آيات من القرآن الكريم

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

(أَحَدُهُمَا) : أَنَّ وَجْهَ الِاخْتِيَارِ هُوَ التَّمْهِيدُ لِلتَّعْلِيلِ الْآتِي ; فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِهِ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِنَّهُ يَرَى أَحَدَهُمَا مِنْ جَانِبٍ وَثَانِيَهُمَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ حَالِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلَا حَالَ الْوَسَطِ أَيْضًا.
(وَثَانِيهِمَا) : أَنَّ فِي لَفْظِ الْوَسَطِ إِشْعَارًا بِالسَّبَبِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى نَفْسِهِ ; أَيْ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خِيَارٌ وَعُدُولٌ ; لِأَنَّهُمْ وَسَطٌ، لَيْسُوا مِنْ أَرْبَابِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمُفْرِطِينَ، وَلَا مِنْ أَرْبَابِ التَّعْطِيلِ الْمُفَرِّطِينَ، فَهُمْ كَذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ.
ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَقْضِي عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالْمَادِّيَّةِ الْمَحْضَةِ، فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا الْحُظُوظَ الْجَسَدِيَّةَ كَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقِسْمٌ تَحْكُمُ عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، كَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ وَثَنِيِّي الْهِنْدِ أَصْحَابِ الرِّيَاضَاتِ.
وَأَمَّا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَقَدْ جَمَعَ اللهُ لَهَا فِي دِينِهَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ: حَقِّ الرُّوحِ، وَحَقِّ
الْجَسَدِ، فَهِيَ رُوحَانِيَّةٌ جُسْمَانِيَّةٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ إِنَّهُ أَعْطَاهَا جَمِيعَ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ وَرُوحٌ، حَيَوَانٌ وَمَلَكٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا تَعْرِفُونَ الْحَقَّيْنِ، وَتَبْلُغُونَ الْكَمَالَيْنِ (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ) بِالْحَقِّ (عَلَى النَّاسِ) الْجُسْمَانِيِّينَ بِمَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ الدِّينِ، وَالرُّوحَانِيِّينَ إِذْ أَفْرَطُوا وَكَانُوا مِنَ الْغَالِينَ، تَشْهَدُونَ عَلَى الْمُفَرِّطِينَ بِالتَّعْطِيلِ الْقَائِلِينَ: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (٤٥: ٢٤) بِأَنَّهُمْ أَخْلَدُوا إِلَى الْبَهِيمِيَّةِ، وَقَضَوْا عَلَى اسْتِعْدَادِهِمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْمَزَايَا الرُّوحَانِيَّةِ، وَتَشْهَدُونَ عَلَى الْمُفْرِطِينَ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ هَذَا الْوُجُودَ حَبْسٌ لِلْأَرْوَاحِ وَعُقُوبَةٌ لَهَا.
فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَخَلَّصَ مِنْهُ بِالتَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَهَضْمِ حُقُوقِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا مِنْ جَمِيعِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، تَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ جَادَّةِ الِاعْتِدَالِ، وَجَنَوْا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَقُوَاهَا الْحَيَوِيَّةِ، تَشْهَدُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَتَسْبِقُونَ الْأُمَمَ كُلَّهَا بِاعْتِدَالِكُمْ وَتَوَسُّطِكُمْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا هُدِيتُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْكَمَالُ الْإِنْسَانِيُّ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ كَمَالٌ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، يُؤَدِّي حُقُوقَ رَبِّهِ، وَحُقُوقَ نَفْسِهِ، وَحُقُوقَ جِسْمِهِ، وَحُقُوقَ ذَوِي الْقُرْبَى، وَحُقُوقَ سَائِرِ النَّاسِ (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أَيْ: إِنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ الْمِثَالُ الْأَكْمَلُ لِمَرْتَبَةِ الْوَسَطِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَسَطًا بِاتِّبَاعِهَا لَهُ فِي سِيرَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَهُوَ الْقَاضِي بَيْنَ النَّاسِ فِيمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَمَنِ ابْتَدَعَ لِنَفْسِهِ تَقَالِيدَ أُخْرَى أَوْ حَذَا حَذْوَ الْمُبْتَدِعِينَ، فَكَمَا تَشْهَدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى النَّاسِ بِسِيرَتِهَا وَارْتِقَائِهَا الْجَسَدِيِّ وَالرُّوحِيِّ بِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا عَنِ الْقَصْدِ، يَشْهَدُ لَهَا الرَّسُولُ - بِمَا وَافَقَتْ فِيهِ سُنَّتَهُ وَمَا كَانَ لَهَا مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ فِيهِ - بِأَنَّهَا اسْتَقَامَتْ عَلَى صِرَاطِ الْهِدَايَةِ الْمُسْتَقِيمِ، فَكَأَنَّهُ

صفحة رقم 5

قَالَ: إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ لَكُمْ وَصْفُ الْوَسَطِ إِذَا حَافَظْتُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَدْيِ الرَّسُولِ وَاسْتَقَمْتُمْ عَلَى سُنَّتِهِ، وَأَمَّا إِذَا انْحَرَفْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْجَادَّةِ، فَالرَّسُولُ بِنَفْسِهِ وَدِينِهِ وَسِيرَتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣: ١١٠) إِلَخْ ; بَلْ
تَخْرُجُونَ بِالِابْتِدَاعِ مِنَ الْوَسَطِ وَتَكُونُونَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ - وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:

كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : يُقَالُ إِنَّ هَذَا خَبَرٌ عَظِيمٌ بِمِنْحَةٍ جَلِيلَةٍ، وَمِنَّةٌ بِنِعْمَةٍ كَبِيرَةٍ، فَلِمَ جِيءَ بِهِ مُعْتَرِضًا فِي أَطْوَاءِ الْكَلَامِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَجِئِ ابْتِدَاءً أَوْ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْفِتْنَةَ بِمَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ سَتَكُونُ عَظِيمَةً، وَأَنْ سَيَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّهُ غَيَّرَ قِبْلَتَهُ، وَلَوْ كَانَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمَا نَهَاهُ عَنْهُ ثَانِيًا وَصَرَفَهُ عَنْ قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّهُ صَلَّى أَوَّلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتِمَالَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَدِهَانًا لَهُمْ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ وَطَنِهِ وَتَعْظِيمُهُ، فَعَادَ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي دِينِهِ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ - عَلَى كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَالِ فِي أَفْكَارِ قَائِلِيهَا - تُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمُطَمْئِنُّ الرَّاسِخُ فِي الْإِيمَانِ يَحْزَنُ لِشُكُوكِ النَّاسِ وَتَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ، وَالضَّعِيفُ غَيْرُ الْمُتَمَكِّنِ رُبَّمَا يَضْطَرِبُ وَيَتَزَلْزَلُ ; لِذَلِكَ بَدَأَ اللهُ بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَيَكُونُ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ إِثَارَةِ رِيَاحِ الشُّبَهِ وَالتَّشْكِيكِ، وَلَقَّنَهُمُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهِيَ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَسَطٌ لَا تَغْلُو فِي شَيْءٍ، وَلَا تَقِفُ عِنْدَ الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ; بِاعْتِدَالِهِمْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَفَهْمِهِمْ لِحَقَائِقِ الدِّينِ وَأَسْرَارِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهَا لَا شَأْنَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِيهَا بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَلَمَّا كَانَتْ نِسْبَةُ الْجِهَاتِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدَةً - إِذْ لَا تَحْصُرُهُ وَلَا تَحُدُّهُ جِهَةٌ - كَانَ الْتِزَامُ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا لِغَيْرِ مُجَرَّدِ الِاتِّبَاعِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ عَنِ اللهِ تَعَالَى مَيْلًا مَعَ الْهَوَى، أَوْ تَخْصِيصًا بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ لِنَفَسِهِ الْعَاقِلُ الْمُعْتَدِلُ فِي أَمْرِهِ، نَعَمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حِكْمَةِ التَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْوَاقِعِ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لَمْ يَأْمُرْ إِلَّا بِمَا ظَهَرَتْ فَائِدَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ لِلْمُمْتَثِلِينَ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْخَيْرِ وَتَوْجِيهِهَا إِلَى الْبِرِّ، مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِعْلَامَ اللهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَتَلْقِينَهُ إِيَّاهُمُ الْحُجَّةَ، وَإِنْزَالَهُمْ مَنْزِلَةَ الشُّهَدَاءِ وَالْمُحَكَّمِينَ، ثُمَّ تَبْيِينَهُ لَهُمْ حِكْمَةَ التَّحْوِيلِ، كَانَ مُؤَيِّدًا وَمُسَدِّدًا لَهُمْ، وَنُورًا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ظُلْمَةِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ هِيَ الْبَلَاغَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا ; إِعْلَامٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ اضْطِرَابِ

صفحة رقم 6

السُّفَهَاءِ فِي أَقْوَالِهِمْ، أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالِاسْتِفْهَامِ مُجْمَلًا، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ وَجْهُ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَا تَسْبِقَ إِلَى النُّفُوسِ، وَالْغَرَضُ إِقَامَةُ الْمَوَانِعِ مِنْ تَأْثِيرِهَا عِنْدَ وُرُودِهَا مِنْ أَرْبَابِهَا، وَاخْتِصَارٌ لِلْبُرْهَانِ بِبَيَانِ أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ كَسَائِرِ الْجِهَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى ; أَيْ: يُخَصِّصُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فَيَجْعَلُهُ قِبْلَةً لِمَنْ يَشَاءُ، وَبَيَانٌ لِمَكَانَةِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ كُلَّ أَصْلٍ دِينِيٍّ بِدَلِيلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَكُلِّفَتِ الْعَدْلَ وَالِاعْتِدَالَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ; أَيْ: فَلَا يَلِيقُ بِهَا أَنْ تُبَالِيَ بِانْتِقَادِ السُّفَهَاءِ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.
(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أَيْ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ فِيمَا مَضَى هِيَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَى الْيَوْمِ ثُمَّ أَمَرْنَاكَ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِلَى الْكَعْبَةِ إِلَّا لِيَتَبَيَّنَ لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الثَّابِتَ عَلَى إِيمَانِهِ مِمَّنْ لَا ثَبَاتَ لَهُ، فَتَعْلَمُوا الْمُتَّبِعَ لِلرَّسُولِ مِنَ الْمُنْقَلِبِ عَلَى عَقِبَيْهِ، بِرُجُوعِهِ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَّا لِيَكُونَ عِلْمُنَا الْغَيْبِيُّ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا وَمَآلِهِمَا عِلْمَ شَهَادَةٍ بِوُقُوعِ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ; أَيْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ صِدْقُ الصَّادِقِينَ، وَرَيْبُ الْمُرْتَابِينَ، وَعَاقِبَةُ الْمُنَافِقِينَ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ مَنْ فَقِهَ فِي الشَّيْءِ فَعَرَفَ سِرَّهُ وَحِكْمَتَهُ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ الْآخِذُ بِالظَّوَاهِرِ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ وَلَا عِرْفَانٍ، وَالْمُنَافِقُ غَيْرُ الْمُطَمْئِنِّ بِالْإِيمَانِ فَلَا يَثْبُتَانِ فِي مَهَابِّ عَوَاصِفِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ.
وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) : وَمَا صَيَّرْنَا الْقِبْلَةَ لَكَ الْآنَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا أَوَّلًا وَهِيَ الْكَعْبَةُ إِلَخْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الْأَقَلِّينَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي أَوَّلًا إِلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ النَّسْخُ قَدْ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِبْلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَبِيلِ (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (١٧: ٦٠) فَالرُّؤْيَا لَمْ تَكُنْ بِنَفْسِهَا فِتْنَةً وَإِنَّمَا افْتَتَنَ النَّاسُ إِذْ أُخْبِرُوا بِهَا وَلَمْ يَفْقَهُوا
الْمُرَادَ مِنْهَا، كَذَلِكَ الْقِبْلَةُ، لَيْسَ فِي جَعْلِ جِهَةِ كَذَا قِبْلَةً فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا الْفِتْنَةُ فِيمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ صَرْفًا عَنْ قِبْلَةٍ إِلَى غَيْرِهَا. فَالسُّفَهَاءُ وَالْجُهَّالُ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ يُنْكِرُونَ هَذَا التَّحْوِيلَ وَيَرَوْنَهُ أَمْرًا إِدًّا، وَالَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى فِقْهِ ذَلِكَ يَرَوْنَهُ أَمْرًا حَكِيمًا جِدًّا ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) فَمَنَحَهُمُ الِاعْتِدَالَ فِي الْفِكْرِ، وَالْإِدْرَاكَ فِي الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
ثُمَّ قَالَ: مَا مِثَالُهُ - مُوَضِّحًا قَوْلَهُ تَعَالَى: (لِنَعْلَمَ) - مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَمِثْلُهُ: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) (٧٢: ٢٨) وَقَوْلُهُ: (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ) (٥: ٩٤) وَالْعَقْلُ وَالنَّقْلُ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى قَدِيمٌ لَا يَتَجَدَّدُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَقْوَالٌ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَظْهَرَهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي لُغَتِهَا أَنْ تَنْسِبَ إِلَى الرَّئِيسِ وَالْكَبِيرِ مَا يَحْدُثُ بِأَمْرِهِ

صفحة رقم 7

وَتَدْبِيرِهِ، يَقُولُونَ: فَتَحَ الْأَمِيرُ الْبَلَدَ وَقَاتَلَ الْجَيْشَ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُونَ هَذَا وَالْأَمِيرُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْعَامِلِينَ، فَهُوَ أُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ إِذَا أُرِيدَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْجُمْهُورِ أَسْنَدُوهُ إِلَى الْمُقَدَّمِ فِيهِمْ، وَلَمَّا كَانَ اللهُ تَعَالَى وَلِيَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَخَاطَبَهُمْ خِطَابَ السَّيِّدِ ; صَحَّ بِحَسَبِ هَذَا الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُذْكَرَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الَّتِي تَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ، فَمَعْنَى (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إِلَّا لِيَعْلَمَ عِبَادِي الْمُؤْمِنُونَ بِإِعْلَامِي إِيَّاهُمْ. وَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ مَنْ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي قَلَبَتْهُ رِيحُ الشُّبْهَةِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَيْثُ لَا يُمَازُ أَحَدُهُمْ مِنَ الْآخَرِ ; لِقِيَامِهِمْ جَمِيعًا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الْمَطْلُوبَةِ. وَهَكَذَا كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُمَحِّصُ مَا فِي الْقُلُوبِ بِمَا يَبْتَلِي بِهِ النَّاسَ مِنَ الْفِتَنِ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (٢٩: ٢، ٣) وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ جَاءَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((يَا عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، وَجُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، وَعَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقِنِي)) خَرَّجُوهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَرِضَ عِبَادِي الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ هُمْ عِيَالُ اللهُ فَلَمْ تَعُدْهُمْ إِلَخْ.
نَعَمْ إِنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْهَا أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا ; لِقَطْعِ الْعَقْلِ
بِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥١: ٥٧) وَقَالَتِ الْعَرَبُ: إِنِّي جَائِعٌ فِي بَطْنِ غَيْرِي، وَعُرْيَانٌ فِي ظَهْرِ غَيْرِي، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) أَيْ: يُعْطِي عِبَادَهُ الْمُحْتَاجِينَ، وَاللهُ يُكَافِئُهُ عَنْهُمْ إِذْ كَانُوا عَاجِزِينَ.
وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ (لِنَعْلَمَ) وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِي مِثْلِ هَذَا عِلْمُ الظُّهُورِ وَالْوُقُوعِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا أَنَّهَا سَتَقَعُ لَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ، وَيَعْلَمُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ، وَالْجَزَاءُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: (لِنَعْلَمَ) يُرَادُ الثَّانِي ; أَيْ: لِنَعْلَمَ عِلْمَ وُقُوعٍ وَوُجُودٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا التَّجَدُّدُ فِي الْمَعْلُومِ لَا فِي نَفْسِ الْعِلْمِ ; أَيْ: إِنَّ الْمَعْلُومَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ وَظَهَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ جِهَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَّا لِنُحَوِّلَهَا وَنَمْتَحِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحْوِيلِ لِيَظْهَرَ مَا ثَبَتَ فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ مِنِ اتِّبَاعِ بَعْضِ النَّاسِ لِلرَّسُولِ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى هِدَايَتِهِ، وَانْقِلَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِظْهَارِهِ مَا أَكَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الرَّيْبِ، وَبِذَلِكَ يَمْتَازُ الْمُهْتَدُونَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَتَقُومُ الْحُجَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَمَعْنَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ: هُوَ الِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْوَرَاءِ وَهُوَ طَرِيقُ الْعَقِبَيْنِ، فَالْمُنْقَلِبُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادُوا إِلَى

صفحة رقم 8

مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ. وَيُقَالُ: رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَأَبْلَغُهَا: انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ، أَوْ مِنْ سُوءٍ إِلَى أَسْوَأَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ فِي مُتَعَلِّقِهِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) (١٨: ١٠٩) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) (٣١: ٢٧) فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ هُنَا: الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا، عَبَّرَ عَنْهَا بِذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْهَا وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللهِ (كُنْ) اهـ.
أَقُولُ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي التَّعْبِيرُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَبَعْدَ وُجُودِهِ بِعِلْمِ الشَّهَادَةِ كَمَا قُلْتُ آنِفًا، وَأَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ كَلِمَاتُ التَّكْوِينِ أَنْفُسُهَا لَا مُتَعَلِّقَاتُهَا الَّتِي هِيَ الْمَوْجُودَاتُ، فَعِلْمُ اللهِ قِسْمَانِ: غَيْبٌ وَشَهَادَةٌ، وَكَلِمَاتُهُ قِسْمَانِ: تَشْرِيعٌ وَتَكْوِينٌ.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) أَيْ: وَإِنَّ الْقِبْلَةَ أَوْ قِصَّتَهَا فِي نَسْخِهَا وَالتَّحَوُّلِ عَنْهَا لَكَبِيرَةُ الشَّأْنِ شَدِيدَةُ الْوَقْعِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، أَوْ مَا كَانَتْ إِلَّا كَبِيرَةً يَشُقُّ التَّحَوُّلُ عَنْهَا (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أَيْ: هَدَاهُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَالْعِلْمِ بِحِكَمِ شَرْعِهِ، فَعَقَلُوا أَنَّ التَّعَبُّدَ بِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِطَاعَةِ اللهِ بِهَا لَا بِسِرٍّ فِي ذَاتِهَا أَوْ مَكَانِهَا، وَأَنَّ حِكْمَتَهَا اجْتِمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ اتِّحَادِهِمْ وَجَمْعِ كَلِمَتِهِمْ.
(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أَقُولُ: أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يُضِيعَ إِيمَانَكُمُ الْبَاعِثَ لَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةِ، فَلَوْ كَانَ نَسْخُ الْقِبْلَةِ مِمَّا يُضِيعُ الْإِيمَانَ بِنَقْضِهِ أَوْ نَقْصِهِ أَوْ فَوْتِ ثَوَابِ مَا كَانَ قَبْلَهُ لَمَا نَسَخَهَا. أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَمِنْهُمُ (الْجَلَالُ) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ هُنَا الصَّلَاةُ، إِذْ وَرَدَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَبُّوا أَنْ يَعْرِفُوا حَالَ صَلَاتِهِمْ قَبْلَ التَّحْوِيلِ أَوْ صَلَاةَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُصَلِّ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَتَقَبَّلُ مِنَ الصَّلَاةِ مَا كَانَ أَثَرَ الْإِيمَانِ الْخَالِصِ ; أَيْ: مَتَى كُنْتُمْ تُصَلُّونَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، فَصَلَاتُكُمْ مَقْبُولَةٌ ; لِأَنَّهَا أَثَرُ الْإِيمَانِ الرَّاسِخِ فِي الْقَلْبِ الْمُصْلِحِ لِلنَّفْسِ، فَتَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ عَلَى هَذَا إِيمَانًا لَيْسَ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الدِّينِ، بَلْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَزِيَّتَهَا فِي مَنْشَئِهَا الْبَاعِثِ عَلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ الْإِيمَانُ دَائِمًا بِذِكْرِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَالصَّلَاةُ آيَةُ الْإِيمَانِ الْقَلْبِيَّةِ الْخَفِيَّةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ آيَةً إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْقَلْبِ، وَالزَّكَاةُ هِيَ الدَّلِيلُ الْحِسِّيُّ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَغُشُّ الْجَاهِلُ نَفْسَهُ بِالصَّلَاةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَقَامَهَا كَمَا أَمَرَ اللهُ إِذَا أَدَّى هَذِهِ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي هِيَ صُورَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ خَالِيَةً مِنْ رُوحِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ

صفحة رقم 9

الزَّكَاةَ آيَةٌ حِسِّيَّةٌ عَلَى الْإِيمَانِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغُشَّ نَفْسَهُ بِهَا إِنْسَانٌ، فَلْيُحَاسِبْ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللهِ وَكِتَابِهِ نَفْسَهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ بَلِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْفِتْنَةِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْقَلِبُ إِلَى الْكُفْرِ وَيَتْرُكُ الْإِيمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَثْبُتُ عَلَى إِيمَانِهِ عَالِمًا أَنَّ الِاعْتِقَادَ فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ الْجِهَاتَ فِي نَفْسِهَا مُتَسَاوِيَةٌ لَا فَضْلَ لِجِهَةٍ مِنْهَا عَلَى جِهَةٍ،
بَشَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ بِأَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ عَلَى إِيمَانِهِمُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فَلَا يُضِيعُ اللهُ أَجْرَهُمْ، وَلَا يَلِتْهُمْ مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ شَيْئًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا السِّيَاقَ الْعَجِيبَ، وَمِنْ عَجِيبِ شَأْنِ رُوَاةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ يُمَزِّقُونَ الطَّائِفَةَ الْمُلْتَئِمَةَ مِنَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَيَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ عِضِينَ مُتَفَرِّقَةً، بِمَا يُفَكِّكُونَ الْآيَاتِ وَيَفْصِلُونَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَبِمَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُوثَقَةِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجْعَلُونَ لِكُلِّ جُمْلَةٍ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا، كَمَا يَجْعَلُونَ لِكُلِّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا، انْظُرْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَجِدُ إِعْجَازَهَا فِي بَلَاغَةِ الْأُسْلُوبِ أَنْ مَهَّدَتْ لِلْأَمْرِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مَا يُشْعِرُ بِهِ فِي ضِمْنِ حِكَايَةِ شُبْهَةِ الْمُعْتَرِضِينَ الَّتِي سَتَقَعُ مِنْهُمْ، وَبِتَوْهِينِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِإِسْنَادِهَا إِلَى السُّفَهَاءِ مِنَ النَّاسِ وَإِيرَادِهَا مُجْمَلَةً، وَبِوَصْلِهَا بِالدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِهَا، وَبِذِكْرِ هِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا اعْوِجَاجَ، وَلَا تَفْرِيطَ عِنْدَ سَالِكِيهِ وَلَا إِفْرَاطَ، وَبِذِكْرِ مَكَانَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِدِينِهَا، وَاعْتِدَالِهَا فِي جَمِيعِ أَمْرِهَا، وَبِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ الْأُولَى قِبْلَةً ثُمَّ التَّحْوِيلِ عَنْهَا، وَبِالتَّلَطُّفِ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا سَيَكُونُ مِنَ ارْتِدَادِ بَعْضِ مَنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ عَنْ دِينِهِمُ افْتِتَانًا بِالتَّحْوِيلِ وَجَهْلًا بِالْأَمْرِ، إِذْ أَوْرَدَ الْخَبَرَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ حَتَّى لَا يَعْظُمَ وَقْعُهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِبَيَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَبِيرَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَهِيَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ بِمَعْرِفَةِ دَلَائِلِ الْمَسَائِلِ وَحِكَمِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ بِتَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ الثَّابِتِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِثَابَةِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.
وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَمَرَهُ بِالتَّحَوُّلِ أَمْرًا صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. أَفَيَصِحُّ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ الْمُوثَقِ بَعْضُ جُمَلِهِ وَآيَاتِهِ بِبَعْضٍ أَنْ نَفُكَّ وَثَقَهُ وَيُجْعَلُ نُتَفًا نُتَفًا، وَيُقَالُ: إِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُ نَزَلَتْ لِحَادِثَةٍ حَدَثَتْ، أَوْ كَلِمَةٍ قِيلَتْ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَلْبِ الْوَضْعِ، وَجَعْلِ الْأَوَّلِ آخِرًا وَالْآخِرِ أَوَّلًا، وَجَعْلِ آيَاتِ التَّمْهِيدِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ عَنْ آيَاتِ الْمَقْصِدِ؟ أَتَسْمَحُ لَنَا اللُّغَةُ وَالدِّينُ بِأَنْ نَجْعَلَ الْقُرْآنَ عِضِينَ ; لِأَجْلِ رِوَايَاتٍ رُوِيَتْ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِسْنَادَ بَعْضِهَا قَوِيٌّ بِحَسَبِ مَا عُرِفَ مِنْ تَارِيخِ الرَّاوِينَ؟ ! (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ النَّفْيِ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، وَإِنَّ تَوْفِيَةَ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ أَجْرَهُ هِيَ مِنْ آثَارِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يُخْشَى أَنْ تَتَخَلَّفَ وَأَنْ يَضِيعَ أَجْرُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. قَالَ (الْجَلَالُ) : وَالرَّأْفَةُ شِدَّةُ الرَّحْمَةِ، وَقَدَّمَ الْأَبْلَغَ

صفحة رقم 10

لِلْفَاصِلَةِ، وَأَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا الْقَوْلَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَيُنْكِرُ مِثْلَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَيَقُولُ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ فِي الْقُرْآنِ مَوْضُوعَةٌ فِي مَوْضِعِهَا اللَّائِقِ بِهَا فَلَيْسَ فِيهِ كَلِمَةٌ تَقَدَّمَتْ وَلَا كَلِمَةٌ تَأَخَّرَتْ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ إِثْبَاتٌ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا قَالُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ السَّجْعِ وَالشِّعْرِ: إِنَّهُ قَدَّمَ كَذَا وَأَخَّرَ كَذَا لِأَجْلِ السَّجْعِ وَلِأَجْلِ الْقَافِيَةِ. وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا الْتِزَامَ فِيهِ لِلسَّجْعِ، وَهُوَ مِنَ اللهِ الَّذِي لَا تَعْرِضُ لَهُ الضَّرُورَةُ، بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِتَأَثُّرِهِمْ بِقَوَانِينِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهِمْ فِي تَوْجِيهِ الْكَلَامِ، مَعَ الْغَفْلَةِ فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ عَنْ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا لِكُلِّ كَلِمَةٍ فِي مَكَانِهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ عِنْدَ أَهْلِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ اهـ.
(وَأَقُولُ) إِنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْفَوَاصِلَ مُلْتَزَمَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ بِغَيْرِ أَدْنَى ضَرُورَةٍ، وَلَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ بِتَرْجِيحِ اللَّفْظِ عَلَى بَلَاغَةِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ٧: ١٢٨ وَقَوْلِهِ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (٢٠: ١٣٢).
(ثُمَّ قَالَ) : وَعِنْدِي أَنَّ الرَّأْفَةَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ وَالرَّحْمَةُ أَعَمُّ، فَإِنَّ الرَّأْفَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ، وَالرَّحْمَةُ تَشْمَلُ دَفْعَ الْأَلَمِ وَالضُّرِّ وَتَشْمَلُ الْإِحْسَانَ وَزِيَادَةَ الْإِحْسَانِ، فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ هُنَا فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلِيلِ بَعْدَ الدَّعْوَى، فَهُوَ وَاقِعٌ فِي مَوْقِعِهِ كَمَا تُحِبُّ الْبَلَاغَةُ وَتَرْضَى، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ رَءُوفٌ بِالنَّاسِ ; لِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ فَلَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامَلٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يُظْهِرُ صِدْقَ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِهِ لِيُضِيعَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ، بَلْ لِيَجْزِيَهُمْ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ.
وَإِذَا كَانَ أَثَرُ الرَّأْفَةِ دَفْعَ الْبَلَاءِ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَهَا إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي تَعَالَى بِدَفْعِ الْبَلَاءِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَأْفَتِهِ، بَلْ
يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْإِحْسَانِ الشَّامِلِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ بَيَّنُوا أَنَّ كُلًّا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي الْإِنْسَانِ انْفِعَالٌ فِي النَّفْسِ أَثَرُهُ مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنَ الْإِحْسَانِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَالِانْفِعَالُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَتُفَسَّرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِذَا وُصِفَ بِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِآثَارِهَا وَغَايَاتِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ (ص ٦٤ ج ١) وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ (الرَّءُوفُ) بِالْمَدِّ، وَالْبَاقُونَ بِالْقَصْرِ.

صفحة رقم 11
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية