
إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى أمر عدل بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا: من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون غيرهم من سائر البشر: (هاتوا برهانكم)، على ما تزعمون من ذلك، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين.
* * *
والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:-
١٨٠٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (هاتوا برهانكم)، هاتوا بينتكم.
١٨٠٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (هاتوا برهانكم)، هاتوا حجتكم.
١٨٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (قل هاتوا برهانكم)، قال: حجتكم. (١)
١٨٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (قل هاتوا برهانكم)، أي: حجتكم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)، عن أن الذي ذكرنا من الكلام، (٢) بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم.
* * *
وأما تأويل قوله: (قل هاتوا برهانكم) فإنه: أحضروا وأتوا به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ)، أنه ليس كما قال الزاعمون (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها وينعم فيها، كما:-
١٨٠٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية.
* * *
وقد بينا معنى (بلى) فيما مضى قبل. (٣)
* * *
وأما قوله: (من أسلم وجهه لله)، فإنه يعني بـ "إسلام الوجه": التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل"الإسلام": الاستسلام، لأنه"من استسلمت لأمره"، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي"المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:-
١٨١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ)، يقول: أخلص لله.
(٢) في المطبوعة: "على أن الذي ذكرنا"، وهو تحريف.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢٨٠، ٢٨١.

وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له المزن تحمل عذبا زلالا (١) |
* * *
وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه، لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء، فتضيفه إلى"وجهه" وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى:
أَؤُوِّل الحكم على وَجهه | ليس قضائي بالهوى الجائر (٢) |
فطاوعت همي وانجلى وجه بازل | من الأمر، لم يترك خِلاجا بُزُولُها (٣) |
(٢) ديوانه: ١٠٦ من قصيدته المشهورة. في منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، فهجا الأعشى علقمة لأمر كان بينهما. وفضل عليه عامرا. (انظر الأغاني ١٥: ٥٠ - ٥٦). وأول الحكم: قدره ودبره ورده إلى صوابه وأصله. والجائر: المائل عن سبيل الحق. جار: ظلم ومال وقبل البيت:
علقم، لا تسفه، ولا تجعلن | عرضك للوارد والصادر |
قد قلت قولا فقضى بينكم | واعترف المنفور للنافر |
عبيد الله من آل معمر | إليه ارحل الأنقاض يرشد رحيلها |

يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، (١) إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده، وهو محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر"الوجه" من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر"الوجه".
* * *
وأما قوله: (وهو محسن)، فإنه يعني به: في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له، محسنا في فعله ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ)، فللمسلم وجهه لله محسنا، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه، عند الله في معاده.
* * *
ويعني بقوله: (ولا خوف عليهم)، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون،

المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم.
* * *
ويعني بقوله: (ولا هم يحزنون)، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته.
* * *
وإنما قال جل ثناؤه: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وقد قال قبل: (فله أجره عند ربه)، لأن"من" التي في قوله: (بلى من أسلم وجهه لله)، في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله: (فله أجره) للفظ، والجمع في قوله: (ولا خوف عليهم)، للمعنى.
* * *