آيات من القرآن الكريم

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ

لا تثنّى ولا تجمع، وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: آتني برأس كبشين، أراد برأس كل واحد منهما، قال الشاعر:

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا فإن زمانكم زمن خميص «١»
وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى:
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»
يعني الأنوار.
قال الراعي:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب «٣»
وقرأ ابن عبلة: وعلى أسماعهم، وتم الكلام عند قوله وَعَلى سَمْعِهِمْ.
ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ: أي غطاء وحجاب، فلا يرون الحق، ومنه غاشية السرج، وقرأ المفضل بن محمد الضبي: غِشاوَةً بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة. يدل عليه قوله تعالى: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «٤».
وقرأ الحسن: غُشاوَةٌ بضم الغين، وقرأ الخدري: غَشاوَةٌ بفتح الغين، وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف.
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: القتل والأسر في الدنيا، والعذاب الأليم في العقبى، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه، ومنه: عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم، وقال الخليل:
العذاب ما يمنع الإنسان من مراده، ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش، ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن بشر، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٦]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
(١) زاد المسير: ١/ ٢٢.
(٢) سورة البقرة: ٢٥٧.
(٣) قائله علقمة بن عبدة راجع ديوانه: ٢٧ وتفسير الطبري: ٤/ ٣٢٤. [.....]
(٤) سورة الجاثية: ٢٣.

صفحة رقم 151

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا: صدّقنا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: أي يوم القيامة «١».
قال الله تعالى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ والناس: هم جماعة من الحيوان المتميّز بالصورة الإنسانية، وهو جمع إنسان، وإنسان في الأصل إنسيان بالياء، فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته إلى السين فصار إنسانا الا ترى إنّك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت: أنيسيان، واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم: فقال ابن عباس: سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. قال الله تعالى وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ «٢»، وقال الشاعر:
وسمّيت إنسانا لأنك ناسي «٣»
وقال بعض أهل المعاني: سمّي إنسانا لظهوره وقدس البصير إياه من قولك: آنست كذا:
أي أبصرت. فقال الله تعالى آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً «٤» وقيل: لأنه استأنس به، وقيل:
لما خلق الله آدم آنسه بزوجته فسمّي إنسانا.
يُخادِعُونَ اللَّهَ: أي يخالفون الله ويكذّبونه، وأصل الخدع في اللغة: الإخفاء، ومنه قيل [للبيت الذي يحيا فيه المتاع] مخدع، والمخادع يظهر خلاف ما يضمر، وقال بعضهم: أصل الخداع في لغة: الفساد، قال الشاعر:

أبيض اللون لذيذ طعمه طيّب الرّيق إذا الريق خدع «٥»
أي فسد.
فيكون معناه: ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم، وقيل معناه:
يُخادِعُونَ اللَّهَ بزعمهم وفي ظنّهم، يعني إنهم اجترءوا على الله حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون، وهذا كقوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «٦» يعني بظنّك وعلى زعمك.
وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم. وقيل: معناه يخادعون رسوله،
(١) راجع تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤٣ وأسباب النزول للواحدي: ١٧٤.
(٢) سورة طه: ١١٥.
(٣) جاء بنحو النثر لا الشعر في لسان العرب: ٦/ ١١.
(٤) سورة القصص: ٢٩.
(٥) لسان العرب: ٨/ ٦٥.
(٦) سورة طه: ٩٧.

صفحة رقم 152

كقوله: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «١» أي أسخطونا، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ «٢» أي أولياء الله لأن الله سبحانه لا يؤذى ولا يخادع، فبيّن الله تعالى أنّ من آذى نبيا من أنبيائه ووليا من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل عليه
الخبر المروي: إن الله تعالى يقول: من آذى وليا من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة «٣».
وقيل: إنّ ذكر الله سبحانه في قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ تحسين وتزيين لسامع الكلام، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ «٤». ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة، وقد يكون أيضا من واحد كقولك: طارقت النعل، وعاقبت اللصّ، وعافاك الله، قال الله عزّ وجلّ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «٥» وقال: قاتَلَهُمُ اللَّهُ «٦» والمخادعة ها هنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع.
وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنا، وهم غير مؤمنين، وقال بعضهم: من خداعهم المؤمنين: هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم. قال الله تعالى:
وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم على أسرارهم ونفاقهم، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى.
قال أهل الإشارة: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فإنّ من خادعه فإنما يخدع نفسه.
واختلف القرّاء في قوله: وَما يَخْدَعُونَ فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء: يُخادِعُونَ بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول، وقوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ لم يختلفوا فيه إلّا ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ: (يخدعون الله) وقرأ الباقون وَما يَخْدَعُونَ على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد.

(١) سورة الزخرف: ٥٥.
(٢) سورة الأحزاب: ٥٧.
(٣) تفسير ابن كثير: ١/ ١٣٧.
(٤) سورة الأنفال: ٤١.
(٥) سورة الأعراف: ٢١.
(٦) سورة التوبة: ٣٠.

صفحة رقم 153

وَما يَشْعُرُونَ «١» وما يعلمون إنها كذلك.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ ونفاق، ومنه يقال: فلان يمرض في الوعد إذا لم يصحّحه، وأصل المرض: الضّعف والفتور. فسمّي الشك في الدّين والنفاق [مرض به] يضعف البدن وينقص قواه ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب، كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك والموت.
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً شكّا ونفاقا وهلاكا.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن معدي كرب:

أمن ريحانة الداعي المسيع يؤرّقني وأصحابي هجوع «٢»
أي المسمع: يعني خيالها.
بِما كانُوا يَكْذِبُونَ: (ما) مصدرية، أي بتكذيبهم على الله ورسوله في السرّ.
وقرأ أهل الكوفة: بفتح الياء وتخفيف الذال، أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.
وَإِذا: حرف توقيت بمعنى حينئذ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر وفيها معنى الجزاء، قِيلَ: فعل ماض مجهول، وكان في الأصل قول مثل قيل، فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، هذه اللغة العالية وعليها العامة وهي اختيار أبي عبيد.
وقرأ الكسائي ويعقوب: قيل، وغيض، وحيل، وسيق، وجيء، وشيء وشيت بإشمام الضمّة فيها لتكون دالة على الواو المنقلبة، وفاصلة بين الصّدر والمصدر.
لَهُمْ: يعني المنافقين، وقيل: اليهود. قال لهم المؤمنون: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن، وقال الضحّاك: تبديل الملّة وتغيير السّنة وتحريف كتاب الله.
قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا: كلمة تنبيه إِنَّهُمْ: هُمُ عماد وتأكيد الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ: ما أعدّ لهم من العذاب.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: [قال] «٣» المؤمنون لليهود: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ وهم عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
(١) سورة البقرة: ٩. [.....]
(٢) لسان العرب: ٨/ ١٦٤.
(٣) زياد لإتمام المعنى.

صفحة رقم 154

قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الجهّال. قال الله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ بأنهم كذلك، وقيل: لا يؤدون العلم حقّه، وقال المؤرّخ: السفيه: البهّات الكذّاب المتعمّد لخلاف ما يعلم.
قطرب: السفيه: العجول الظلوم يعمل خلاف الحق.
واختلف القرّاء في قوله: السُّفَهاءُ أَلا فحقّق بعضهم الهمزتين، وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم.
وأما أبو عمرو وأهل الحجاز فإنّهم همزوا الأولى وليّنوا الثانية طلبا للخفّة، واختار الفرّاء حذف الأولى وهمز الثانية، واحتج بأن ما يستأنف- أي بالهمزة- مما يسكت عليه.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا.
قال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن أبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقى سعدا قال: نعم الدين دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه. قالوا: هل نكفر؟ قال: سدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ محتجا به، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: عبد الله بن أبيّ لأصحابه: أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السّفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصّدّيق سيّد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار، والباذل نفسه وماله له. ثمّ أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيّد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيّد بني هاشم ما خلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال علي: كف لله واتق الله ولا تنافق، فإنّ المنافقين شر خليقة الله، فقال له عبد الله: مهلا أبا الحسن إليّ تقول هذا، والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصدّيقنا كتصديقكم ثمّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيرا، وقالوا: لا نزال معك ما عشت، فرجع المسلمون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه بذلك، فأنزل الله وَإِذا لَقُوا أي رأوا، يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه
، كان (لَقُوا) في الأصل (لقيوا) فاستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة فحذفت لاجتماعهما.
وقرأ محمد بن السميقع: وإذا لاقوا وهما بمعنى واحد.
الَّذِينَ آمَنُوا: يعني أبا بكر وأصحابه قالُوا آمَنَّا كأيمانكم. وَإِذا خَلَوْا رجعوا، ويجوز أن تكون من الخلوة، تقول: خلوت به وخلوت إليه، وخلوت معه، كلها بمعنى واحد.

صفحة رقم 155

وقال النضر بن شميل: إِلى ها هنا بمعنى (مع) كقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «١» : أي مع نسائكم، وقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «٢» وقوله:
مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «٣» النابغة:

ولا تتركنّي بالوعيد كأنني إلى الناس مطليّ به القار أجرب «٤»
أي مع الناس.
وقال آخر:
ولوح ذراعين في بركة إلى جؤجؤ رهل المنكب «٥»
أي مع جؤجؤ.
إِلى شَياطِينِهِمْ: أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم وكهنتهم.
قال ابن عباس: هم خمسة نفر من اليهود، ولا يكون كاهن إلّا ومعه شيطان تابع له: كعب ابن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الله في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السّوداء بالشام.
والشيطان: المتمرد العاصي من الجن والإنس، ومن كل شيء، ومنه قيل: للحيّة النضناض «٦» : الشيطان، قال الله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «٧» أي الحيات، وتقول العرب: اتّق تلك الدابة فإنّها شيطان.
وفي الحديث: «إذا مرّ الرجل بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان».
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّه نظر الى رجل يتبع حماما طائرا فقال: «شيطان يتبع شيطانا «٨» »
[٧٤] «٩».
(١) سورة البقرة: ١٨٧.
(٢) سورة النساء: ٢.
(٣) آل عمران: ٥٢.
(٤) لسان العرب: ١٥/ ٤٣٥.
(٥) لسان العرب: ٣/ ١٥٦.
(٦) النضناض من الحيّات: التي أخرجت لسانها تحركه، أو التي لا تستقر في مكان، أو التي إذا نهشت قتلت من ساعتها.
(٧) سورة الصافات: ٦٥.
(٨) وفي بعض المصادر: شيطانه.
(٩) مسند أحمد: ٢/ ٣٤٥ كنز العمال: ١٥/ ٢١٨.

صفحة رقم 156

أراد الراعي الخبيث الداعي.
ويحكى عن بعضهم إنه قال في تضاعيف كلامه: وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له:
وأي الشياطين ركبك؟ قال: الغضب.
وقال أبو النجم:

إنّي وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر «١»
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم وأنصاركم.
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بمحمد وأصحابه.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم جزاء استهزائهم، فسمّي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثله في الصورة كقوله جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٢» فسمّي جزاء السيئة سيئة.
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلنّ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا «٣»
وقال آخر:
نجازيهم كيل الصواع بما أتوا ومن يركب ابن العمّ بالظلم يظلم
فسمّى الجزاء ظلما.
وقيل: معناه: الله يوبّخهم ويعرضهم ويخطّئ فعلهم لأنّ الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل، كما يقال: إنّ فلانا يستهزأ به منذ اليوم، أي يعاب. قال الله إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها «٤» أي تعاب، وقال أخبارا عن نوح عليه السّلام: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ «٥».
وقال الحسن: معناه: الله يظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عباس: هو أن الله يطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبّون أن تدخلوا الجنة، فيقولون: نعم فيفتح لهم باب من الجنة، ويقال لهم: ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عليهم، وردّوا إلى
(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/ ٤٢٥.
(٢) سورة الشورى: ٤٠.
(٣) لسان العرب: ٣/ ١٧٧ و ٨/ ٦٤. [.....]
(٤) سورة النساء: ١٤٠.
(٥) سورة هود: ٣٨.

صفحة رقم 157

النار ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ»
إلى قوله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ «٢».
الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدّ الله فيها لأهلها من الكرامة، نودوا: أن اصرفوهم عنها. قال: ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون: يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول الله جل جلاله: هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم. فاليوم أذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي» [٧٥] «٣».
وقيل: هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية.
وهو قوله فيما بعد: وَيَمُدُّهُمْ يتركهم، ويمهلهم ويطيل لهم، وأصله: الزيادة، ويقال:
مدّ النهر، ومدّة: زمن آخر.
وقرأ ابن محيصن وشبل: وَيُمِدُّهُمْ بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد لأنّ المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير. قال الله عزّ وجلّ في المد: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «٤»، وقال في الإمداد: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «٥» وقال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ «٦»، وقال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «٧».
فِي طُغْيانِهِمْ كفرهم وضلالتهم وجهالتهم، وأصل الطغيان: مجاوزة القدر، يقال:
ميزان فيه طغيان، أي مجاوزة للقدر في الإستواء. قال الله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ «٨» أي جاوز حدّه الذي قدّر له، وقال لفرعون: إِنَّهُ طَغى «٩» أي أسرف في الدعوى حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «١٠».
يَعْمَهُونَ يمضون، يترددون في الضلالة متحيرين.
يقال: عمه يعمه عمها وعموها، وعمها فهو عمه، وعامه: إذا كان جائرا عن الحق. قال رؤبة:

ومهمه أطرافه في مهمه أعمى الهدى بالجاهلين العمّه «١١»
(١) سورة المطففين: ٢٩.
(٢) سورة المطففين: ٣٤.
(٣) كنز العمال: ٣/ ٤٨٤ بتفاوت.
(٤) سورة مريم: ٧٩.
(٥) سورة الإسراء: ٦.
(٦) سورة المؤمنون: ٥٥.
(٧) سورة نوح: ١٢.
(٨) سورة الحاقة: ١١.
(٩) سورة طه: ٢٤.
(١٠) سورة النازعات: ٢٤.
(١١) لسان العرب: ١٣/ ٥١٩.

صفحة رقم 158

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى:
قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ومعناه: إنهم استبدلوا الكفر على الإيمان، وإنّما أخرجه بلفظ الشّرى والتجارة توسّعا لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الاستبدال والإختيار وذلك أنّ كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، وقال الشاعر:

أخذت بالجمّة رأسا إزعرا وبالثنايا الواضحات الدّردرا
وبالطويل العمر عمرا جيدرا كما اشترى المسلم إذ تنصّرا «١»
أي اختار النصرانية على الإسلام.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق: اشْتَرَوِا الضَّلالَةَ بكسر الواو لأنّ الجزم يحرّك الى الكسرة العدوى بفتحها حركة إلى أخف الحركات.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ: أي فما ربحوا في تجارتهم.
تقول العرب: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، ونام ليلك. أي ربحت وخسرت في بيعك، ونمت في ليلك.
قال الله عزّ وجلّ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «٢»، وقال: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «٣».
قال الشاعر:
وأعور من نيهان أمّا نهاره فأعمى وأمّا ليله فبصير «٤»
وقال آخر:
حارث قد فرّجت عنّي همّي فنام ليلي وتجلّى غمّي «٥»
وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة: (فما ربحت تجاراتهم) بالجمع.
وَما كانُوا مُهْتَدِينَ: من الضلالة، وقال: مصيبين في تجاراتهم.
قال سفيان الثوري: كلكم تاجر فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وقال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «٦».
(١) التبيان- الطوسي-: ١/ ٨٣. [.....]
(٢) سورة محمد: ٢١.
(٣) سورة سبأ: ٣٣.
(٤) جامع البيان للطبري: ١/ ٢٠٢.
(٥) جامع البيان للطبري: ١/ ٢٠٢.
(٦) سورة الصف: ١٠.

صفحة رقم 159
الكشف والبيان عن تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أو الثعالبي
راجعه
نظير الساعدي
الناشر
دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان
سنة النشر
1422 - 2002
الطبعة
الأولى 1422، ه - 2002 م
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية