
بأمْر يرجُو النَّجاح به، تشبيهاً بالذي يرسل الدَّلْو في البِئْر يرجُو بها الماءَ، قال قومٌ: معنى الآية: تُسَارعون في الأموال إِلى المخاصَمَة، إِذا علمْتم أنَّ الحُجَّة تقوم لكم إِمَّا بأن لا تكون على الجاحِدِ بيِّنة، أو يكون مالَ أمانةٍ كاليتيم ونحوه ممَّا يكون القول فيه قوله، فالباء في «بهاء» باءُ السبب «١»، وقيل: معنى الآية: تُرْشُوا بهَا على أكْل أكثر منْها، فالباء إِلزاقٌ مجرَّدٌ وهذا القول يترجَّح لأن الحكَّام مَظِنَّةُ الرُّشَا، إِلاَّ من عُصِمَ، وهو الأقل، وأيضاً، فإِن اللفظتين متناسبتَان.
تُدْلُوا: من إِرسال الدلْوِ، والرِّشْوَةُ: من الرِّشَاءِ كأنها يمدُّ بها لتقضي الحاجة.
والفريق: القطعة، والجزء.
وبِالْإِثْمِ أي: بالظلم.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: أنكم مبطلون.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٢]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
وقوله تعالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قال ابنْ عَبَّاس، وغيره: نَزلَتْ على سؤالِ قَوْمٍ من المسلمين النبيّ صلّى الله عليه وسلم عنِ الهِلاَلِ، وما فائدةُ مُحَاقِهِ، وكمالِهِ، ومخالفته لحال الشمس «٢».
ومَواقِيتُ أي: لمحَلِّ الدُّيون، وانقضاءِ العِدَدِ والأَكْرِيَةِ، وما أشبه، هذا من مصالحِ العبادِ، ومواقيت للحَجِّ أيضاً: يعرف بها وقته وأشهره.
وقوله سبحانه: وَلَيْسَ الْبِرُّ... الآية: قال البَرَاء بن عَازِبٍ «٣»، والزهريّ،
(٢) أخرجه الطبراني في «تفسيره» (٢/ ١٨٩) رقم (٣٨٠)، وذكره البغوي (٢/ ١٦٠)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٦٨)، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(٣) هو: البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس... أبو عمرو. وقيل: أبو عمارة، وهو الأصح. الأوسي. الأنصاري.
قال ابن الأثير في «الأسد» :-

وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا إِذا حَجُّوا، أو اعتمروا، يلتزمون تشرُّعاً ألاَّ يحول بينهم وبَيْن السماء حائلٌ، فكانوا يتسنَّمون ظهور بيوتِهِم على الجُدُرَاتِ «١»، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فُتُوحاً يدخلُون منْها، ولا يدخلون من الأبواب «٢»، وقيل غير هذا ممَّا يشبهه «٣».
وقوله تعالى:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ | الآيةُ هي أول آية نزلَتْ في الأمر بالقتالِ. |
وقال أبو عبيدة: افتتحها حذيفة. نزل «الكوفة» وابتنى بها دارا.
توفي في إمارة مصعب بن الزبير، وقيل: في سنة (٧٢).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٢٠٥)، «الإصابة» (١/ ١٤٧)، «الاستيعاب» (١/ ١٥٥)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٤٦)، «الطبقات الكبرى» (٢/ ٣٧٦)، «الأعلام» (٢/ ٤٦)، «التاريخ الكبير» (٢/ ١١٧)، «التاريخ الصغير» (١/ ٦)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٣٩٩)، «تهذيب الكمال» (١/ ٢١٣٩)، «تهذيب التهذيب» (١/ ٤٢٥)، «تقريب التهذيب» (١/ ٩٤)، «تاريخ بغداد» (١/ ١٧٧)، «تاريخ ابن معين» (٢/ ١٤٧)، «بقي بن مخلد» (١٤)، «البداية والنهاية» (٨/ ٣٢٨)، «التحفة اللطيفة» (١/ ٣٦٤)، «الوافي بالوفيات» (١/ ١٠٤)، «الكاشف» (١/ ١٥١)، «الثقات» (٣/ ٢٦)، «عنوان النجابة» (٤٩).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٤) برقم (٣٠٩٠)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٠)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٦٨)، وعزاه إلى الطيالسي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي المنذر، وابن أبي حاتم عن البراء.
وفي (١/ ٣٦٩)، عن الزهري، وعزاه لابن جرير.
والجدرة: حظيرة تصنع للغنم من حجارة. والجمع جدر.
والجديرة: زرب الغنم. والجديرة: كنيف يتخذ من حجارة يكون للبهم وغيرها. ينظر: «لسان العرب» (٥٦٦).
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٢) رقم (٣٠٨٢)، ورقم (٣٠٨٩). وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٠)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦١)، عن البراء بن عازب، والزهري، وقتادة.
والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٦٩)، عن الزهري.
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٢/ ١٩٣/ ١٩٤) برقم (٣٠٨٢)، (٣٠٨٣) عن البراء، وبرقم (٣٠٨٩)، عن الزهري وبرقم (٣٠٩٠) عن قتادة، وذكره البغوي (١/ ١٦٠)، وابن عطية (١/ ٢٦١) عن البراء بن عازب، والزهري، وقتادة.
كما ذكره السيوطي (١/ ٣٦٨- ٣٦٩)، عن البراء بن عازب، وقتادة.
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٥) برقم (٣٠٩٥)، عن الربيع وبرقم (٣٠٩٦)، عن زيد.
وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦١)، عن الربيع.
وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٢)، عن ابن زيد، والربيع.

وَلا تَعْتَدُوا في قتْلِ النساءِ، والصبيانِ، والرهبانِ، وشبههم فهي مُحْكَمَةٌ «١».
وقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ... الآية: قال ابْنُ إِسحاق وغيره: نزَلَتْ هذه الآيةُ في شأنِ عَمْرو بن الحَضْرَمِيِّ، وواقدٍ، وهي سَرِيَّةُ عبد اللَّه بن جَحْش «٢»، وثَقِفْتُمُوهُمْ معناه: أحكمتم غلبتهم، يقال: رَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ، إِذا كان محكِماً لما يتناوَلُهُ من الأمور «٣».
وأَخْرِجُوهُمْ: خطاب لجميع المؤمنين، والضمير لكفار قريش.
والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، أي: الفتنةُ التي حملوكم علَيْها، ورامُوكم بِهَا على الرُّجوع إِلى الكفر- أشدُّ من القتْل، ويحتمل أن يكون المعنى: والفتنةُ، أي: الكفر والضَّلال الذي هم فيه أَشَدُّ في الحَرَمِ، وأعظم جُرْماً من القتل الَّذي عيَّروكم به في شأن ابْنِ الحَضْرَمِيِّ.
وقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ... الآية.
قال الجمهورُ «٤» : كان هذا ثُمَّ نُسِخَ، وقال مجاهد: الآية محكمةٌ «٥»، ولا يجوز قتال أحد، يعني: عند المسجد الحرام، إِلا بعد أن يقاتل.
قلت: وظاهر قوله صلّى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي» «٦» يقوي قول مجاهد، وهذا هو الراجح عند الإمام
والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٧٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(٢) عبد الله بن جحش الأسدي بن رياب، ابن يعمر الأسدي. حليف بني عبد شمس. أحد السابقين.
قال ابن حبّان: له صحبة. وقال ابن إسحاق: هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا.
ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل نيف وأربعون سنة ينظر: «الإصابة» (٤/ ٣١، ٣٣).
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٢).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٥٦٧)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٣). [.....]
(٥) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٢)، عن مجاهد، وجماعة، وابن عطية الأندلسي (١/ ٢٦٣) عن مجاهد.
(٦) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (٤٦، ٤٧)، كتاب «جزاء الصيد»، باب لا يحل القتال بمكة، -

الفَخْر «١»، وأنَّ الآية محكمةٌ، ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم. انتهى.
٤٨ ب قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٢» وقد روى الأئمّة/ عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال يَوْمَ فَتْح مكَّة: «إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تعالى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تعالى إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهَا لأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» «٣».
فقد ثبت النهْيُ عن القتالِ فيها قُرآناً وسُنَّة، فإِن لجأ إِليها كافرٌ، فلا سبيل إِلَيْه، وأما الزانِي والقاتلُ، فلا بُدَّ من إِقامة الحَدِّ عليه إِلا أنْ يبتدىء الكافر بالقتَال فيها، فيقتل بنصِّ القرآن. انتهى.
وقرأ حمزة والكسائيّ «٤» :«وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حتى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فاقتلوهم»، أي: فإِن قتلوا منْكم، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام.
وأبو داود (٢/ ٦) كتاب «الجهاد»، باب في الهجرة هل انقطعت، حديث (٢٤٨٠)، والنسائي (٧/ ١٤٦) كتاب «الجهاد»، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة. والترمذي (٤/ ١٢٦) كتاب «السير»، باب ما جاء في الهجرة، حديث (١٥٩). والدارمي (٢/ ٢٣٩)، كتاب «السير»، باب لا هجرة بعد الفتح.
وعبد الرزاق (٥/ ٣٠٩) رقم (٩٧١٣). وابن الجارود (١٠٣٠). وابن حبان (٤٨٤٥- الإحسان)، والبيهقي (٥/ ١٩٥)، والطبراني في «الكبير» رقم (١٠٩٤٤)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٥٢٠- بتحقيقنا)، من طريق منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكره.
(١) ينظر: «التفسير الكبير» (٥/ ١١٣).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ١٠٦- ١٠٧).
(٣) ينظر الحديث السابق.
(٤) وحجة جمهور السبعة قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: ١٩٣].
وحجة أخرى، وهي: أن القتال إنما يؤمر به الأحياء، فأما المقتولون، فإنهم لا يقاتلون فيؤمروا به، وعلى قراءة الأخوين ظاهره أمر للمقتول بقتل القاتلين، وذلك محال.
وحجتهما: أن وصف المؤمنين بالقتل في سبيل الله أبلغ في الثناء، وأن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم، وحكى الفراء عن العرب أنهم يقولون: قتلنا بني فلان. وإنما قتلوا بعضهم.
واحتجا بأثر: «ولا تبدءوهم بالقتل حتى يبدءوكم به».
ينظر: «حجة القراءات» (١٢٨)، و «السبعة» (١٧٩)، و «الكشف» (١/ ٢٨٥)، و «الحجة» (٢/ ٢٨٤- ٢٨٥)، و «العنوان» (٧٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٩٤- ٩٦)، و «شرح شعلة» (٢٨٦)، و «إتحاف» (١/ ٤٣٣)، و «معاني القراءات» (١/ ١٩٥).