الواجبة عليهم هي «طَعامُ مِسْكِينٍ» واحد غداءه وعشاءه عن كل يوم «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» بإطعام أكثر من مسكين نظرا لسعة حاله وطلبا للثواب وتحللا مما يجد في قلبه من الأسف على عدم قيامه بهذا الفرض وحرمانه من أجره لتصلبه في دينه «فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» عند ربه وأعظم ثوابا له «وَأَنْ تَصُومُوا» أيها المسافرون والمرضى والعجزة مع تجشّمكم مشقة الصيام «خَيْرٌ لَكُمْ» عند ربكم واطمن لقلوبكم وأكثر أجرا من أخذكم بالرخصة «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١٨٤) ما للصائم عند الله من الخير الذي هو خارج عن الحصر، فلو علمتم ذلك لتحملتم المشقة وصمتم براءة لذمتكم على أتم وجه وثلوجة لصدوركم بإزالة ما يحوك فيها من التأثم من الإفطار لأن الإثم حزاز القلوب وترقبا لحصول فرحة الإفطار وفرحة لقاء الملك الجبار.
وليعلم أنه يجوز الأخذ بهذه الأخيرية إذا لم يضر الصوم بالمريض أو المسافر أو العاجز، فإن ضرّ حرم عليهم الصوم ووجب الإفطار أخذا بالرخصة لصيانة النفس، إذ لا يجوز الأخذ بالعزيمة على الصيام إلا إذا تحقق القدرة وعدم المضرة، وإلا بأن علم من نفسه أو من إخبار طبيب أن الصوم يضره تركه حالا، ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
إذ صدر الجملة الذي ختم بها الآية (بإن) المفيدة للشك، أي إن كنتم تعلمون أن صيامكم خير من الإفطار بأن تقدروا عليه دون كلفة ضارة فصوموا، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا حرج في هذا الدين السمح، ويشير قوله تعالى عَلى سَفَرٍ) أنه لا يجوز الإفطار إلا لمن أدركه رمضان وهو متلبس بالسفر، لأن المراد بقوله الآتي (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضر رؤية الهلال وهو مقيم، ولهذا قال علي كرم الله وجهه وابن عباس رضي الله عنهما ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر. وأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر، أي إذا خرج من البلد وهو صائم فليس له أن يفطر هذا اليوم الذي أنشأ فيه السفر بعد تلبسه بالصيام، راجع كتاب الصوم الجزء الثالث ص ٩١ من مبسوط الإمام السرخسي وهو موافق لظاهر القرآن، لأن كلمة على سفر غير كلمة مسافر.

صفحة رقم 129

ثم بين تلك الأيام التي ذكرنا أنها تحتاج إلى التبيين بقوله جل قوله «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وهذا من التدريج أحد أنواع البديع إذ لم يذكر نزوله في هذه الآية ليلا أم نهارا، ثم أنزل قوله تعالى (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أول سورة حم الدخان في ج ٢ ولم يذكر أي ليلة هي فأنزل الله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) هكذا ذكر الإمام الغزالي في إحيائه. على أن نزول سورة القدر قبل نزول حم الدخان، ونزولهما في مكة، والآية التي نحن بصددها نزلت في المدينة بعد سنين، فلا يتجه هذا بحسب النزول، أما على ترتيب القرآن فلا قول فيه، تأمل. ومن كرامة هذا الشهر على الله أنه أنزل فيه الكتب السماوية كلها، روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أنزلت صحف إبراهيم لثلاث ليال مضين من رمضان، وأنزلت توراة موسى لست ليال من رمضان، وأنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة مضين من رمضان، وأنزل زبور داود لاثنتي عشرة ليلة من رمضان، وأنزل القرآن في الرابعة والعشرين لست بقين من رمضان، وتقدم أنه أنزل في السابعة عشرة أو العشرين منه كما أو ضحناه في المقدمة في بحث نزول القرآن، فيكون المراد من إنزاله في الرابعة والعشرين هو إنزاله جملة واحدة إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم بدأ بإنزاله على حضرة الرسول في السابعة والعشرين، راجع المقدمة تقف على أصح ما جاء في هذا، «هُدىً لِلنَّاسِ» هو نفسه هدى على الإجمال «وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» على التفصيل للحلال والحرام والحدود والأحكام «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ» وكان حاضرا مقيما غير معذور «فَلْيَصُمْهُ» وجوبا «وَمَنْ كانَ» حين هل الشهر أو قبله «مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ» وجوبا «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» يصومها بدلها حال إقامته وشفائه «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ» أيها الناس «الْيُسْرَ» فيرخص لكم الإفطار في المرض والسفر والعجز «وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فيشدد عليكم بما لا تقدرون عليه ولا تستطيعونه لأن الدين يسر «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» لأيام الشهر كله أداء وقضاء «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» لصيامه وإكماله، إذ قدركم عليه «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (١٨٥) ربكم الذي

صفحة رقم 130

لم يجعل عليكم حرجا في ما شرعه عليكم من الدين وتحمدونه على ما كتب عليكم من فرضه وما جعل لكم من الأجر على قيامكم بما كلفكم به، وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى صلاة عيد الفطر لأنها تعقب كمال الصيام، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء لقوم قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم معهم أيضا، فلما قدم إلى المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. وما قيل إن قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية منسوخ لا صحة له، بل هي محكمة بدليل ما روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) قال ابن عباس ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان
أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا، وقال هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ولكن يشق عليه، رخص له أن يفطره ويفتدي، وكذلك العجوز، وإنما جاز لها الفدية لعدم القدرة المستمرة، أما المريض والنفساء والمسافر فيجب عليهم القضاء عقب زوال عذرهم، فإن ماتوا ولم تمض مدة يتمكنون فيها من القضاء فلا فدية عليهم، وإلا فعليهم الفدية من مالهم. ووقت الصيام قد ذكره الله تعالى بأنه بعد رؤية الهلال من رمضان، وقال صلّى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وجاء في حديث آخر: الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين يوما.
ومعنى أقدروا له أي احسبوا له حسابه، وفيه إشارة إلى جواز الأخذ بأقوال المنجمين الموقتين، وعليه قول ابن وهبان في منظومته:

وقول أولي التوقيت ليس بموجب وقيل بل والبعض إن كان يكثر
ومنه يعلم أن الشهر الفلكي غير الشهر الشرعي لأنه قد يولد ولا يرى، وقد يرى في مكان دون آخر، ولا خلاف في ذلك لاختلاف المطالع، ويشترط للصوم الرؤية في المكان الذي أنت فيه أو القريب منه لا الولادة، والمحل البعيد بالتعبير الشرعي وهو أن يكون غير القطر الذي أنت فيه، ويختلف القطر بثلاثين مرحلة أي مدة شهر كامل، ويشترط للرؤية في الصحو جماعة بنسبة أهل البلد، وفي الغيم

صفحة رقم 131

اثنان، ويجوز أن يصام برؤية عدل واحد، ولا يجوز الإفطار إلا بعدلين.
هذا والمرض المبيح للفطر مطلق بإطلاق الله تعالى، فإن كان ما به لا يتكلف معه إذا صام صام، وإذا رأى تكلفا أو خاف زيادة المرض فليفطر، وكذلك المسافر، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ليس من امبر الصيام في امسفر حملا على ما يتوقاه الصائم من المشقة.
والسفر المبيح للفطر المجمع عليه ثلاث مراحل مقدرة بثمانية عشرة ساعة، وهذا ما يطمئن إليه الضمير وتقنع به النفس وينشرح له الصدر ويتصور فيه المشقة، وهناك أقوال بأقل وأكثر لا يوثق بصحتها، والآية لا شك مطلقة وإبقاء المطلق على إطلاقه أولى، إلا أن السفر لا يطلق عادة على مسافة أو ساعة أو ساعتين مثلا من قصد الأمكنة القريبة، بل يطلق على الأمكنة البعيدة وأقلها ثلاثة أيام، وقد تعورف هذا، والعرف له دخل في الأحكام التي لا نص فيها، حتى ان الإيمان بني على العرف بإجماع الفقهاء وليعلم أن الثلاثة أيام يطرح منها أوقات الراحة والنوم، ولذلك تطلق المرحلة على اليوم، وأقل المراحل سفر بريد وهو أربعة فراسخ والفرسخ على أصح الأقوال فيه ساعة ونصف، لذلك قدرت بست ساعات، ومن قدره بساعة واحدة واعتبر البريد أربع ساعات واعتبر السفر اليومي على شطرين، قدّر قبل الظهر أربعة فراسخ وبعده أربعة وجعل مدة السفر مرحلتين أي ست عشرة ساعة، وعلى هذا مذهب الشافعي، وعلى الأول أبو حنيفة رحمهما الله، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٠١ من سورة النساء الآتية عند بحث قصر الصلاة إن شاء الله تعالى، وكررت جملة (مَنْ كانَ مَرِيضاً) للتأكيد، وقال بعض المفسرين إنما كررت لئلا يتوهم نسخ الأولى بالثانية تبعا لجملة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لأن ابن عباس أولها بالقادرين على الصوم دون عجز وكبر، وعليه فالمطيق يفطر ويفدي، وغير المطيق يفطر ولا يفدي، فينعدم الصيام ويتعطل ركن من أركان الإسلام وهو لا يجوز قطعا ويتحاشى ابن عباس عنه. على أن الحديث المار ذكره ينفي هذا التأويل كما علمت، أما من أوّلها بالعاجزين كما جرينا عليه فلا يقول بالنسخ وهو الأولى والله أعلم. وقدمنا في الآيتين ١١/ ١٧ من سورة سبأ ج ٢ والآية ١٧ من سورة النحل ج ١ ما يتعلق بمعنى البريد والفرسخ وما يتشعب عنهما فراجعها.

صفحة رقم 132

أما ما جاء في فضل رمضان فكثير نكتفي منه بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار. وروى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ورويا عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم. ورويا عن سهل ابن سعد قال: قال صلّى الله عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له الريّان يدخل منه الصائمون فيقدمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق لئلا يدخل منه أحد (يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أكثر (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وفضل الله ليس له حد فامثله فليعمل العاملون، وبه فليتنافس المتنافسون.
وسمي رمضان لا شتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة بالشمس، ولما نقلوا أسماء الأشهر من السريانية إلى العربية سموها بالأسماء التي وقعت فيها من المواسم، وقد وافق رمضان أيام الحر فسمّوه به لذلك. واعلم أنه يجب على من أفطر بسبب مرض أو سفره أو عجز أو حيض أو نفاس أن يمسك عند زوال العذر، بأن شفي أو أقام أو طهرتا، وكذلك من فسد صومه بسبب ما وعليهم القضاء جميعا إلا العاجز المار ذكره، أما الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم أثناء اليوم فعليهما الإمساك لا القضاء، لأنه لم يكن واجبا عليهما قبل، والمجنون كذلك، ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» منهم قرب مكانة لا قرب مكان، لأنه لا بعيد عليه «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء عباده ولا أو فى من الله أبدا البتة، وقد يكون التخلف من العبد لعدم قيامة بشروط الدعاء المطلوبة منه فيه، والله تعالى أهل للإعطاء، ولكن العبد ليس بأهل للإجابة بسبب عصيانه وطيشه «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»

صفحة رقم 133

بالإيمان بي والتصديق لرسلي وكتبي والاعتراف بملائكتي واليوم الآخر إذا أرادوا أن أجيب دعاءهم «وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (١٨٦) لمصالح دينهم ودنياهم. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا كيف يسمع ربنا دعاءنا، وتزهم يا محمد أن بيننا وبين كل سماء مسافة خمسمائة عام، وسمك كل سماء كذلك؟
وقال بعض الأصحاب يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقال بعضهم هل يجيب ربنا دعاءنا، وفي أي وقت ندعوه؟ فنزلت جوابا للكل.
وقد ذكرنا غير مرة أن لا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة:
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو قال توجه لخيبر أشرف على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيها الناس اربعوا (أرفقوا على أنفسكم) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم. ورويا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. واعلم أن هذه الآية وآية (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية ١٠ من سورة المؤمن المارة في ج ٢ مطلقة وآية (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) الآية ٤٢ من الأنعام المارة في ج ٢ أيضا مقيدة، والمطلق بحمل على المقيد، فلا يقال دعوت فلم يستجب لي، لأن الله تعالى يجيب لمن يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، والإجابة غير الإعطاء، وهذا هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث، تدبر. ومن شروط الإجابة أكل الحلال، والإنابة إلى الله، والإخلاص له بالعمل، والاعتقاد بالإجابة، وعدم التردد، وأن يكون عند الدعاء خاشعا خاضعا، وأن يبدأه بحمد الله والصلاة على رسوله، ويختمه بهما، ويذكر حاجته في الوسط، فالله أكرم من أن يردها ويقبل طرفيها، وقل أن توجد هذه الشروط في الداعي، حتى ان بعض العلماء اشترط في الدعاء عدم اللحن، وقال إن الله لا يقبل دعاء ملحونا، ويفقد هذه الشروط يكون التخلف في الإجابة، لأن من

صفحة رقم 134

لا يتصف بها لا يستحقها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله دعوت فلم يستجب لي. ولمسلم:
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل، قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر، أي يستنكف عند ذلك ويدع الدعاء. ورويا عن أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن يعزم المسألة، فإن الله لا مكره له.
زاد البخاري ارزقني إن شئت يعزم المسألة فإن الله يفعل ما يشاء لا مكره له.
وقال صلّى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. - أخرجه الترمذي- وأخرج أبو داود عن سلمان قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا (أي خالية يقال بيت صفر أي ليس فيه شيء) خاليتين. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال، الله أكثر. أي أكثر إجابة إذا أكثرتم السؤال. وله عن أبي هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس شيء أكرم على الله من الدعاء. وله عن أنس: الدعاء مخ العبادة. وله عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية، وان الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وله عن سلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر. وله عن أبي هريرة أنه قال: من لم يسأل الله يغضب عليه.
وقيل في معناه:

لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وله عن خفالة بن عبيد قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال النبي عجل هذا (أي لم يبدأ دعاءه بالحمد لله والصلاة على رسوله)

صفحة رقم 135

ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء. وقدمنا في الآيتين من الأنعام والمؤمن آنفا ما يتعلق بهذا أيضا فليراجع. قال تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ» ملامسة النساء ومباشرتهن، وهو كناية عن الجماع، لأن الله تعالى يكني عما يستقبح ذكره إشارة أو إيماء أو تعريضا بما يفهم منه المقصود تعليما لعباده ومراعاة للأدب في كل حال، وهذا الحل خاص «إِلى نِسائِكُمْ» اللاتي استحللتم مقاربتهن بكتاب الله تعالى «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» وذلك أن كلّا من الزوجين ستر للآخر عما لا يحل، كما جاء في الحديث: من تزوج فقد أحرز ثلثى دينه. ولهذا سمي كل منهما لباسا لصاحبه. وفي رواية: شطر دينة فليتق الله في الشطر الآخر. وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: لما ينزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تأتون أهلكم خفية وسمي العاصي هنا خائنا مع أن الخائن هو الذي لا يؤدي الأمانة لأنه لا يؤتمن على دينه، وقد كان في بداية الإسلام إذا أفطر الرجل حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها، ثم يحرم عليه كل ذلك إلى الليلة الأخرى، فوقع أن عمر الفاروق أتى أهله بعد هذا، فاغتسل وصار يبكي خشية من الله تعالى وهو لا تبكيه السيوف والأسنّة، فلم يقدر على كتم ما وقع منه في ذلك لصلابة دينه وعظيم يقينه، إلا أن ذكر ذلك لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بحضور جماعة من الأصحاب اعترفوا بعده مثل اعترافه، وكان بعضهم لا يقرب أهله رمضان كله تحاشيا من الوقوع فيما لا يحل، قال ابن عباس فكان ذلك أي فعل عمر مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر، فلما اعترفوا للرسول وتابوا تاب الله عليهم وختم الله رخصته لهم بقوله «فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» ما وقع منكم ورفع ذلك عنكم بفضله «فَالْآنَ» أيها المؤمنون جميعكم «بَاشِرُوهُنَّ» في ليالي الصوم وغيرها، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة الزوج بشرة زوجته «وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» في علمه من الولد، ولا تقتصروا في الجماع الى إخراج

صفحة رقم 136

الشهوة فقط وصيانة النفس من الوقوع في الحرام، بل اقصدوا الذرية أيضا، ثم أحل لهم الأكل والشرب الذي كانوا يعتقدون حرمته بعد العشاء أو النوم فقال جلّ قوله «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» أي بياض النهار من سواد الليل فنسخ الله ما كان متعارفا عندهم من أن الصيام من العشاء إلى العشاء لأنهما أكلتان الغداء سقط بالصوم وبقي العشاء فقط، ثم إن الله تعالى تصدق على أمة محمد فشرع لهم السحور بدل الغداء إلا أنه قدم عن وقته فهو من خصائص هذه الأمة. روى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وان قيس بن حرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى أهله فقال أعندك طعام؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عنه فجاءته امرأته (وهو نائم) فقالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت الآية فصاروا يأكلون ويشربون ويجامعون إلى أن يظهر بياض الفجر الصادق الذي هو كالخيط الأبيض الممتد في الأفق، أما الفجر الكاذب الذي يكون قبله مرتفعا مستطيلا في السماء لا معترضا بالأفق فليس بمانع من الأكل والشرب والجماع، فقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال صلّى الله عليه وسلم لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال (كان يؤذن بالسحر) ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وبه يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع. وروى البخاري ومسلم عن سهل ابن سعد قال: لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية
ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال (من عوام الصحابة) إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعده (مِنَ الْفَجْرِ) وقد أخرت من هذه الآية لهذا السبب. وليعلم أن ما ذكرنا من النسخ في هذا آنفا هو باعتبار ما كان عليه الناس في الجاهلية، وليس بالنسخ الذي يريده من قال به، لأن النسخ الذي يريده هو إبطال حكم سابق بنص لا حق، ومن المعلوم أن الله تعالى لم ينزل علينا في كتابه هذا حرمة الجماع والأكل والشرب على الصائمين بعد

صفحة رقم 137

العشاء أو في الليل حتى يقال إنه نسخ بهذه الآية، وعليه فلا معنى للنسخ ولا القول به هنا البتة كما هو الحال في الكعبة، لأن الله تعالى لم يأمرنا باستقبال البيت المقدس قبلا حتى يقال إنه نسخ استقباله بالأمر باستقبال الكعبة «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» أيها الصائمون بعد غياب الشمس من المحل الذي أنتم فيه لأنها قد تكون طالعة في غيره بسبب ارتفاع حدبة الأرض، فهي دائما طالعة عند أناس، غائبة عند آخرين، وما جاء أن الأرض مفروشة أو مبسوطة أو ممهدة أو ممدودة من كل ما يدل على استوائها من الآيات فهو بالنظر لما نراه لا بالنسبة لما هي عليه من التكوين الإلهي، فالنملة لا شك ترى البيضة مستوية مبسوطة بالنسبة لصغرها وعظم البيضة، فنحن أصغر من النملة بالنسبة للأرض بملايين الكرات. هذا، ومن قال إن المراد بالليل طلوع النجم قول غير وجيه ينافيه معنى الغاية، وما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، أي جاز له الفطر. والتصريح بقوله وغربت كاف في الدلالة على عدم صحة قول من فسر الليل بطلوع النجم، لأن السنة مفسرة لكلام الله تعالى، ولأن أول الشيء عينه، وغياب الشمس أول الليل، وعلى الصائم أن يحتاط لئلا يخطئ في الإفطار فيضيع صيامه، كما عليه أن يحفظ جوارحه من الآثام الظاهرة والباطنة كي ينال أجره تماما، قال أحمد عبيده:

تصوم عن الطعام ولا تبالي بصوم الطرف واليد واللسان
وان لكل جارحة صياما جزيل الأجر موصول الزمان
«وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ» أي النساء «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» لا ليلا ولا نهارا سواء كان في رمضان أو غيره صيّاما كنتم أو مفطرين، وقد أنزل الله تعالى هذه الجملة لئلا يتوهم أن حكم الاعتكاف كحكم الصوم يحرم نهارا على الصائم، ويحل ليلا، بل يحرم الجماع في الاعتكاف ليلا ونهارا، وذلك أن المعتكفين يخرجون من المسجد ليأتوا أهلهم ثمّ يغتسلون ويرجعون إليه. والحكم الشرعي في الاعتكاف هو سنة مطلقا، وسنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان،

صفحة رقم 138

وهو الإقامة في المسجد على عبادة الله تعالى، فإذا جلس يذكر الله تعالى في المسجد فهو معتكف، ولا يصح خارج المسجد، ولا يشترط له الصوم إلا أن الأفضل أن يكون صائما، وليس له زمان محدود فيصح ولو دقيقة واحدة، ويفسده الجماع، ويكره فيه القبلة ونحوها، ولا بأس في خروجه من المسجد لحاجته. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
ولعمري لقد كان السلف الصالح يعتكفون فيه جماعات ووحدانا فلا تجد مسجدا إلا وفيه المعتكفون عاكفين على ذكر الله، ويا للأسف لا تجد الآن إلا ما ندر ممن بشار إليهم بالبنان، وإن من لا خلاق له في الآخرة قد ينتقدونهم على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله «تِلْكَ» الأحكام المبينة في الصوم والاعتكاف هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي حذر قربانها ومنع من مخالفتها «فَلا تَقْرَبُوها» يا عباد الله، وهذا مبالغة في النهي عن إتيانها، لأنه إذا كان قربانها ممنوعا فكيف بفعلها حذار حذار عباد الله من ذلك. قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) الآية ١٤ من سورة النساء الآتية، وهناك آيات أخر في هذا المعنى تحذر من قربان حدود الله والتعدي عليها فلا تعتدوها أيها الناس. واعلم أن التوفيق بين القربان والاعتداء هو أن الأحكام منها ما هو محظور ومنها ما هو مباح وأقربها لهذه الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) ففيها تحريم الجماع في الاعتكاف مطلقا، وفي الآية قبلها (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) النص على تحريم الأكل والشرب والجماع في النهار، ولما كان الأقرب فيها جانب التحريم قال (فَلا تَقْرَبُوها) وإن من كان في طاعة الله فهو في حيز الحق فنهى أن يتعداه لئلا يقع في حيز الباطل فنهى عن أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يقع في الباطل فهو كقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور، إلى أن قال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فنهى صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن قربان الأمور المشتبهة حذرا من أن يقع في الحرام وحدود الله تعالى محارمه ومناهيه، فعليكم أيها الناس التباعد عنها لئلا تقعوا فيما ينهاكم عنه فتهلكوا «كَذلِكَ» مثل ما بين لكم تلك الأحكام «يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ» الدالة على معالم دينه وشعائر

صفحة رقم 139

شريعته وبراهين توحيده بيانا شافيا «لِلنَّاسِ» أجمع «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (١٨٧) ما حرم عليهم فيثابون بمجرد الامتثال.
مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:
قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ» ظلما بشهادة زور أو حلف يمين كاذبة «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١٨٨) أنكم مبطلون في ذلك، كان ادعى لدى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ربيعة بن عدوان الحضرمي في أرض على امرئ القيس بن عابس الكندي، فقال له ألك بينة؟ قال لا، قال فك يمينه، فانطلق ليحلف، فقال صلّى الله عليه وسلم أما إن حلف على ما له ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية تلا عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) الآية ٧٥ من آل عمران الآتية، فارتدع عن اليمين وسلم الأرض له. ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة آنفا، والآية ٢٨ من سورة النساء الآتية أيضا. الحكم الشرعي: يحرم قطعا أكل مال الغير بغير حله ويستوجب فاعله العقاب سواء أكله غصبا أو قمارا أو بثمن خمر أو خنزير أو أجرة مغبنة أو رشوة، أو بأن يشهد زورا، أو كان أمانة فكتمها، أو وديعة فجحدها، أو غير ذلك. روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع جلبة (صوتا عاليا) خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم منكم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض. وفي رواية ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها.
فيفهم من هذا أن قضاء القاضي لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا لأنه يحكم بما يظهر له من الدعوى والشهادة لا بعلمه ولا بمجرد الدعوى، وكان القاضي شريح يفهم المحكوم له ويقول له إني لأظنك ظالما، ولكن لا يعني إلا أن أقضي بما حضرني من البينة، ألا فليحذر المدعون من ادعاء الباطل ومن إقامة شهود الزور لأخذ مال الغير ظلما بالقضاء، وليحذر المدعى عليهم من الإقدام على الحلف كاذبا

صفحة رقم 140

لهضم حق الغير الذي لا شاهد له إلا الله مع كونه عالما بأنه مدين له، فهي يمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهذا كلّه من معاني الإدلاء بالباطل إلى الحكام، أي النسبة إلى حكمهم، فهم لا يسألون عن أحكامهم إذا كانت موافقة لظاهر الشرع، وإنما يسأل المبطل، لأن الحاكم العدل ملزم بأن يحكم بالظاهر، والله تعالى يتولى السرائر، ولا تنطبق هذه الآية عليهم إلا في حال أخذ الرشوة، لأن فيها يكون الإدلاء إليهم، أجارنا الله ووقانا. روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها، فأبت فادعى عند علي كرم الله وجهه أنه زوجها وأقام البينة، فقالت المرأة لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح، فقال كرم الله وجهه قد زوجك الشاهدان وقد طلبت رحمها الله إجراء العقد بعد أن رأت الحكم عليها بالزوجية زورا لشدة تمسكها بدينها لتكون زوجة له بالوجه الشرعي، لأنها تزعم أن شهادة الزور لا تكفي، فأخبرها كرم الله وجهه أن شهادتهما بزوجيتها له كافية، وليس عليها إثم بمطاوعتها له، وإنما الإثم عليه وعلى الشهود، ولهذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ به من العقود فهو نافذ ظاهرا وباطنا، ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا. وذهب فيمن ادعى حقا في يد رجل وأقام بينة تقتضي أنه له، وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح أخذه له، وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه، وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه، لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع، وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه، لأن الإمام الأعظم رضي الله عنه وأرضاه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت، وإذا أردت تفصيل هذه القضية فارجع إلى كتاب أدب القاضي تر فيه ما تقنع به. قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» ما سبب زيادتها ونقصها وكبرها وصغرها «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» أي لصومهم وإفطارهم وآجال ديونهم وإجارتهم ونذورهم والحيض والنفاس ومدة العدة والحمل وزمن الحج ووقته وغير ذلك، وهذا خلاف السؤال وهو من أنواع البديع في المخاطبات، لأنه تلقي السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تبينها على أنه الأولى له

صفحة رقم 141

والأليق لحاله مما يتطلبه من اختلاف حال الهلال، وقد أفرد، تعالى الحج بالذكر مع أنه داخل في المواقيت، لأن العرب كانت تؤخر بعض الأشهر أحيانا كما أخبر الله عنهم بقوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية ٣٩ من التوبة الآتية، كان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري سألا حضرة الرسول عن مبدأ الهلال يكون رفيعا ثم يزداد تدريجيا حتى يمتلىء نورا، ثم يتناقص كذلك حتى يعود كما بدأ، وقالوا له إن اليهود يسألوننا كثيرا عن هذا، وإن سؤال اليهود أصحاب الرسول بمثابة السؤال منه، لذلك جاء بضمير الجمع، فإن سؤالهم كان السبب والعلة، فأجابهم الله عن الغاية والحكمة لتعلقها بمعاملتهم، ومنه يفهم جواز إعطاء الجواب على خلاف السؤال نظرا للمصلحة، ويسمى أسلوب الحكيم، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك لتماسه بحاجتهم، لأن بيان سبب كبره وصغره وعلة ذلك بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس بعدا وقربا لا علاقة له بشيء من منافعهم، ولأن الأصحاب لا يعلمون علم الهيئة الموقوف معرفته على المكبرات والأرصاد والأدلة الفلسفية ولم يعتنوا به لعدم حاجتهم إليه في أمر الدين، ولو أن حضرة الرسول بين لهم ذلك فلعلهم لا يدركونه لا حتياجه لدقة فكر وبعد نظر في المعنى وتأمل بعيد، وعدم علمهم بذلك لا ينقص من قدرهم لأن علم الهيئة مبني على أمور لم تثبت بصورة جازمة، وما صنف بها من الكتب من قبل الفلاسفة وغيرهم، مبني على الظن
والتخمين والحسبان، ولذلك تجد أكثر أقوالهم متضاربة سواء الأولون والآخرون منهم، على أنه لا بأس يأخذ أقوالهم مما لا يخالف صراحة القرآن والسنة بالتأويل والتوفيق.
هذا، ولما بين الله تعالى لعباده ما يتعلق بالصيام وحل الأكل والجماع وتحريم أكل مال الغير بغير وجه شرعي مما كان معتادا في الجاهلية وفوائد تغير الأهلة بين لهم نوعا آخر كان متعارفا عندهم ويزعمون أن فيه قربة بأنه ليس بقربة لقوله عز قوله «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١٨٩) روى البخاري ومسلم عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل من الأنصار فدخل

صفحة رقم 142

من قبل بابه فكأنه عيّر بذلك، فنزلت. وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها، فنزلت. أي أن هذه العادة المتخذة قديما قبل الإسلام ليست من البر في شيء، وأن البرّ هو تقوى الله التي فيها الفوز والنجاة والأجر والثواب. قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» أي يبدأونكم بالقتال ولا تبدأوهم أنتم بالقتال، ولهذا قال تعالى «وَلا تَعْتَدُوا» بأن تقاتلوهم توا أو تقاتلوا غيرهم أو أولادهم وشيوخهم ونساءهم ورهبانهم والمستسلمين منهم لما فيه من الاعتداء المبغوض «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (١٩٠) على أنفسهم وعلى غيرهم، كان الرسول في بداية الإسلام وإلى حد نزول هذه الآية منهيا عن القتال ومأمورا بمعاملتهم بالرفق واللين ليؤمن مؤمنهم ويصرّ كافرهم، ولما اضطروه إلى الهجرة واستقر به الحال في المدينة واجتمع عليه أصحابه ومن آمن من غيرهم، أمره جل شأنه بقتال من بدأه بالقتال أو من تحدّاه به مقابلة لا عداء ولا انتقاما، بقصد إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار عزّة المؤمنين. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم من قاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. أي أن كل ذلك المسئول عنه غير مطلوب ولا هو في سبيل الله، بل هو لإظهار الشجاعة. وليقال إنه يقاتل ويناضل، وهذه الآية محكمة لأن معناها قاتلوا الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم لا غير ممن ذكر أولا ومما سيأتي ذكره في الحديث الثاني. وهذه أول آية نزلت في القتال بعد الآية ٣٩ من سورة الحج الآتية، لأنها نزلت قبل هذه، فراجعها تعلم السبب في ذلك، وبعدها وقعت غزوة بدر الأولى في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة.
روى مسلم عن بريدة قال: كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو صرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال له اغزوا بالله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا (لا تخفوا شيئا من الغنائم) ولا تعتدوا (أي لا تقتلوا الشيوخ والمرضى والعجزى لأنهم لا يقاتلون) ولا تمثلوا (بأن تقطعوا آذان القتلى أو مذاكيرهم أو أنوفهم أو تشقوا بطونهم أو غير ذلك

صفحة رقم 143
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية