
عباس، ومشركو العرب عن الحسن، والمنافقون عن السدي، ولا تنافي بين أقوالهم، فكل قد عابوا وكل سفهاء، وقد روي أن بعضهم قال: لا يثبت محمد على دين، وبعضه قال: " رجع إلى قبلة قومه، وسيراجع إلى دينهم، وروي أن قوماً من اليهود أتوه وقالوا: ما ولاك عن قبلتنا؟ ارجع إليها نتبعك فأنزل الله تعالى ذلك تبيينا أن الأمكنة متساوية عند الله، فله المشرق والمغرب، وهو الهادي إلي الطريق المستقيم فأي وجه يتوجه إليه، فهو تعالى موجود كما قال ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾، وكقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ في اعتبار به والارتسام لأوامره لا بالأمكنة والجهات المختلفة...
قوله- عز وجل:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
الآية (١٤٣) - سورة البقرة.
الوسط في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدورة، ومن الطرفين في المطول كالنقطة من الدائرة ولسان الميزان من العمود، ويجعل عبارة عن العدل، وكذلك السواء والنصف.
، وشبه به كل ما وقع بين طرفين إفراط وتفريط كالجود بين السرف والبخل والشجاعة

بين التهور والجبن، ثم جعل عبارة عن المختار من كل شيء حتى قيل: فلان من أوسطهم نسبياً، وكما جعلهم وسطاً جعلهم خيرا في قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ والعقب مؤخر القدم، فتصور مكانه من الحيوان تارة، فاعتبرت في قولهم: يعقبه واعتقبه نحو: استدبره، وقفاه، وعاقب الليل النهار، وقيل المعقبات للملائكة التي تتعاقب في الليل والنهار والعقوبة منه، والعقبة الجبل اعتبارا بالصاعد الذي يميل [نحو عقبة] في ممره، ولما كان يؤخذ العقب من بعض الحيوانات فيشد به، قالوا: عقبته: أي شددته بالعقب نحو دسته وانقلب على عقبيه إذا رجع عائداً نحو: ارتدا على آثارهما، ورجع عوده على بدئه.
إن قيل: كيف جعلهم وسطا؟ الخُلق أم لخلْقِ خصهم به؟ أم لعلم ركزه فيهم؟ أم لشرع شرعه لهم؟.
قيل: قد خصهم بكل ذلك، والظاهر من ذلك هي الشريعة التي إدا اعتبرت بسائر الشرائع وجد لها حد الاعتدال، وهو أن بني إسرائيل لما عتوا كما حكى الله عنهم في غير موضع شدد عليهم أشياء صارت عليهم إصرا وأغلالاً، نحو: ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾، ولذلك أمرنا تعالى فيما يدعونه أن نقول ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، ثم خفف عنهم على لسان عيسى بعض التخفيف، ولهذا حكى عنهم: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾، وتمم ذلك بمحمد - ﷺ - فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ إلى قوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ وقال: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾، وقال عليه السلام " بعثت بالحنيفية السهلة "، فصارت شريعته متوسطة بين الإفراط الذي هو الإصر والأغلال وبين التفريط الذي هو

الإضاعة والإهمال، وعلى ذلك قال ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، ولكون هذه الشريعة وسطاً
سمى مقتضاهما كلمة (سواء) أي عدلاً باتفاق العقول فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ الآية..
إن قيل: هل ذلك للأمة كلهم أم للبعض دون البعض؟ قيل: الخطاب لأصحاب النبي - ﷺ - خاصة على وجه، وهو خطاب للكافة عامة على وجه، وذلك أن أصحابه في الحقيقة صاروا موجودين خير الناس، وسائر أمته ممكنون أن يصيروا أخيارا وذلك بقبولهم الفيض الذي أباحه الله لهم بعقولهم ولسان نبيهم وتدرجهم إلى بلوغ أقاصيه..
إن قيل: على أي وجه شهادة النبي - ﷺ - علي الأمة وشهادة الأمة على الناس؟ قيل: الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مبينا، حكمه، وأعظم شاهد من ثبتت شهادته بحجة، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر وكمله ببعثة الأنبياء، وخص هذه الأمة بأتم كتاب، كما وصفه بقوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، فأفادناه- عليه السلام- وبينه لنا صار حجة وشاهداً أن نقول ما جاءنا من بشير ولا نذير، وجعل أمته المتخصصة بمعرفته شهودا على سائر الناس...
إن قيل: هل أمته شهود كلهم؟ أم بعضهم؟
قيل: كلهم ممكنون من أن يكونوا شهداء وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح، فمن لم يزك نفسه لم ليكن شاهداً مقبولاً، ولذلك قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، وعلى هذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، فالقيام بالقسط

مراعاة العدالة، وهي بالقول المجمل ثلاث:
عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله- عز وجل-، فمن رعى
ذلك فقد صار عدلاً شاهداً لله- عز وجل-.
إن قيل: فهل هم شهود على بعض الأمم أم على الناس كافة؟ قيل بل كل شاهد على نفسه وعلى أمته وعلى الناس كافة فإن من عرف حكمة الله تعالي وجوده وعدله ورأفته، علم أن لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس، ولا يبخل عليهم ولا يظلمهم، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على أن من زمانه وعلى من قبله ومن بعده، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر " أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم "،
إن قيل: ما المشبهْ وما المشبه به في قوله كذلك قيل: ولما قال: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ بين أن نعمته بهذا التشريف كنعمته بالهداية إلى صراط مستقيم.
قوله - عز وجل -:
﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾
الآية (١٤٣) - سورة البقرة.
يعني ما أمرناك بالتوجه إلى بيت المقدس إلا لنعلم، أي لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وقيل معناه: إلا لنعلم حينئذ من ينقاد لك من العرب في اتباعك إلى الصلاة إلى بيت المقدس، وقيل معناه: ما غيرنا حكم القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، والقبلة على هذا كله بيت القدس، وقيل معناه: ما جعلنا هذه القبلة التي أنت عليها أي أمرناك بها يعني الكعبة، وإنما استعمل فيه " كان " إشارة إلى أن حكم الله تعالى بدلك قد تقدم في سابق علمه، وقيل: عنى الكعبة حتى توجه إليها قبل

وروده المدينة، وهذا أظهر، فالآية التي بعدها هي الناسخة لا استفتح بقوله: (قد نرى)..
إن قيل: ما وجه قوله: (إلا لنعلم)، وذلك يقتضي استفادة علم وقد علم أن الله تعالى لم يزل عالماً بما كان، وبما يكون؟ قيل إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى، ومجاز ذلك على أوجه..
الأول: أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين: حدوث الفعل في نفسه، وحدوث العلم به، ولما كان
علم الله لم يزل ولا يزال صار اللام فيه مقتضياً حدوث الفعل لا حدوث العلم.
والثاني: أن العلم يتعلق بالشيء على هو به، والله تعالى علمهم قبل أن يتبعوه غير تابعين،
وبعد أن تبعوه علمهم تابعين، وهذا الجواب كالأول في الحقيقة، لأن التغيير داخل في المعلوم لا في
العلم.
والثالث ة معناه لنعلم حزبنا، فنسب ذلك إلى نفسه على علاته في نسبه، أفعال أوليائه إلى نفسه، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وقال في موضع أخر: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ وإنما علمه بملائكته.
والرابع: معناه لنجازي، وذلك متعارف نحو: قولك: سأعلم.
حسن بلائك، أي سأجازيك على حسب مقتضى علمي- قيل: فعبر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه.
والخامس: أن عادة الحكيم إذا أفاد غيره علما أن يقول وتعالى " حتى يعلم كذا "، وإنما يريد إعلام المخاطب لكن يحل نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف...
إن قيل: كيف يتصور حقيقة انقلاب الإنسان على عقبيه؟

قيل: يتصور ذلك على وجهين: أحدهما: اعتبار لحال الإنسان ومعارفه، وهو أن الإنسان شرع في الفضيلة واكتساب المعرفة درجة درجة إلى حين الكمال، فإن حكمه في بطن أمه حكم النبات، ثم يصير في حكم الحيوان، ثم يصير بعد الولادة في حيز الإنسان باكتساب المعارف أولاً فأول، ثم لا يزال يترقى بالعلم والعمل حتى ربما يصير قريباً من الملائكة علما وفضلاً وعملاً، ومتى أخل بمرتبته، وصل إليها، فرجع عنها فقد انقلب على عقبيه، والوجه الثاني: أن يعتبر الأديان وفضائلها، وذلك أن الله تعالى أنشأ الأديان، فمازال يتممها شيئاً فشيئا إلى أن كملها بالنبي - ﷺ - كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، وكما قال النبي عليه السلام في الخبر الذي قال فيه: (..
فكنت في موضع اللبنة)، فمن أنعم عليه بأن أوجده بعد بعثته (عليه السلام) فرغب عن شريعته مائلاً إلى غيرها من الشرائع المنسوخة قد انقلب على عقبيه، وبين بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أن الانتقال عن المألوف من القبلة مستصعب على الطبع، والإنسان ألوف لما يتعوده سيما الشريعة، فإن ذلك إنما لا ينقل عليه من أنعم الله عليه وهداه وعرف حكمته، وعلم أنه تعالى يأمر عباده بما هو أصلح لهم كأهل " منا " الذين لما أتاهم الخبر بنسب القبلة، وكانوا في الصلاة حولوا وجوههم نحو الكعبة من غير أن يستبينوا، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ هو تسكين لمن صلى إلي بيت المقدس، من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبين أنهم يثابون على ذلك، فقد
روي أن قوماً قالوا: كيف بمن مات من إخواننا وقد وصلوا إلى بيت القدس؟ فأنزل الله تعالى، ذلك،
فإن قيل ولم قال؟ ﴿لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ ولم يقل صلواتكم؟