
بالعجائب (١).
١١٢ - قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ﴾ (بلى) هاهنا بمنزلته في قوله: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ﴾ (٢) [البقرة: ٨١]، وقد ذكرناه.
وقوله تعالى: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ الإسلام والاستسلام لله -عز وجل- هو الانقياد لطاعته، والقبول لأمره. ومن هذا قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: ٨٣] أي: انقاد، والإسلام الذي هو ضد الكفر من هذا. ثم ينقسم إلى: متابعة وانقياد باللسان دون القلب، كقوله: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]، أي: انقدنا من خوف السيف، وإلى متابعة وانقيادٍ باللسان والقلب كقوله: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١].
ومعنى قوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أي: بذل وجْهَهُ له في السجود (٣)، وعلى هذا ﴿أَسْلَمَ﴾ بمعنى سلَّم، يقال: سلّم الشيءَ لفلانٍ، أي: خَلَّصَه له، وسَلَمَ له الشيء، أي: خَلَصَ له (٤).
قال ابن الأنباري: والمسلم على هذا القول: هو المخلصُ لله
(١) ينظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٣٢٢ وليس عنده: أبْرَةَ الرجل إذا غلبَ الناسَ وأتى بالعجائب. وبنحوه في "اللسان" لابن منظور نقلًا عن الأزهري ١/ ٢٧١.
(٢) "تفسير الثعلبي" ١/ ١١١٩.
(٣) ينظر: "تفسير القرطبي" ١/ ٤٥١.
(٤) ينظر: "تفسير مقاتل" ١/ ١٣١، "تفسير الثعلبي" ١/ ١١١٩.

العبادةَ، فمعنى قوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾، أي: سلّم وجهه له، بأن صانه عن السجود لغيره، وخَصَّ الوجه، لأنه إذا جاد بوجهه في السجودِ لم يبخل بسائر جوارحه. وقال قومٌ من أهل المعاني: أسلمَ وجهَه أي: أسلمَ نفسه وجميع بدنه لأمر الله، والعرب تستعملُ الوجه وهم يريدون نفسَ الشيء، إلا أنَّهم يذكرونه باللفظ الأشرف (١)، كما قال: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨].
وقال جماعة: الوجهُ قد يقع صلةً في الكلام (٢)، فقوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أي: انقاد هو لله، ومثله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠] أي: انقدت لله بلساني وعَقْدي (٣)، قال زيد بن عمرو بن نفيل (٤):
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ | له المزنُ تحملُ عَذْبًا زُلالًا (٥) |
(٢) ذكره أبو حيان في: "البحر المحيط" ١/ ٣٥٢ معاني (أسلم وجهه) بأنه: أخلص عمله لله أو قصده، أو فوض أمره إلى الله تعالى، أو خضع وتواضع. ثم قال: وهذه أقوال متقاربة في المعنى، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضًا.
(٣) في (ش): (وعقيدتي).
(٤) هو: زيد بن عمرو بن نفيل العَدَوي، ابنُ عَمِّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يعادي عبادة الأوثان، ولا يأكل مما ذبح عليها، آمن بالنبي - ﷺ - قبل بعثته، قال فيه - ﷺ -: "إنه يبعث أمة وحده" توفي قبل البعثة بخمسِ سنين. ينظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ١٠٥، و"الإصابة" ١/ ٥٦٩.
(٥) هما بيتان ذكرهما الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١١١٩ هكذا:
أسلمت وجهي لمن أسلمت | له الأرض تحمل صخرًا ثقالا |
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له المزن تحمل عذبًا زلالا = |