
لَقَدْ كَلَّفَنِي شَطَطَا | وَأَمْرًا خَائِبًا فُرُطَا |
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتُرُ بَعْضًا مِنَ الْعُرْيِ وَقَارِئٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَاذَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ وَاحِدٌ يَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَنَحْنُ نَسْتَمِعُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ إِلَى أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» ثُمَّ جَلَسَ وَسَطَنَا وَقَالَ: «أَبْشِرُوا يَا صَعَالِيكَ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِمِقْدَارِ خمسين ألف سنة».
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ قَالُوا إِنْ طَرَدْتَ الْفُقَرَاءَ آمَنَّا بِكَ، قَالَ بَعْدَهُ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْحَقَّ إِنَّمَا أَتَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ عَادَ النَّفْعُ إِلَيْكُمْ وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهُ عَادَ الضَّرَرُ إِلَيْكُمْ وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْفَقْرِ وَالْغِنَى وَالْقُبْحِ وَالْحُسْنِ وَالْخُمُولِ وَالشُّهْرَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحَقَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْحَقُّ الَّذِي/ جَاءَنِي مِنْ عِنْدِهِ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ وَلَا أَطْرُدَهُمْ وَلَا أَلْتَفِتَ إِلَى الرُّؤَسَاءِ وَأَهْلِ الدُّنْيَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي طَرْدِ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِيمَانِ جَمْعٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ فَطَرْدُ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ لَا يُوجِبُ إِلَّا سُقُوطَ حُرْمَتِهِمْ وَهَذَا ضَرَرٌ قَلِيلٌ. أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ، قُلْنَا: أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فَمُسَلَّمٌ إِلَّا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ لِأَجْلِ الْحَذَرِ مِنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ فَإِيمَانُهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ بَلْ هُوَ نِفَاقٌ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى إِيمَانِ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَصِفَتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ. فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَحُصُولَ الْكُفْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ مَشِيئَةِ الْإِيمَانِ وَحُصُولِ مَشِيئَةِ الْكُفْرِ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ أَيْضًا صفحة رقم 458

يَدُلُّ لَهُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ بِدُونِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ وَبِدُونِ الِاخْتِيَارِ لَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ حُصُولُ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ إِنْ كَانَ بِقَصْدٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ وَاخْتِيَارٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ مَسْبُوقًا بِقَصْدٍ آخَرَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَهُوَ مُحَالٌ. فَوَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْقُصُودِ وَتِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ إِلَى قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَصْدِ الضَّرُورِيِّ وَالِاخْتِيَارُ الضَّرُورِيُّ يُوجِبِ الْفِعْلَ، فَالْإِنْسَانُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْمُعَارِضِ لَمْ يَتَرَتَّبِ الْفِعْلُ، وَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ يَجِبُ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، فَلَا حُصُولُ الْمَشِيئَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ، وَلَا حُصُولُ الْفِعْلِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ. فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَلَقَدْ قَرَّرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ التَّوَكُّلِ مِنْ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا أَنِّي إِنْ شِئْتُ الْفِعْلَ قَدَرْتُ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ شِئْتُ التَّرْكَ قَدَرْتُ عَلَى التَّرْكِ فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ بِي لَا بِغَيْرِي. وَأَجَابَ عَنْهُ، وَقَالَ: هَبْ أَنَّكَ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَلْ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ مَشِيئَةَ الْفِعْلِ حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ لَمْ تَحْصُلْ. بَلِ الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ يَشَاءُ الْفِعْلَ لَا بِسَبْقِ مَشِيئَةٍ أُخْرَى عَلَى تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَإِذَا شَاءَ الْفِعْلَ وَجَبَ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُكْنَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَحُصُولُ الْمَشِيئَةِ فِي الْقَلْبِ أَمْرٌ لَازِمٌ وَتَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ أَيْضًا أَمْرٌ لَازِمٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فِيهِ فَوَائِدُ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْفَاعِلِ بِدُونِ الْقَصْدِ وَالدَّاعِي مُحَالٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا لِمَعْنَى الطَّلَبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الصِّيغَةُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَلَيْسَتْ بِتَخْيِيرٍ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَسْتَضِرُّ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، بَلْ نَفْعُ الْإِيمَانِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَضَرَرُ الْكُفْرِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧]، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْبَاطِلَ وَالْحَقَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ، وَبِذِكْرِ الْوَعْدِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. أَمَّا الْوَعِيدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يَقُولُ أَعْتَدْنَا لِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَوَضَعَ الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ موضعها والأنفة في غير محلها فعند ما اسْتَحْسَنَ بِهَوَاهُ وَأَنِفَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فُقَرَاءُ وَمَسَاكِينُ، فَهَذَا كُلُّهُ ظُلْمٌ وَوَضْعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعَدَّ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ نَارًا وَهِيَ الْجَحِيمُ، ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ بِصِفَتَيْنِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ:
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَالسُّرَادِقُ هو الحجزة الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ فَأَثْبَتَ لِلنَّارِ شَيْئًا شَبِيهًا بِذَلِكَ يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا فُرْجَةَ يَتَفَرَّجُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ غَيْرِ النَّارِ بَلْ هِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّرَادِقِ الدُّخَّانُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [الْمُرْسَلَاتِ: ٣٠] وَقَالُوا: هَذِهِ الْإِحَاطَةُ بِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ فَيَغْشَاهُمْ هَذَا الدُّخَانُ وَيُحِيطُ بِهِمْ كَالسُّرَادِقِ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَذِهِ النَّارِ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ
قِيلَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِنَّهُ دَرْدِيُّ الزَّيْتِ
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ بيت المال