
ولما كان من المستبعد معرفة الخلائق كلهم، أتبعه بقوله: ﴿لقد﴾ أي والله لقد ﴿أحصاهم﴾ كلهم إحاطة بهم ﴿وعدهم﴾ ولما كان ذلك لا يكاد يصدق، أكده بالمصدر فقال: ﴿عداً *﴾ قبل خلقهم من جميع جهات العبد ولوازمها، فلم يوجد ولم يولد، ولم يعدم أو يصب
صفحة رقم 249
أحد منهم إلا في حينه الذي عده له، وقد يكون الإحصاء قبل الوجود في عالم الغيب والعد بعد الوجود ﴿وكلهم﴾ أي وكل واحد منهم ﴿ءاتيه يوم القيامة﴾ بعد بعثه من الموت ﴿فرداً *﴾ على صفة الذل، موروثاً ماله وولده الذي كنا أعطيناه في الدنيا قوة له وعزاً، لأنه لا موجود غيره يقدر على حراسة نفسه من الفناء، فهو لا شك في قبضته، فكيف يتصور في بال أو يقع في خيال أن يكون شيء من ذلك له ولداً أو معه شريكاً.
ولما عم بهذا الحكم الطائع والعاصي، وكان ذلك محزناً لأهل الطاعة باستشعار الذل في الدارين، تحركت النفس إلى معرفة ما أفادتهم الطاعة، واستأنف الجواب لذلك مبشراً لهم بقوله: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا﴾ تصديقاً لادعائهم الإيمان، الأعمال ﴿الصالحات سيجعل﴾ تحقيقاً عما قليل عند بيعة العقبة ﴿لهم الرحمن﴾ الذي خصهم بالرضا بعد أن عمهم بالنعمة، جزاء على انقيادهم له، لأنه كان إما باختيارهم وإما برضاهم ﴿وداً *﴾ أي حباً عظيماً في قلوب العباد، دالاً على ما لهم عندهم من الود؛ قال الأصبهاني: من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي تكسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع غيره أو غير ذلك، وإنما هو اختراع ابتدأ اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة كما

قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم - انتهى. والمراد - والله أعلم - أنه لا يجعل سبحانه في قلب أحد من عباده الصالحين عليهم إحنة، لأن الود - كما قال الإمام أبو الحسن الحرالي: خلو عن إرادة المكروه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يزيد ذلك وضوحاً؛ روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبرئيل فقال: يا جبرئيل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبرئيل فقال: يا جبرئيل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض».
ولما كان إنزال هذا القول الثقيل ثم تيسيره حفظاً وعملاً سبباً لما جعل لأهل الطاعة في الدنيا من الود بما لهم من التحلي والتزين بالصالحات، والتخلي والتصون من السيئات، الدال على ما لهم عند مولاهم من عظيم العز والقرب، وكان التقدير: والذين كفروا ليكسبنهم

الجبار بغضاً وذلاًّ، فأخبر كلاًّ من الفريقين بما له بشارة ونذارة، قال مسبباً عن إفصاح ذلك وإفهامه: ﴿فإنما يسرناه﴾ أي هذا القرآن، الذي عجز عن معارضته الإنس والجان، والكتاب القيم والوحي الذي لا مبدل له بسبب إنزالنا إياه ﴿بلسانك﴾ هذا العربي المبين، العذب الرصين ﴿لتبشر به المتقين﴾ وهم الذين يجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية، فلا يبطلون حقاً ولا يحقون باطلاً، ومتى حصلت لهم هفوة بادروا الرجوع عنها بالمتاب، بما لهم عندنا من العز الذي هو ثمرة العز المدلول عليه بما لهم منه في الدنيا، لا لتحزنهم بأن ينزل فيه ما يوهم تسويتهم بأهل المعصية في كلتا الدارين ﴿وتنذر به قوماً لدّاً *﴾ أشد في الخصومة، يريدون العز بذلك، لما لهم عندنا من الذل والهوان الناشىء عن المقت المسبب عن مساوىء الأعمال، وأنا نهلكهم إن لم يرجعوا عن لددهم، والألد هو الذي يتمادى في غيه ولا يرجع لدليل، ويركب في عناد الحق ما يقدر عليه من الشر، ولا يكون هذا إلا ممن يحتقر من يخاصمه ويريد أن يجعل الحق باطلاً، تكبراً عن قبوله، فينطبق عليه ما رواه مسلم في الإيمان عن صحيحه، وأبو داود في اللباس من سننه، والترمذي في البر من جامعه، وابن ماجه في السنة من سننه عن ابن مسعود
صفحة رقم 252
رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط -» وفي رواية: «وغمص - الناس» وكلاهما بمعنى الاحتقار، ومن كان هذا سبيله مرن على ذلك ومرد عليه، فكان جديراً بأن يركبه الله أبطل الباطل: الكفر عند الموت، فتحرم عليه الجنة، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق﴾ [الأعراف: ٤٩] فيا ذل من تكبر على الحق! ويا عز من تشرف بالذل للحق والعز على الباطل! ولعمري لقد أجرى الله عادته - ولن تجد لسنة الله تحويلاً أن من تعود الجراءة بالباطل كان ذليلاً في الحق، وإليه يشير قوله تعالى في وصف أحبابه ﴿أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤].
ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول ﴿ينذر﴾ : فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم، عطف عليه قوله: ﴿وكم أهلكنا﴾ بما لنا من العظمة، ولما كان المراد التعميم، أثبت الظرف

عرياً عن الجار، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال: ﴿قبلهم من قرن﴾ كانوا أشد منهم شدة، وأكثر عدة، وأوثق عدة، فلم يبق إلا سماع أخبارهم، ومشاهدة آثارهم؛ ثم قال تصويراً لحالهم، وتقريراً لمضمون ما مضى من مآلهم: ﴿هل تحس منهم من أحد﴾ ببصر أو لمس ﴿أو تسمع لهم ركزاً *﴾ أي صوتاً خفياً فضلاً عن أن يكون جلياً، فقد ختمت السورة بما بدئت به من الرحمة لأوليائه، والود لأصفيائه، والنعمة للذين خلفوا بعدهم من أعدائه، بعد الرحمة للفريقين بهذا الكتاب بشارة ونذارة فحلت الرحمة على أوليائه، وزلت عن أعدائه والله الموفق.
صفحة رقم 254
مقصودها الإعلام بإمهال المدعوين والحلم عنهم والترفق بهم إلى أن يكونوا أكثر الأمم، زيادة في الشرف داعيهم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وعلى هذا المقصد الشريف دل اسمها بطريق الرمز والإشارة، لتبيين أهل الفطنة والبصارة، وذلك بما في أولها من الحروف المقطعة، وذلك أنه لما كان ختام سورة مريم حاملاً على الخوف من أن تهلك أمته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قبل ظهور أمره الذي أمر الله به ةاشتهار دعوته، لقلة من آمن به منهم، ابتدأه سبحانه بالطاء إشارة بمخرجها الذي هو من رأس اللسان وأصول الثنيتين العليين إلى قوة أمر وانتشاره، وعلوه وكثرة أتباعه، لأن هذا المخرج أكثر المخارج حروفاً، وأشدها حركة وأوسعها انتشاراً، وبما فيها من صفات الجهر والإطباق والاستعلاء والقلقلة إلى انقلاب ما هو فيه من الإسرار جهراً، وما هو فيه من الرقة فخامة، لأنها من حروف التفخيم، وأنه يستعلي أمره، وينتشر ذكره، حتى يطبق جميع الوجود ويقلقل سائر الأمم، ولكن يكون ذلك.
بما تشير إليه الهاء بمخرجها من أقصى الحلق.

على حد بعده من طرف اللسان مع طول كبير وتماد كثير، وبما فيها من صفات الهمس والرخاوة والانفتاح والاستفال والخفاء مع مخافته وضعف كبير، وهدوء وخفاء عظيم، ومقاساة شدائد كبار، مع نوع فخامة واشتهار، وهو وإن كان اشتهاراً يسيراً يغلب هذا الضعف كله وإن كان قوياً شديداً، وقراءة الإمالة للهاء تشير إلى شدة الضعف، وقراءة التفخيم.
وهي الأكثر القراء.
مشيرة إلى فخامة القدر وقوة الأمر، بما لهما من الانتفاخ، وإن رئي أنه ليس كذلك (إنه ليخافهملك بني الأصفر) وإن كان معنى الحرفين: يا رجل، فهو إشارة إلى قوته وعلو قدره، وفخامة ذكره، وانتشار أتباعه وعموم أمره، وإن كانا إشارة إلى وطء الأرض فهو إلاحة إلى قوة التمكن وعظيم القدرة وبعدد الصيت حتى تصير كلها ملكاً له ولأتباعه، وملكاً لأمرائه واشياعه.
والله أعلم.
وذكر ابن الفرات في تأريخه أن هحر الحبشة كانت قي السنة الثامنة من المبعث فالظاهر.
على ما يأتي في إسلام عمر رضي الله عنه أن نزول هذه السورة أو أولها كان قرب هجرة الحبشة، فيكون سبحانه قد رمز له (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) على ما هو

ألذ في محادثة الأحباب، من صريح الخطاب، بعدد مسمى الطاء إلى أن وهن الكفار الوهن الشديد.
يقع في السنة التاسعة من نزولها، وذلك في غزوة بدر الموعد في سنة أربع من الهجرة، وبعدد اسمها إلى أن الفتح الأول يكون في السنة الحاية عشر من نزولها، وذلك في عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة عند نزول سورة الفتح، ورمز له بعدد مسمى الهاء إلى أن مبدأ النصرة بالهجرة في السنة الخامسة من نزولها، وبعدد اسمها إلى أن نصرة بالفعل يعق في السنة السابعة من نزولها، وذلك في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وبعدد حرفي اسمها لا بعدد اسميها إلى أنه في السنة الثالثة عشر من نزولها يكون بفتح الأكبر بالاستعلاء على مكة المشرفة التي كان سبباً قريباً للاستعلاء على جميع الأرض، وذلك في أواخرها في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وكان تمتمه بفتح الطائف بإرسال وفدهم وإسلامهم وهدم طاغيتهم في سنة تسع، وهي السنة الرابعة عشرة، وبعدد اسميهما إلى أن تطبيق أكثر الأرض بالإسلام يكون في السنة الثامنة عشرة من نزولها، وذلك بخلافة عمر رضي الله عنه في السنة الثالثة عشر من الهجرة.
والله أعلم.
) بسم (الواسع الحلم التام القدرة) الله (الملك الأعظم) الرحمن (

الذي استوى في أصل نعمته جميع خلقه) الرحيم (الذي أتم النعمة على أهل توفيقه ولطفه) طه
صفحة رقم 258