آيات من القرآن الكريم

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

المغرب (١).
وقوله تعالى: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قال ابن عباس: إلى دين مستقيم، يريد: أني قد رضيت قبلة أولئك، ورضيت هذه القبلة لمحمد - ﷺ -. "ودين الله" يسمى: صراطًا مستقيمًا؛ لأنه يؤدي إلى الجنة؛ كما يؤدي الطريق المستقيم إلى البغية (٢).
١٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ الآية. قال أهل المعاني: التشبيه في قوله: ﴿وَكذَلِكَ﴾ يرجع إلى ذكر الأنبياء الذين أنعم الله عليهم، وهم إبراهيم وأولاده، فلما ذكرهم وذكر النعمة عليهم بالكتاب المنزل، والحنيفية المستقيمة، قال: ﴿وَكذَلِكَ﴾ أي: وكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم، كذلك جعلناكم أمةً وسطًا (٣).
وقيل: هذه الآية تتصل بما قبلها من قوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: هديناكم وخصصناكم دونهم بالصراط المستقيم، وتحويل قبلتكم إلى قبلة إبراهيم، وكذلك أنعمنا عليكم نعمة أخرى فقال: إنا جعلناكم عدولًا (٤).
وقوله: ﴿وَسَطًا﴾ الوسط: اسم لما بين طرفي الشيء. قال الفراء: الوَسَط المثقل: اسم، كقولك: رأسٌ وسط وأسفل، ولا تقولن ههنا:

(١) ذكره أبو حيان في "البحر" ١/ ٤٢١.
(٢) ينظر: "تفسير القرطبي" ٢/ ١٤٠.
(٣) ينظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٥، "تفسير البغوي" ١/ ١٥٨، "تفسير الرازي" ٤/ ٩٦ - ٩٧.
(٤) ذكر الرازي في "التفسير الكبير" ٤/ ٩٦ - ٩٧، وجوهًا أخر. وينظر: "المحرر الوجيز" ٢/ ٣ - ٤، "البحر المحيط" ١/ ٤١٢.

صفحة رقم 369

وسْط بالتخفيف، واحتجم وَسَط رأسه، وربما خفف، وليس بالوجه. وجلس وسْط القوم، ولا تقول (١): وسَط؛ لأنه في معنى بين القوم، وجلس وسَط الدار؛ لأن (بين) لا يصلح في هذا الموضع، وربما خفف.
قال الفراء: قال ابن يونس: سمعت وسْط ووَسَط بمعنًى (٢)، قال الشاعر:

قالوا يالَ أشجع يومَ هَيْجٍ ووَسْط الدار ضَربًا واحْتِمايا (٣)
قال أحمد بن يحيى: ما اتحدت أجزاؤه فلم يتميز بعضه من بعض فهو وسَط بتحريك السين، نحو: وسَط الدار، ووسَط الرأس والكف، وما أشبهها. وما التفت أجزاؤه متجاورة، بعضها يتميز (٤) من بعض، كالعقد، وحلقة الناس، فهو وسْط (٥). ومما يصدق هذا ما روي في الخبر: "الجالس وسْط الحلقة ملعون" (٦)، لم يرو إلا بالتخفيف، وقال محمد بن يزيد: ما كان اسمًا فهو وسَط، محرّك السين، نحو قولك: وسَط رأسه صلبٌ، ووسَط
(١) في (أ): (ولا يقول).
(٢) قال الجوهري: كل وضع صلح فيه بين فهو وسْط، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسَط بالتحريك، وقال: وربما سكن، وليس بالوجه. وذكر البيت.
(٣) البيت، نسبه في "اللسان" ٨/ ٤٨٣١ (وسط) لأعصر بن سعد بن قيس عيلان.
(٤) في (م): (يتميز بعضها من بعض).
(٥) نقله عنه بمعناه في "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٨٨٨، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٤، "اللسان" ٨/ ٤٨٣٢ (وسط).
(٦) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٥/ ٣٨٤ عن حذيفة، في الذي يقعد في وسط الحلقة قال: ملعون على لسان ٢٢٧٥٢، والترمذي (٢٧٥٣) الأدب، باب: كراهية القعود وسط الحلقة، وأبو داود (٤٨٢٦) الأدب، باب: في الجلوس وسط الحلقة، وقال الترمذي: حسن صحيح.

صفحة رقم 370

داره واسع، وما كان طرفًا فهو وسْط، مسكن السين، نحو قولك: وسْط رأسه دهن، ووسْط داره رجل أي: في وسط داره، وفي وسط رأسه (١).
قال الفراء: ويقال: وسطتُ القوم سِطةً ووسوطًا إذا دخلت وسطهم: قال الله تعالى: ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات: ٥] (٢).
فأما التفسير: فقال عُظْم أهل التفسير في قوله: ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي: عدلًا خيارًا (٣)، وروي ذلك في حديث مرفوع، أخبرناه الأستاذ أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي (٤) رحمه الله، ثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص الزاهد (٥)، ثنا إبراهيم بن عبد الله الكوفي العبسي (٦)، ثنا

(١) نقله عنه بمعناه في "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٨٨٨، "اللسان" ٢/ ٤٨٣٢ (وسط).
(٢) نقله عنه بمعناه في "اللسان" ٨/ ٤٨٣٣، ينظر في معاني الوسط: "المفردات" ص ٥٣٧ - ٥٣٨، "البحر المحيط" ١/ ٤١٨، "اللسان" ٨/ ٤٨٣١ - ٤٨٣٤ (وسط).
(٣) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ٧، وابن أبي حاتم ١/ ٢٤٩، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٤، "المحرر الوجيز" ٢/ ٤ - ٥، "تفسير القرطبي" ٢/ ١٤٠.
(٤) هو محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أبو طاهر، من شيوخ الواحدي، كان إمام أصحاب الحديث بخراسان، وفقيههم ومفتيهم، أخذ الواحدي عنه، توفي سنة ٤١٠هـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٢٧٦ - ٢٧٨، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ١٠٥١.
(٥) هو الإمام الزاهد المعمر أبو بكر محمد بن عمر بن حفص النيسابوري العابد، سمع سهل بن عمار وغيره، روى عنه أبو طاهر بن محمش وغيره، توفي سنة ٣٣٥ هـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٣٧٦.
(٦) هو إبراهيم بن عبد الله العبسي الكوفي أبو شيبة، سمع من أبي نعيم وقبيصة والإمام أحمد وغيرهم، وحدث عنه ابن ماجه والنسائي في اليوم والليلة، قال أبو حاتم: صدوق، توفي سنة ٢٦٥ هـ. ينظر: "السير" ١١/ ١٢٨، "الجرح والتعديل" ٢/ ١١٠.

صفحة رقم 371

وكيع (١)، عن الأعمش (٢)، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له (٣): هل بلّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد - ﷺ - وأمته، فذلك قوله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ " (٤).
والوسط: العدل، ثم اختلفوا لِمَ سمّي العدل وسطًا؟ فقالت طائفة: هذا مأخوذ من وسط الوادي والقاع، وهو خير موضح فيه، وأكثره كَلأً وماءً، وذلك أن في غالب الأمر الماء يبرح وسط الوادي؛ لأنه في الصيف وشدة الحر ينحسر عن الأطراف إلى جوف الوادي، فيكون الكلأ هناك أكثر، ولذلك تقول العرب: انزل وسط الوادي، أي (٥): خير مكان منه (٦)، فعلى هذا (الوسط) اسم وصف به (٧)، ومنه قول زهير:
هم وَسَطٌ يرضى الأنام بحكمهم (٨)....................... البيت.

(١) هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي الحافظ، تقدمت ترجمته.
(٢) هو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي، تقدمت ترجمته [البقرة: ٦٠].
(٣) ساقط من (ش).
(٤) أخرجه البخاري (٣٣٣٩) كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾، ورواه أحمد ٣/ ٣٢، ٥٨، والطبري في "تفسيره" ٢/ ٨، وابن أبي حاتم ١/ ٢٤٩.
(٥) في (م): (انزل إلى وسط الوادي إلى)، وفي (أ): (انزل وسط الوادي إلى). وما أثبته موافق لما في "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٤٣.
(٦) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢١٩، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٣.
(٧) ينظر: "اللسان" ٨/ ٤٨٣٤ "وسط".
(٨) البيت تتمته:
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ

صفحة رقم 372

ويحتمل على هذا الاشتقاق: أنه أراد: هم وسط بين طرفين:
أحدهما: الغلو.
والثاني: التقصير، وهما مذمومان، وهذا قول الكلبي (١).
قال أهل المعاني: لما صار ما بين (٢) الغلو والتقصير خيرًا منهما (٣) صار الوسط، والأوسط عبارة عن كل ما هو خير، وإن لم يتصور فيه الغلو والتقصير، حتى قالوا: هو من أوسطهم نسبًا، أي: خيرهم، قال الله تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ [القلم: ٢٨] قيل في تفسيره: خيرهم وأعدلهم (٤)، وقال النبي - ﷺ -: "خير هذا الدين النمط الأوسط" (٥). فعلى هذا، أمة

= ذكره بهذا اللفظ الجاحظ في "البيان والتبيين" ٣/ ٣٢٥، لكنه قال: يرضى الإله. وهو تحريف مفسد للمعنى، وذكره ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص ٦٣، ولم ينسبه، وذكره الطبري في "تفسيره" ٢/ ٦، والثعلبي ١/ ١٢٣٤، والسمعاني ٢/ ٨٠، وأبو حيان في "البحر المحيط" ١/ ٤١٨، والسمين في "الدر المصون" ١/ ٣٩٣، وقال المعلق على "تفسير الطبري" ٢/ ٦: البيت من معلقة زهير، وروايته كما في "ديوانه" بشرح ثعلب، وفي شرحي التبريزي والزوزني للمعلقات، وكما في جمهرة أشعار العرب للقرشي:
لحيٍّ حلال يعصم الناس أمرهم إذا طرقت إحدى الليالي بِمُعْظَمِ
(١) ينظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٤، وذكره البغوي في "تفسيره" ١/ ١٥٨.
(٢) من قوله: (الغلو)، ساقط من (ش).
(٣) في (ش): (مبهمًا).
(٤) ينظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٤.
(٥) قال العراقي في "تخريج الإحياء" ١/ ١٠٦: حديث: "عليكم بالنمط الأوسط"، رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" موقوفا على علي بن أبي طالب، ولم أجده مرفوعا، وذكره في "اللسان" ٨/ ٤٨٣٣ "وسط" من كلام علي. وفي "تفسير القرطبي" ٢/ ١٤٠ - ١٤١: "عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي وإليه يرتفع النازل". والنمط: جماعة من الناس أمرهم واحد، وقيل هو الطريقة.

صفحة رقم 373

محمد - ﷺ - وسط، أي: عدول؛ لأنهم لم يغلوا غلو النصارى، ولا قصّروا تقصير اليهود، في حقوق أنبيائهم، بالقتل والصلب (١).
وقالت طائفة: وَسَط جمع واسط، وفَعَل يجوز في جمع فاعل، نحو: خدَم ونشَأ. والواسط: الذي يسِطُ الشيء، أي: يتوسطه، قال الشاعر:

وَسَطتْ نسبتي الذوائبَ منهم كلُّ دار فيها أبٌ لي عظيم (٢) (٣)
وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن نسبه توسط نسبهم، فهو كريم الطرفين، أبوه وأمه من ذلك النسب.
والثاني: أنه أخذ من واسطة القلادة؛ لأنه يجعل فيه أنفَسَ خَرَزها.
قال بعض سعد بن زيد مناة:
ومَن يفتقِرْ في قومه يحمَدِ الغنى وإن كان فيهم واسطَ العَمِّ مُخْوِلا (٤)
قوله: واسط العم، يحتمل المعنيين (٥).
وقوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: على جميع الأمم، وذلك أن (٦) الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين، أتى بالناس أمة بعد أمة، فيؤتى بأمة نوح، فيسألهم عما أرسل
(١) ينظر: "المحرر الوجيز" ١/ ٣ - ٥.
(٢) سقطت من (م).
(٣) البيت لحسان بن ثابت في "ديوانه" ص ٢٢٥.
(٤) البيت لجابر بن الثعلب الطائي، ينظر: "ديوان الحماسة" ١/ ١٠٩.
(٥) ينظر: "زاد المسير" ١/ ١٥٤.
(٦) في (م): (لأن الله).

صفحة رقم 374

إليهم، فينكرون أن نوحًا بلّغهم ما أرسل به إليهم، فيقول الله تعالى لنوح: ما فعلت فيما أرسلتك؟ فيقول: بلّغته قومي فكذّبوني وعصوك، فيقول الله له: زعموا أنك لم تبلّغهم فهل لك شهيد؟ فيقول: نعم، محمد وأمته، فيدعى بأمة محمد، فيقول الله تعالى: بم تشهدون لنوح؟ فيقولون: نشهد أنه قد بلّغ رسالاتك، فكذبوه وعصوك، فتقول أمة نوح: هؤلاء بعدنا يارب؛ كيف يشهدون علينا؟ فيقولون: ربنا أرسلت إلينا رسولًا، فآمنا به وصدقناه، فكان فيما أنزلت عليه ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٥]، إلى قوله: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١]. قال: ثم يؤتى بأمة بعد أمة فيشهدون عليهم (١).
وشهداء: لا ينوّن؛ لأن فيه ألف التأنيث، وألف التأنيث يبنى معها الاسم، وجعل الجمع بألف التأنيث كما جعل بهاء التأنيث، نحو: أَجْرِبَة، وأغْرِبَة، وضَرَبَة، وكَتَبَة (٢). وقال ابن زيد في هذه الآية: الأشهاد أربعة: الملائكة، والأنبياء، وأمة محمد - ﷺ -، والجوارح، وهذا كقوله: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [الزمر: ٦٩]. وقوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: ٥١] (٣).

(١) ذكره بمعناه من غير نسبة الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١٢٣٦، وينظر: "تفسير البغوي" ١/ ١٥٨، وبمعناه: حديث أبي سعيد عند البخاري (٧٣٤٩) كتاب الاعتصام، باب: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، ورواه الترمذي (٢٩٦١) كتاب التفسير، باب: ومن تفسير سورة البقرة، والنسائي في "التفسير" ١/ ١٩٧، وابن ماجه (٤٢٨٤) كتاب الزهد، باب: صفة أمة محمد - ﷺ -.
(٢) من "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٢٠ بتصرف، وأجربة: جمع جريب، والأصل فيه: كل أرض ذات حدود، ثم استعمل في مقدار معين من الأرض، وهو يستعمل في المساحة والكيل. وضربة: جمع ضارب.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٢/ ١١.

صفحة رقم 375

وقوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ قال المفسرون: وذلك أن محمدًا - ﷺ - يُسأل عن حال أمته، فيزكّيهم، ويشهد بصدقهم (١).
وقوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أي: لكم (٢)، كقوله (٣): ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣]، أي: للنصب، وقيل: معناه: على صدقهم، فهو من باب حذف المضاف (٤).
قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾؟ قال: أمةُ محمد شهداءُ على من ترك الحق من الناس أجمعين (٥)، حين جاءه الهدى والإيمان، فذكر الله في كتابه ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ يشهد على أنهم آمنوا بالحق حين جاءهم، وقبلوا، وصدّقوا به.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ اختلف أهل المعاني في هذا، فقال بعضهم: إن الله تعالى تعبّد نبيه والمسلمين بالصلاة إلى بيت المقدس حيث (٦) كانوا بمكة في أول الأمر مخالفةً للمشركين؛ ليتبين إيمان المؤمن ونفاق المنافق، إذ كانت العرب تحب الكعبة، وترغب في الصلاة إليها، ولا يعجبهم الصلاة إلى بيت المقدس، فتعبّدهم الله بما يشقّ

(١) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ٩ - ١١، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٥. وقال في "البحر المحيط" ١/ ٤٢٢: وفي شهادته أقوال: أحدها: شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه. والثاني: شهادته عليهم بإيمانهم. والثالث: يكون حجة عليهم. والرابع: تزكيته لهم وتعديلهم. ثم عزا هذا القول لأكثر المفسرين.
(٢) ينظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٥.
(٣) في (م): (لقوله).
(٤) ينظر: "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٣.
(٥) رواه "الطبري" في "تفسيره" ٢/ ١١، وابن أبي حاتم ١/ ٢٥٠، والبغوي ١/ ١٥٩.
(٦) في (ش): (حين).

صفحة رقم 376

عليهم، امتحانًا واختبارًا؛ ليظهر إيمان المؤمن عند صبره على ما يحبّ، ويتبين نفاق المنافق عند خلافه ربَّه في إيثاره هواه، فكأنه قال: تعبدناكم بالصلاة إلى بيت المقدس برهةً من الدهر؛ لنمتحنكم بذلك، ونختبركم.
وعلى هذا التأويل خبر ﴿جَعَلْنَا﴾ محذوف، معناه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لهذا، فحذف المفعول الثاني؛ لإحاطة العلم، ويقال: إن ﴿جَعَلْنَا﴾ هاهنا لا يقتضي (١) مفعولًا ثانيًا؛ لأنه في تأويل نصبنا.
وقال بعضهم: إن النبي - ﷺ - لما (٢) هاجر إلى المدينة أمر بالتوجه إلى الكعبة مخالفة لليهود وامتحانًا للمؤمنين، وعلى هذا التأويل (٣) تقدير الآية: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ فيكون من باب حذف المضاف (٤)، ويحتمل أن يكون التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، فأضمر المفعول الثاني، كما ذكرنا في الوجه الأول.
وتحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا ثالثًا، وهو أن ﴿كُنْتَ﴾ بمعنى: أنت (٥)، والتقدير: وما جعلنا القبلة التي أنت عليها -وهي: الكعبة- قبلةً،

(١) في (ش): (تقتضي).
(٢) ساقطة من (ش).
(٣) في (م): (وعلى هذا التقدير تأويل الآية).
(٤) ينظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٦.
(٥) ينظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٦، "البغوي" ١/ ١٥٩، "الكشاف" ١/ ١٩٩، وروي هذا عن ابن عباس.
ينظر: "البحر المحيط" ١/ ٤٢٣، وقال: وهذا من ابن عباس إن صح: تفسير معنى، لا تفسير إعراب؛ لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد.

صفحة رقم 377

فحذف المفعول الثاني، أو أراد بـ (جعلنا) معنى نصبنا، كما بينا.
ويجوز أن يريد بمعنى الكون: الحال، كقوله: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: ٢٩] أي: من هو في الحال صبي، وكقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ﴾ [آل عمران: ١١٠] أي: أنتم. ويؤكد هذا التأويل الثاني: أن جماعة من اليهود لما صرفت القبلة إلى الكعبة، قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، أكانت هدًى أو ضلالةً؟ فإن كانت هدًى، فقد تحولتم عنها، وإن كانت ضلالة، لقد دنتم الله بها؟ فقال المسلمون: إنما الهدى ما أمر الله به، والضلالة ما نهى الله عنه، عيّروهم بنسخ القبلة (١).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ والله تعالى عالم لم يزل، ولا يجوز أن يحدث له علم.
واختلف أهل المعاني في وجه تأويله (٢):
فذهب جماعة إلى أن العلم له منزلتان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به (٣) بعد وجوده، والحكم للعلم بعد الوجود؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب، والمتعبد بالشيء إذا لم يُطع وعصى عَلِمَه اللهُ تعالى عاصيًا، وإذا

(١) ذكره مقاتل في "تفسيره" ١/ ١٤٥ - ١٤٦، والثعلبي ١/ ١٢٣٨. وتنظر بعض الآثار التي تدل على هذا عند الطبري ٢/ ١١ - ١٢، وابن أبي حاتم ١/ ٢٤٨. وتنظر الوجوه الإعرابية في: "البحر المحيط" ١/ ٤٢٣، "التبيان" للعكبري ص ٩٨.
(٢) ينظر في وجوه تأويل هذا: "تفسير الطبري" ٢/ ١٢ - ١٤، "تفسير البغوي" ١/ ١٦٠، "المحرر الوجيز" ٢/ ٧ - ٨، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٢٣، "البحر المحيط" ١/ ٤٢٤.
(٣) سقطت من (ش).

صفحة رقم 378

أطاع عَلِمَه الله مطيعًا، وكان قبل أن أطاع لم يعلمه مطيعًا علمًا يستحق به الثواب، وإن كان في معلوم الباري أنه يطيع.
فمعنى قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل به الثواب والعقاب، وتبدل الأحوال على المعلوم لا يقتضي تبدل العلم وتغيره، وهذا مذهب جماعة من أهل النظر (١). ويؤيده: ما روي عن ابن عباس: أنه فسر العلم هاهنا: بالرؤية، وقال: معنى ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾: إلا لنرى (٢)، وهذا راجع إلى ما ذكرنا؛ لأنه إنما يراه إذا علمه موجودًا.
وحكى ابن الأنباري، عن الفراء، أنه قال: يجوز أن يكون الله جل اسمه أضاف العلم إليه، وهو للمخاطبين (٣) في المعنى، كما يجتمع جاهل وعاقل، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار. ويقول العاقل: النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما؛ لنعلم أيهما يحرق صاحبه؟. ومعناه: لتعلم أنت فينسب إلى نفسه فعل غيره، كذلك معنى الآية: إلا لتعلموا أنتم. ومثله: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾ [محمد: ٣١]، على هذا التأويل.
ويجوز في سَعَة العربية إضافة الفعل إلى من ليس له في الحقيقة، كقول العرب: طلعت الشِّعرى، وانتصب العود على الحرباء، معناه: انتصب الحرباء على العود، فنسب الانتصاب إلى غير فاعله، ومثله في الكلام: لا أرَيَنَّك ههنا، أوقع النهي على غير المنهي؛ لأن المنهيَّ المخاطب، وذكرنا

(١) ينظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٧، "تفسير السمعاني" ٢/ ٨٣، البغوي في "تفسيره" ١/ ١٦٠، "التفسير الكبير" ٤/ ١١٥.
(٢) ذكره الطبري في "تفسيره" ٢/ ١٣ - ١٤، ولم ينسبه لابن عباس، ثم رد عليه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ١٥٥.
(٣) في (أ): (المخاطبين).

صفحة رقم 379

هذا في قوله: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢].
وقيل: أراد ليعلم محمد - ﷺ -، فأضاف علمه إلى نفسه تخصيصًا وتفضيلًا، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٥٧] وقوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ [الزخرف: ٥٥] (١) وتحقيق هذا القول: أنه تعالى أراد: ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين، كما يقول الملك: فعلنا بمعنى: فعل أولياؤنا، ومنه: فتح عُمَرُ السواد، وجبى الخراج، وإن لم يتول ذلك بنفسه (٢).
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ أي: يطيعه في التوجه (٣) إلى بيت المقدس (٤).
﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي: يرتد فيرجع إلى الشرك دين آبائه (٥).
ويجوز أن يكون المراد: ممن هو مقيم على كفره (٦)؛ لأن جهة الاستقامة إقبال وخلافها إدبار، وكذلك وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر، هذا إذا قلنا: المراد بقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ بيت المقدس

(١) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٣، والثعلبي في "تفسيره" ١/ ١٢٣٨.
(٢) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٢/ ٨ عن الأقوال السابقة: وهذا كله متقارب، والقاعدة: نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" ١/ ٤٢٤: فهذه كلها تأويلات في قوله: (لنعلم) فرارًا من حدوث العلم وتجدده؛ إذ ذاك على الله مستحيل، وكل ما وقع في القرآن مما يدل على ذلك أُوِّل بما يناسبه من هذه التأويلات.
(٣) في (ش): (التوحيد).
(٤) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٤.
(٥) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٥، "زاد المسير" ١/ ١٥٥، "المحرر الوجيز" ٢/ ١٠، "تفسير القرطبي" ٢/ ١٤٤.
(٦) ينظر: "التفسير الكبير" ٤/ ١٠٥.

صفحة رقم 380

وإن قلنا: إن المراد هناك: التحويل عن بيت المقدس، وهو أظهر التأويلين (١)، فمعنى قوله: ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ أي: يوافقه في التوجه إلى الكعبة، والانحراف عن بيت المقدس ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي: يرتّد عن الدين فيرجع إلى اليهودية، أو إلى ما كان عليه. وذلك أن الله تعالى جعل نسخ القبلة عن الصخرة إلى الكعبة ابتلاء لعباده المؤمنين، فمن عصمه ووفقه صدَّق الرسول في ذلك، وعلم أن لله (٢) تعالى أن يتعبد عباده بما شاء، وأن له أن ينسخ ما تعبدهم به، فيحولهم إلى غير ذلك، وأن الصلاح لهم فيما يأمرهم به، ومن لم يعصمه شَكَّ في دينه، وتردد عليه أمره، وظن أن محمدًا في حَيْرة من أمره، فارتد عن الإسلام.
والانقلاب على العَقِب: عبارة عن الانصراف إلى حيث أقبل منه؛ لأن عقبَ الإنسان يكون وراءه، فإذا رجع إلى وراء يقال: نكص على عقبيه، وانقلب على عقبيه، أي: انصرف راجعًا (٣).
قال ابن عباس: ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يريد: من يرجع إلى دينه الأول (٤)، يعني: المنافقين، وسمي العقب عقبًا؛ لأنه يتلو القدَمَ، وأصل هذا الباب: الإتباع (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ قال سيبويه: ﴿وَإِنْ﴾ تأكيد شبيه

(١) ينظر: "البحر المحيط" ١/ ٤٢٥.
(٢) في (م) و (ش): (الله).
(٣) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٥، "المحرر الوجيز" ٢/ ١٠.
(٤) هذه من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها بالمقدمة.
(٥) ينظر: "المفردات" ص ٣٤٣ - ٣٤٤، "اللسان" ٥/ ٣٠٢٢ (عقب).

صفحة رقم 381

باليمين؛ لذلك دخلت اللام في جوابها (١).
قال أبو إسحاق: دخلت اللام مع إن، لأنها لو لم تدخل كان الكلام جحدًا، فلولا اللام كان المعنى: (ما كانت كبيرة)، فإذا جاءت (إن واللام) فمعناهما التوكيد للقصة (٢).
وأما التفسير: فقال ابن عباس (٣) ومجاهد (٤) وقتادة (٥): وقد كانت التولية إلى الكعبة لكبيرة.
قال ابن زيد (٦): وقد كانت الصلاة إلى الكعبة لكبيرة ثقيلة، إلا على الذين هدى الله، وقال أبو العالية: وإن كانت القبلة لكبيرة (٧)، يعني: الكعبة. وقيل: إنه يعني: بيت المقدس (٨)، أي: وإن كان اتباعها لكبيرًا إلا على الذين هدى الله.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ قال المفسرون: قالت اليهود للمسلمين لما حُوِّلت القبلة إلى الكعبة: إن كان هذا التحويل حقًّا

(١) ينظر: "الكتاب" لسيبويه ٤/ ٢٣٣، ٢/ ١٤٠.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٢٠، وينظر: "التبيان" للعكبري ٩٨، "البحر المحيط" ١/ ٤٢٥.
(٣) رواه عنه الطبري ٢/ ١٥، وابن أبي حاتم ١/ ٢٥١.
(٤) رواه عنه الطبري ٢/ ١٥، وابن أبي حاتم ١/ ٢٥١.
(٥) رواه عنه الطبري ٢/ ١٥، وذكره ابن أبي حاتم ١/ ٢٥١.
(٦) رواه عنه الطبري ٢/ ١٦.
(٧) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ١٥، بلفظ: عن أبي العالية (وإن كانت لكبيرة) أي: قبلة بيت المقدس (إلا على الذين هدى الله)، وذكره ابن أبي حاتم ١/ ٢٥١، وجعل قوله كقول مجاهد.
(٨) وعلى هذا المعنى حمله الطبري ٢/ ١٦.

صفحة رقم 382

فإنَّ من مات منكم وهو يصلي إلى بيت المقدس مات على الضَّلالة، وكان قد مات رجال من المسلمين قبل تحويل القبلة، فانطلق عشائرهم إلى النبي - ﷺ -، فقالوا: يارسول الله، صرفك الله إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا الذين ماتوا منا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ (١) أي: تصديقكم بأمر تلك القبلة.
قال الفراء: أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى: فيمن مات من المسلمين. وإنما أضيف إلى الأحياء؛ لأن الذين ماتوا على القبلة الأولى كانوا منهم. فقال: ﴿إِيمَانَكُمْ﴾ وهو يريد: إيمانهم؛ لأنهم داخلون معهم في الملة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، يريد: قتلنا منكم، فيواجههم بالقتل وهم أحياء (٢).
ويمكن أن يحمل على العموم، بأن أراد: إيمان الأحياء والأموات (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ الرأفة: أخص من

(١) روي بهذا اللفظ في: "تفسير الطبري" ٢/ ١٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٢٥١، "تفسير مقاتل" ١/ ٧٤، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٣٩، "الكفاية" للحيري ١/ ٧٩، "أسباب النزول" للواحدي ص ٤٥ - ٤٦، "تفسير البغوي" ١/ ١٢٣. وروى البخاري (٤٠) كتاب الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، عن البراء بن عازب أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم).
(٢) ينظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٨٣ - ٧٤.
(٣) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٨.

صفحة رقم 383

الرحمة وأرق، قال الفراء: الرأْفة والرآفة، مثل: الكأبة والكآبة (١).
وقال أبو زيد: رَأَفْتُ بالرجل، أَرْأَفُ به رأفةً، ورآفةً، ورَؤُفْتُ أَرْؤُفُ به، كلٌ من كلام العرب (٢). وفي الرؤوف قراءتان (٣):
أحدهما: رؤوف على وزن فعول.
والثانية: رؤف على وزن رَعُف.
فمن قرأ على فَعُول؛ فلأنه أكثر في كلامهم من فَعُل، ألا ترى أن باب صبور وشكور، أكثر من باب حذُر ويقُظ، وإذا كان أكثر في كلامهم كان أولى. يؤكد هذا: أن صفات الله قد جاءت على هذا (٤) الوزن، نحو: ﴿غَفُورٌ شَكُورٌ﴾، ولا نعلم فَعُلًا فيها قال الشاعر:

نطيع إلهنا ونطيع ربًّا هو الرحمن كان بنا رؤوفًا (٥)
ومن قرأ على وزن "رَعُف"، فقد قيل: إنه غالبُ لغة أهل الحجاز، ومنه قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط (٦):
(١) نقله عنه في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٢٣، وينظر: "لسان العرب" ٣/ ١٥٣٥ (رأف)، "البحر المحيط" ١/ ٤٢٦.
(٢) نقله عنه في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٢٣، وينظر: "لسان العرب" ٣/ ١٥٣٥ (رأف). وينظر في بيان معاني الرؤوف: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ٨٦.
(٣) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: (رؤف)، بهمزة من غير واو. وقرأ الباقون بواو بعد الهمزة. ينظر "السبعة" ص ١٧١، "النشر" ٢/ ٢٢٣.
(٤) في (أ)، (م): (على وزن رعف الوزن).
(٥) البيت لكعب بن مالك الأنصاري في "ديوانه" ص ٢٣٦، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٤٠ وروايته: نطيع رسولنا، "لسان العرب" ٣/ ١٥٣٥ "رأف"، وروايته: نطيع ربنا، "تاج العروس" ١٢/ ٢٢١ (رجف).
(٦) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، واسم أبي معيط أبان بن عمرو، أسلم يوم فتح =

صفحة رقم 384
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية