آيات من القرآن الكريم

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ

(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
حرم الله تعالى ثلاثة أشياء من الخبائث الحسية، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير، ومن الخبائث المعنوية ما أهل به لغير الله، أي ما ذبح لصنم ونحو ذلك.
والميتة هي التي ماتت حتف أنفها من غير ذبح شرعي، وتشمل النطيحة والمتردية، ولذا قال في الخبائث المحرمة في سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ...).
وإنه يدخل في الميتة كل ما مات من غير أن يُسالَ دمه ولو بسبب من العباد أو السبع، فيدخل في الميتة المنخنقة التي ماتت بالخنق من غير ذبح يسيل دمها، والموقوذة التي رميت حتى ماتت، والنطيحة التي ماتت بنطح ولم يسل لها دم، والمتردية وهي التي تردت في حفرة أو بئر فماتت بهذا التردي، ولم تذبح وما أكل السبع بعضه، ولم يذبح فإنه أيضا يكون محرمًا، وحرم الاستقسام بالأزلام وهي أقداح الميسر كما حرم الذبح على النصب، وحرمت هذه الأشياء لَا لخبث في ذاتها ولكن لما اقترن بذبحها وهو النصب، كما حرم الاستقسام بالأزلام فهي في ذاتها طيبة حسيا، ولكن لازمها خبث معنوي وهو ما يقترن بها من ميسر، والقرآن الكريم قد حصر التحريم في هذه الأشياء المذكورة فقال تعالى: (إِنَّمَا حَرَمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) وإنما أداة من أدوات القصر، أي حرمت هذه الأشياء من النعم التي هي البقر

صفحة رقم 508

والإبل والغنم وغيرها مما يشبهها آكلة العشب كالغزال والأوعال، أما سباع البهائم كالأسد والذئب وغيرها فهي محرمة بذاتها، لأن لحمها لَا يؤكل وتعافه النفوس المستقيمة، فالحصر في التحريم، إنما هو بالنسبة للنعم وما يشبهها من آكلة العشب، والمحرمات هي الميتة ويدخل فيها كما سبق من القول المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا أن يذكى بأن يبقى بعد أكله حيا، فيذكى والتذكية إسالة الدم.
والميتة يبقى فيها الدم، فبمضي الزمن يفسد أجزاء جسمها وتتعفن ببقائه فيها فيفسد لحمها وتسارع إليها الجراثيم المفسدة، فتكون خبيثة وتتحول من لحم طيب إلى لحم خبيث، ويدخل في ذلك الموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة والدم، والمراد به الدم المسفوح، أي السائل، وليس المتجمد بأصل تكوينه وإن كان التكوين من الدم وهو الكبد والطحال، والدم المسفوح يسارع إليه الفساد وهو ثقيل الهضم وهو يفسد الجسم والنفس، وإنما قيد الدم بالمسفوح، لأنه صرح في آية الأنعام بأن المحرم هو الدم المسفوح فقال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...).
ومن المقررات أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب، فيجمل الدم المذكور في الآية التي نتكلم في معناها على المقيد في آية الأنعام، والدم يسارع إليه الفساد وأكله يربي القسوة وهو ثقيل الهضم.
ولحم الخنزير ذكر الله تعالى في القرآن أنه رجس أي قذر يحتوي على كل ما يضر البنية الإنسانية، وقد ثبت بالتجربة أنه أثقل طعام على المعدة، والمعدة بيت الداء، وثبت أنه يحوي من الديدان ما يضر الجسم، وأنه يحدث فقد الشهوة، ويوجد أعراضا عصبية، ويظن كثيرون أنه مورد من موارد داء السرطان العضال. وما أهل لغير الله تعالى به، والإهلال رفع الصوت بذكر الله تعالى عند الذبح، والإهلال لغير الله تعالى بأن يذكر عند الذبح أنه لصنم أو وثن أو نار أو نحو ذلك،

صفحة رقم 509

ويدخل في ذلك ما ذبح على النصب التي كانت تقام للأوثان وتذبح الذبائح عليها.
وقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك عند الاختيار، وأما عند الاضطرار فإنها يرفع عنها الإثم؛ ولذا قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي من كان في حال ضرورة، بحيث تتعرض الحياة للهلاك إذا لم يأكل شيئا من هذه المحرمات، فإنه لَا إثم عليه إذا أكل، ويكون واجبا عليه أن يأكل إن لم يجد غيرها؛ لأن ضرر الموت أشد من ضرر الأكل، والضرر القليل يتحمل في سبيل دفع الضرر الكبير، ولقد بين النبي - ﷺ - حال الضرورة لمن سأله عن ذلك، فقال: " أن يأتي الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله " (١)، ولقد قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ولقد قيد الله تعالى رفع الإثم، فقال تعالت كلماته: (غَيْرَ بَاغِ وَلا عَادٍ) أي غير طالب لها تبتغي إشباع رغبتك، كأن يكون في عطش شديد ولم يجد إلا خمرا، فيشربها مبتغيا لها لَا يقصد دفع الضرورة ولكن يرغب فيها، وكمن يكون في حال ضرورة فيكون بين يديه الميتة والخنزير فيبتغي الخنزير اشتهاء له ورغبة فيه، ولا عاد أي غير متجاوز حد الضرورة، والضرورة تدفع بأقل قدر فلا يتجاوزه، فيتعدى ما رفع الله تعالى الإثم عنه.
وروي عن مجاهد وابن جبير أنهما قالا في معنى باغ وعاد، غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي الخارج على السلطان العادل وقاطع الطريق، وبهذا أخذ الشافعي في أحد قوليه فمن كان مضطرًا للطعام ولا يجد
________
(١) عن أبي واقد الليثى قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها مخمصة، فما يحل لنا من الميتة؛ قال: " إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلا فشانكم بها ". رواه أحمد في مسند الأنصار (٢٠٨٩٣)، والدارمي في الأضاحي (١٩١٢) والحاكم في المستدرك (٧٢٣٤) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
والمخمصة: المجاعة والشدة، والصَّبوح: شرب أول النهار، والغبوق: شرب آخر النهار، أي اللبن، ثم توسعوا فأطلقوه على الطعام أول النهار وآخره، وهو مقصود الحديث، وتحتفئوا: تقتلعوا فتأكلوا.

صفحة رقم 510

إلا بعض هذه المحرمات وكان خارجًا في معصية فإنه لَا يترخص له في أكل واحد من هذه المحرمات؛ لأن وقوع الضرورة بسبب معصية، والمعصية لَا تحل المحرم.
وأبو حنيفة ومالك وأحمد، والرأي الثاني عند الشافعي أن الرخصة قائمة وسببها ليس هو المعصية أو غير المعصية، وإنما سببها الاضطرار والخشية من الهلاك والمعصية في قتل النفس أشد من المعصية في الخروج على الأحكام؛ ولأن الجهة منفكة؛ فرفع الإثم لدفع الجوع والظلم في العصيان فلا خلط بينهما، ومن المقررات أن الظالم في معصية لَا يحرم من حقوقه في ناحية أخرى، وإلا كان ظلما والظالم لا يظلم، ولكن يقتص منه في موضع ظلمه، هذا وإن الرخصة نتيجتها أن يرفع الإثم لَا أن تباح الميتة وأخواتها، ولكن قرروا أنه في حال الضرورة هذا يكون الأكل مطلوبا طلبا حتميا بحيث يأثم إن لم يأكل، لأن عدم الأخذ بالرخصة قتل للنفس والله تعالى يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).
ولقد ختم الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ).
هذا النص السامي فيه تسجيل لرحمة الله تعالى، ولغفرانه في الدنيا والآخرة ما يرتكب إن كان بقصد حفظ النفس من التلف، وكان من غفرانه أن رفع الإثم وسببه قائم عن المضطر إلى أكل المحرمات، وكان من رحمته أن أباح هذه الطيبات، وإن حرم الخبائث، فتحريم الخبائث لأضرارها، وإباحة الطيبات لنفعها من رحمته سبحانه، إذ إن الشريعة الغراء قامت على جلب ما هو نافع ودفع ما هو ضار، وكان من رحمته جلت قدرته أن رفع الإثم عند الاضطرار.
وقبل أن ننتقل إلى آياته البينات نقرر أمرين. أولهما: ما قرره بعض العلماء ذوي النظر الثاقب أن الجوع الشديد يجعل الجسم يستطيع تناول هذه الخبائث الضارة إذ الجوع يذهب بأضرارها، أو لَا يجعلها تؤثر بالأذى في الجسم ما دام لَا يتعدى حد الضرورة، فإن تعداها كان الضرر المؤكد من هذه الخبائث. الثاني: إن هذه المحرمات إنما هي في حيوانات البر والنعم كما قررنا، أما صيد البحر فإنه حلال كما قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا...). جعل الله طعامنا حلالا طَيبا، وهنيئا مريئا.
* * *

صفحة رقم 511

كتمان الحق
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
* * *
بعد أن بين الله تعالى في كتابه الحكيم ما يحل وما يحرم، وذكر أن الشيطان يجيء بوسوسته فيما يحل فيحرمه، وفيما يحرم فيبيحه فهو يجعل المشركين يحرمون على أنفسهم بعض ما أحل، ويحملهم على أن يستبيحوا الزنى والقذف والخمر والقتل والغصب، بعد ذلك بين سبحانه أن ما جاء في كتاب الله تعالى يجب أن يبين، وما جاء في الكتب السابقة يجب ألا يكتم من بشارة بالنبي - ﷺ - وحلال وحرام في هذه الكتب، وأن من يكتم الذي أنزله الله سبحانه لغرض من أغراض أو هوى من هوى الأنفس أو رجاء رشوة أو سحت من المال، إنما يبيع الحق بثمن بخسٍ مهما يكن مقداره؛ ولذا قال تعالت كلماته:

صفحة رقم 512
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية