
فورا.
أخرج مسلم في صحيحة: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا، فيشتريه، فيعتقه».
ولا يخفى على الله أحد من خلقه، فإنه تعالى علم عددهم، وعدهم عدا دقيقا، وكل واحد يأتيه يوم القيامة واحدا منفردا لا ناصر له، ولا مال معه لينفعه كما قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء ٢٦/ ٨٨- ٨٩] فلا ينفعه إلا ما قدّم من عمل صالح.
وفي قوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً إشارة إلى أنكم أيها المشركون لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم، والكل عبيده، فكيف رضيتم له ما لا ترضون لأنفسكم؟! وإذا كنتم أيضا لا ترضون لأنفسكم البنات، فكيف تنسبون البنات إلى الله؟ في قولكم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله.
والخلاصة: إن هذه الآيات المقررة لنفي اتخاذ الإله ولدا، تلتقي مع موضوع سورة الإخلاص المتقدمة: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ومع الحديث المتقدم الذي
أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يقول الله تبارك وتعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن لي كفوا أحد».
محبة المؤمنين وتيسير الذكر المبين وإهلاك المجرمين
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)

المفردات اللغوية:
سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا الودّ: المودة والمحبة، والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تودد منهم، يحبهم الناس، ويتحابون فيما بينهم، ويحبهم الله تعالى، أي يرضى عنهم.
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أنزلناه بلغتك العربية، والباء بمعنى على، أو على أصله لتضمن «يسرنا» معنى (أنزلنا). الْمُتَّقِينَ الصائرين إلى التقوى بالإيمان والعمل الصالح. وَتُنْذِرَ تخوف لُدًّا جمع ألدّ: وهو الشديد الخصومة، المجادل بالباطل، واللد: هم كفار مكة. وَكَمْ أي كثيرا. مِنْ قَرْنٍ أي أمة من الأمم الماضية، وهو تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على إنذارهم. هَلْ تُحِسُّ تجد. رِكْزاً صوتا خفيا؟ لا، والمعنى: فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
سبب النزول:
أخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي كرم الله وجهه: «اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدر المؤمنين ودّا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية».
المناسبة:
بعد أن رد الله تعالى على أصناف الكفار، وأبان أحوالهم في الدنيا والآخرة، ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين، وأوضح أنه سيغرس محبتهم في قلوب العباد، من غير تودد منهم، ولا تعرض لأسباب الوداد من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك.
ثم استأنف تعالى بيان تيسير القرآن بلسان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لما تضمنه في هذه السورة من دلائل التوحيد والنبوة والحشر والنشر، وليبشر به وينذر.
ثم ختم السورة بموعظة بليغة وإنذار بإهلاك المشركين كما أهلك من قبلهم من الأمم، فإنهم إذا علموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا، والموت، خافوا ذلك، وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة، فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب.

التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي إن الذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا صالح الأعمال من المفروضات والتطوعات، وأحلوا الحلال وحرموا الحرام، وفعلوا ما يرضي الله، سيغرس الله محبتهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة. والصالحات: هي الأعمال التي ترضي الله عزّ وجلّ، لمتابعتها الشريعة المحمدية.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبّه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل: إني قد أبغضت فلانا، فينادي في السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض»
فاتفق الحديث مع الآية في إنزال المحبة في الأرض للعباد الصالحين، وأن هذه المحبة والمودة في القلوب تكون بإحداث الله دون تعرض للأسباب المؤدية إلى إيجاد المودات من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك.
ثم استأنف الله تعالى كلامه لبيان موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر، والرد على الفرق الضالة المضلة، فقال: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا أي يسرنا القرآن لك بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، لتبشر به المتصفين بالتقوى، المستجيبين لله، المصدقين لرسوله، بأن لهم الجنة بالطاعة، وتنذر به القوم الألداء، الشديدي الخصومة والجدل، العوج عن الحق، المائلين إلى الباطل، بان لهم النار بالكفر والعصيان.
ثم ختم تعالى السورة بموعظة بليغة قائلا:

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي كثيرا ما أهلكنا قبل العرب المشركين من الأمم والجماعات من الناس، لكفرهم بآيات الله وتكذيب رسله، فهل ترى منهم أحدا، أو تسمع لهم صوتا؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
١- إذا أحب الله عبدا لتقواه، ورضاه عنه باتباعه شرع الله ودينه، كتب له المحبة والمودة في قلوب عباده الصالحين، وعند الملائكة المقربين، وإن كان مكروها عند الظلمة والكفار والفساق.
قال هرم بن حيّان: ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم.
والنموذج الأول لذاك هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنماذج التي بعده هم كبار صحابته، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة، لا يلقاه مؤمن إلا وقّره، ولا مشرك ولا منافق إلا عظّمه.
ومن كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا، ولا يرضى إلا خالصا نقيا، جعلنا الله تعالى منهم بمنّه وكرمه.
٢- نزل القرآن الكريم بلسان العرب ولغتهم، ليسهل عليهم فهمه.
٣- عذب الله كثيرا من الأمم والجماعات عذاب الاستئصال لكفرهم بالله، وتكذيبهم رسله الكرام، وأكرم الله الأمم بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فرفع عنهم عذاب الإبادة والاستئصال.

٤- في الآيتين الأخيرتين وعد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنصر والغلبة على المشركين العرب من قومه، ووعيد لأولئك الكافرين وأمثالهم بالعقاب والعذاب والذل والهوان.
٥- تنحصر مهمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التبشير والإنذار، وفي الآية حث له عليهما، أي تبشير من أطاعه بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار.

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة طهمكية، وهي مائة وخمس وثلاثون آية.
التسمية:
سميت (سورة طه) لابتداء السورة بالنداء بها طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وهو اسم من أسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي ذلك تكريم له، وتسلية عما يلقاه من إعراض قومه.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه هي:
أولا- أن طه نزلت بعد سورة مريم، كما روي عن ابن عباس.
ثانيا- أنه ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين (عشرة) مثل زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم، وموسى الذي ذكرت قصته موجزة مجملة، فذكرت في هذه السورة موضحة مفصلة، كما وضحت قصة آدم عليه السلام الذي لم يذكر في سورة مريم إلا مجرد اسمه فقط.
ثالثا- أنه ذكر في آخر سورة مريم تيسير القرآن باللسان العربي، لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم للتبشير والإنذار، وابتدئ ذكر هذه السورة بتأكيد هذا المعنى.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كموضوعات سائر السور المكية وهو إثبات أصول الدين صفحة رقم 174

من التوحيد والنبوة والبعث. وكانت بداية السورة ذات إيحاء وتأثير عجيب، من خلال الحديث عن سلطان الله وعظمته وقدرته وشمول علمه، وقد أدرك هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تلاوتها في بداية إسلامه، كما هو معروف في قصة إسلامه.
وتضمنت السورة ما يأتي:
١- القرآن الكريم تذكرة لمن يخشى رب الأرض والسموات العلى، وتثبيت لشخصية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قيامه بواجب الدعوة والتبليغ، والإنذار والتبشير، وعدم الالتفات لمكائد المشركين [الآيات: ١- ٨].
٢- البيان الجلي لقصة موسى وتكليم الله له، وإلقائه صغيرا في اليم في صندوق، وإرساله مع أخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار، وجداله بالحسنى لإثبات ربوبية الله وحده، ومبارزته السحرة، وتأييد الله له وانتصاره المؤزر، وإيمان السحرة بدعوته، ومعجزة انفلاق البحر وعبور بني إسرائيل فيه، وإهلاك فرعون وجنوده، وكفران بني إسرائيل بنعم الله الكثيرة عليهم، وحديث السامري وإضلاله بني إسرائيل باتخاذ العجل إلها لهم، وغضب موسى من أخيه هارون، الآيات [٩- ٩٨].
٣- الإشارة لفائدة القصص القرآني، وتوضيح جزاء من أعرض عن القرآن [٩٩- ١٠١].
٤- بيان حالة الحشر الرهيبة، وإبادة الجبال، وأوصاف المجرمين يوم القيامة، والحساب العادل [١٠٢- ١١٢].
٥- عربية القرآن ووعيده وعصمة رسوله من نسيانه [١١٣- ١١٤].
٦- إيراد قصة آدم عليه السلام مع إبليس في الجنة [١١٥- ١٢٢].