
(أي قل عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف) (١).
قال المفسرون: (إن الله -عز وجل- فعل به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين، وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف) (٢).
وقال بعضهم: (هذا نبأ أمر أن يقوله مع الاستثناء إذا ذكر، وهو كفارة نسيان الاستثناء أن يقول: ﴿عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ﴾ إلى آخرها) (٣). والمعنى: عسى أن يهدين حتى لا أنسى الاستثناء بمشيئته، وهو أقرب رشدًا من أن ينسى ذلك.
وقال بعضهم: (هذا فيما ينساه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يذكر الله تعالى فسأله أو يذكره ما نسي، أو يهديه لما هو خير له من ذكر ما نسيه) (٤).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ﴾ الآية، اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين أحدهما: أن هذا إخبار عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك (٥). وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك قال: (إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوي أبعد مما بين السماء والأرض ثم تلا: {وَلَبِثُوا
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ١٦٣، و"الكشاف" ٢/ ٣٨٧، و"زاد المسير" ٥/ ١٢٩ و"التفسير الكبير" ١١/ ١١١.
(٣) "جامع البيان" ١٥/ ٢٣٠، و"معالم التنزيل" ٥/ ١٦٤، و"المحرر الوجيز" ٩/ ٢٨١، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٩٥.
(٤) "معالم التنزيل" ٥/ ١٦٤، و"الكشاف" ٢/ ٣٨٧.
(٥) "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٤٥٨، و"جامع البيان" ١٥/ ٢٣٠، و"معالم التنزيل" ٥/ ١٦، و"النكت والعيون" ٣/ ٣٠٠.

فِي كَهْفِهِمْ} الآية، ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا: ثلاثمائة سنة وتسع سنين، قال: فلو كانوا لبثوا ذلك لم يقل الله: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾، ولكنه حكى مقالة القوم، فقال: سيقولون: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ﴾ الآية (١).
وقال قتادة: (هذا قول أهل الكتاب، فرد الله عليهم بقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ قال: ويدل على صحة هذا قراءة ابن مسعود: قالوا لبثوا في كهفهم) (٢). ونحو هذا قال مطر الورّاق (٣) (٤).
القول الثاني: أن هذه الآية إخبار عن الله تعالى، أخبر عن قدر لبثهم في الكهف من يوم دخلوا إلى أن بعثهم الله وأطلع عليهم الخلق (٥)؛ وهذا قول مجاهد قال في هذه الآية: (هو عدد ما لبثوا) (٦)، ونحوه قال عبد الله بن عبيد بن عمير (٧)،
(٢) "جامع البيان" ١٥/ ٢٣٠، و"معالم التنزيل" ٥/ ١٦٤، و"النكت والعيون" ٣/ ٣٠٠، و"المحرر الوجيز" ٩/ ٢٨٢، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٩٥.
(٣) مطر بن طهمان الوراق، أبو رجاء الخراساني السلمي، مولى علي، من أهل البصرة، روى عن: أنس، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وروى عنه: إبراهيم بن طهمان، ومعمر بن هشام، وشعبة، وغيرهم كثير، وكان من أكبر أصحاب قتادة، وثقه بعض العلماء، توفي سنة ١٢٥ هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٢٨٧، و"الكاشف" ٣/ ١٤٩، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ١٢٦، و"تهذيب التهذيب" ١٠/ ١٥٢.
(٤) "جامع البيان" ١٥/ ٢٣١، و"المحرر الوجيز" ٩/ ٢٨٢.
(٥) "جامع البيان" ١٥/ ٢٣١، و"عالم التنزيل" ٥/ ١٦٤، و"تفسير القرآن العظيم" ٣/ ٨٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٠/ ٣٨٦.
(٦) "جامع البيان" ١٥/ ٢٣١، و"الكشف والبيان" ٣/ ٣٨٩ أ.
(٧) عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، المكي، أبو هاشم، إمام تابعي مشهور، عرف بالصلاح والتقوى، وثقة العلماء، وروى لي الأربعة، ومسلم في "صحيحه"، =

والضحاك (١).
واختاره الزجاج وقال: (هو الأجود عندي) (٢)، وهو اختيار ابن قتيبة (٣). وعلى هذا القول معنى قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ ما قاله القتبي: (وهو أنهم اختلفوا في لبثهم فقال الله: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ﴾ الآية، ثم قال: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ أي. وأنا أعلم بما لبثوا من المختلفين) (٤). وهذا معنى قول الزجاج، والكلبي: (قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها، فنزلت: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ (٥).
وقال كثير من أهل التفسير: (معنى قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ أن أهل الكتاب قالوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن الفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله -عز وجل- عليهم وقال: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ بعد أن قبض أرواحهم المرة الثانية إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله تعالى) (٦).
(١) "جامع البيان" ١٥/ ٢٣١، و"زاد المسير" ٥/ ١٣٠.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢٧٨.
(٣) "تفسير غريب القرآن" لابن قتية ١/ ٢٦٦.
(٤) "تفسير غريب القرآن" لابن قتية ١/ ٢٦٧.
(٥) "معالم التنزيل" ٥/ ١٦٥، و"زاد المسير" ٥/ ٩٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢٧٩.
(٦) "جامع البيان" ١٥/ ٢٣١، و"معالم التنزيل" ٥/ ١٦٥، و"المحرر الوجيز" ٩/ ٢٨، و"زاد المسير" ٥/ ١٣٠.

هذا الذي ذكرنا تفسير الآية (١)، فأما إعرابها فقال ابن عباس في رواية عطاء: (نزل قوله: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ﴾ فلم يدرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسنين، أم أشهر، أم أيام، أم ساعات، حتى نزل جبريل فقال: ﴿سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (٢)؛ ونحو هذا قال الضحاك، ومقاتل (٣). وعلى هذا أجاز ابن مجاهد الوقف على ثلاثمائة، لفصل ما بينهما في النزول (٤). والاختيار ترك الوقف؛ لأن سنين وإن نزل بعد ثلاثمائة فقد التحق به في قول جميع النحويين، وصار التقدير: سنين ثلاثمائة. قاله الفراء، والزجاج، وأبو عبيدة، والكسائي. وعلى هذا ﴿سِنِينَ﴾ في موضع نصب بالفعل (٥). قال أبو إسحاق: (ويجوز في تقدير العربية أن يكون سنين معطوفًا على ثلاث، عطف البيان والتوكيد) (٦). وقال أبو علي: ﴿سِنِينَ﴾ بدل من قوله: {ثَلَاثَ
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه. انظر: "جامع البيان" ١٥/ ٢٣١، و"الكشف والبيان" ٣/ ٣٨٩ أ، و"معالم التنزيل" ٥/ ١٦٥، و"زاد المسير" ٥/ ١٣٠، و"لباب النقول في أسباب النزول" ١٤٤، و"جامع النقول في أسباب النزول" ٢/ ٢٠٩.
(٣) "الكشف والبيان" ٣/ ٣٨٩ أ.
(٤) ذكر نحوه بلا نسبة "المكتفى في الوقت والابتداء" ٣٦٨.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٨، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٧٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢٧٨.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢٧٨.

مِائَةٍ} وموضعه نصب، كما أن موضع المبدل منه كذلك وهذا كما تقول: أعطيته ألفا درهما ومائة أثوابا) (١). قال الفراء: (ويجوز أن يكون ﴿سِنِينَ﴾ نصبا بالتفسير للعدد، كما قال عنترة (٢):
فيها اثنتان وأربعون حلوبةً | سودًا كخافية الغراب الأسحم |
وقال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون ﴿سِنِينَ﴾ من نعت المائة، وهو راجع في المعنى إلى ثلاث، كما قال الشاعر، وأنشد البيت)] (٤) (٥). فجعل سودا نعتا للحلوبة، وهي في المعنى نعت لجملة العدد. وهذا القول أحسن من قول الفراء؛ لأنه جعل سودًا تفسيرًا للعدد، وليس كذلك تفسير العدد حلوبة، وسودًا نعت للحلوبة راجع إلى جملة العدد، كذلك قوله: ﴿سِنِينَ﴾ نعت المائة راجع إلى جملة العدد، وعلى هذا يكون ﴿سِنِينَ﴾ في محل الجر، غير أنه يفتح النعت بالسنين؛ لأنها اسم جامد فلا يحسن النعت بها.
(٢) البيت لعنترة. كَخَافِية الغُرَاب: أواخر الريش من الجناح مما يلي الظهر، وسميت بذلك لخفائها.
والأسْحم: الأسود. والشاهد فيه قوله: (سودا) وهو حال من النكرة (حلوبة) في بعض التخريجات، وفيه دليل على مجيء صاحب الحال نكرة واستشهد به أبو حيان على نعت التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى. انظر: "ديوانه" ص ١٣، و"الحيوان" ٣/ ٤٢٥، و"خزانة الأدب" ٧/ ٣٩٠، و"شرح شذور الذهب" ص ٣١١، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ٣٠٥، و"شرح القصائد العشر" ٢١٧، و"المقاصد النحوية" ٤/ ٤٨٧.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٨.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢٧٨.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ.

وقد حصل في قوله: ﴿سِنِينَ﴾ خمسة أوجه من الإعراب: الظرف، وعطف البيان، والبدل، والتفسير، والنصت. هذا الذي ذكرنا وجه قراءة العامة وهو تنوين (مِائَةٍ)، وقراءة حمزة، والكسائي: "ثلاثمائةِ سنين" مضافة غير منونة (١)، وهذه قراءة غير جيدة (٢).
قال أبو الحسن: (لا يحسن إضافة المائة إلى السنين، لا تكاد العرب تقول: مائة سنين) (٣).
وقال صاحب النظم: (من أضاف وأظهر العدد اعتسف) (٤). إلا أن أبا الحسن قال: (هو جائز، وقد يقوله بعض العرب) (٥).
(٢) قول المؤلف -غفر الله له- هذه قراءة غير جيدة. غير جيد؛ لأنها قراءة سبعية صحيحة ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز الطعن فيها.
قال ابن عطية في "تفسيره" ٩/ ٢٨٥: وهي قراءتنا معشر المغاربة ولا يقوم فيها مخالفة قانون النحاة المشار إليه بقول الخلاصة: ومائة والألف للفرد أضف. لأن القرآن برواية أهل السبع عن رسول -صلى الله عليه وسلم- حجة على النحاة لا العكس، لا سيما وأبو علي الفارسي يرى أن قاعدة إضافة المائة إلى الفرد، أغلبية لا كلية مطردة، وبهذا يرد على من أنكر هذه القراءة.
وقال أبو حيان في "البحر المحيط" ٦/ ١١٧: وقرأ حمزة والكسائي مائة بغير تنوين مضافًا إلى سنين أوقع الجمع موقع المفرد، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ولا يجوز له ذلك.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٣٧، و"مجمع البيان" ٣/ ٧١٦.
(٤) ذكر نحوه الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٣٧ بلا نسبة.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٣٧.