
قولُه تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ : الآية. الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله: ﴿وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: ٧]. والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ «مَرَض»، ورَوى الأصمعي عن أبي عمرو سكونَها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض. والمرضُ: الفتورُ، وقيل: الفساد، ويُطلق على الظلمة، وانشدوا:
١٧٨ - في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ | فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ |
وقوله: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ : هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها، مُتَسَبِّبَةٌ عنها، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى. و «زاد» يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: زاد المال، فهذا لازمٌ، وزِدْتُ زيداً خيراً، ومنه ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]، ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ «وزدتُ صفحة رقم 129

زيداً» ولا تذكر ما زِدْتَه، وزدْتُ مالاً، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه وألفُ «زاد» منقلبةٌ عن ياء لقولهم: يزيدُ.
﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ نظير قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧] وقد تقدَّم. وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم، كقوله:
١٧٩ - ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ | يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ |
و ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في «لهم» أي: استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و «ما» يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ ل «كان» مصدراً، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر:
١٨٠ - بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى | وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ |

كان زيد قائماً كوناً»، قالوا: لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر، ولا يُجْمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على «ما» لأنها حرفٌ مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماً. ويجوز أن تكونَ «ما» بمعنى الذي، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذِّبونه، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط، وهو كونُه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ.
وزعم أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ، قال: «لأن الهاء المقدرةَ عائدةٌ على» الذي «لا على المصدرِ» وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة، حتى يلزمَ جَعْلُ «ما» اسميةً، بل مَنْ قرأ «يَكْذِبون» مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ، ومَنْ قرأه مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي: بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف. وقرأ الكوفيون: «يَكْذِبون» بالفتح والتخفيفِ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ.
ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمْيُ بكذا، ومنه الآيةُ الكريمةُ، والتعديةُ نحو: فَرَّحْتُ زيداً، والتكثير نحو: قَطَّعْتُ

الأثواب، والجَعْلُ على صفة نحو: قطَّرْتُه أي: جعلته مُقَطَّرا، ومنه:
١٨١ - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها | مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا |
و «الكذب» اختلف الناسُ فيه، فقائلٌ: هو الإِخبار عن الشيء بغيرِ ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: بغير ما هو عليهِ في الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم أم لا. وقيل: الإِخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج أم لا، والصدقُ نقيضُه، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ. صفحة رقم 132