
ثبتوا على نفاقهم، ودأبوا على أن يلبّسوا على المسلمين، فهتك الله أستارهم بقوله: وما هم بمؤمنين كذا قيل:
من تحلى بغير ما هو فيه | فضح الامتحان ما يدّعيه |
ويقال لما عدموا صدق الأحوال لم ينفعهم صدق الأقوال، فإن الله تعالى قال: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» فكانوا يقولون نشهد إنك لرسول الله، وكذلك من أظهر من نفسه ما لم يتحقق به افتضح عند أرباب التحقيق فى الحال، وقيل:
أيها المدعى سليمى هواها | لست منها ولا قلامة ظفر |
إنما أنت فى هواها كواو | ألصقت فى الهجاء ظلما بعمرو |
[سورة البقرة (٢) : آية ٩]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
عاد وبال خداعهم والعقوبة عليه «١» إلى أنفسهم فصاروا فى التحقيق كأنهم خادعوا أنفسهم، فما استهانوا إلا بأقدارهم، وما استخفّوا إلا بأنفسهم، وما ذاق وبال فعلهم سواهم، وما قطعوا إلا وتينهم. ومن كان عالما بحقائق المعلومات فمن رام خداعه إنما يخدع نفسه.
والإشارة فى هذه الآية أن من تناسى لطفه السابق وقال لى ربى ومنى وأنا يقع فى وهمه وظنه لك وبك ومنك وأنت، وهذا التوهم أصعب العقوبات «٢» لأنه يرى سرابا فيظنه شرابا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوقّاه حسابه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
فى قلوب المنافقين مرض الشك، ويزيدهم الله مرضا بتوهمهم أنهم نجوا بما لبّسوا
(٢) جاء فى رسالة القشيري «التوحيد إسقاط الياءات فلا تقول لى وبي ومنى وإلى» ص ١٤٩

على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يخلص وجعه إليهم فى المآل. (وفى) الإشارة يحصل لمن خلط قصده بحظّه، وشاب إرادته بهواه (أن) يتقدم فى الإرادة بقدم، ويتأخر بالحظوظ ومتابعة النفس بأخرى، فهو لا مريد صادق ولا عاقل متثبت. ولو أن المنافقين أخلصوا فى عقائدهم لأمنوا «١» فى الآخرة من العقوبة كما أمنوا فى الدنيا من نحو بذل الجزية وغير ذلك مما هو صفة أهل الشرك والذمة «٢»، كذلك لو صدق المريد فى إرادته لوصل بقلبه إلى حقائق الوصلة، ولأدركته بركات الصدق فيما رامه من الظفر بالبغية، ولكن حاله كما قيل:
فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف... ولو خلصنا تخلصنا من المحن «٣»
وإن من سقمت عبادته حيل بينه وبين درجات الجنات، ومن سقمت إرادته حيل بينه وبين مواصلات القرب والمناجاة. وأمّا من ركن إلى الدنيا واتّبع الهوى فسكونهم «٤» إلى دار الغرور سقم لقلوبهم، والزيادة فى علتهم تكون بزيادة حرصهم كلما وجدوا منها شيئا- عجّل لهم العقوبة عليه- يتضاعف حرصهم على ما لم يجدوه.
ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتت همومهم ثم تنغّص عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفى معناه قيل:
تبدلت فتبدلنا وا حسرتا... لمن ابتغى عوضا ليسلو فلم يجد «٥»
والإشارة فى العذاب الأليم بما كانوا يكذبون إنما هى الحسرة يوم الكشف إذا رأوا أشكالهم الذين صدقوا كيف وصلوا، ورأوا أنفسهم كيف خسروا.
(٢) وردت (وألزمته) وهى خطأ فى الكتابة.
(٣) أصلحنا قليلا فى البيت لكى يؤدى معنى، لأن ما فى البيت من اخطاء كتابية تفقده كل قيمة، وترجح أنها (حيف) لا (حنف) وإن كان الحنف معناه الميل إلا أن الحيف وهو الظلم أقرب.
(٤) ويحتمل ايضا انها فى الأصل (فركونهم) حتى تتلاءم مع (ومن ركن... )، وكلاهما مقبول.
(٥) وزن البيت غير سليم وقد ورد فيه (وا خسرانا) و (ليلى) ويبدو أن الناسخ قد وقع فى اخطاء أخرى عند النقل.