
- ١٣ - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
- ١٤ - وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطًا
- ١٥ - هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
- ١٦ - وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أمركم مرفقا
من ههنا شَرَعَ فِي بَسْطِ الْقِصَّةِ وَشَرْحِهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ وَهُمُ الشَّبَابُ، وَهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ قَدْ عَتَوْا وانغمسوا فِي دِينِ الْبَاطِلِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْتَجِيبِينَ لله تعالى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا. وَأَمَّا الْمَشَايِخُ مِنْ قُرَيْشٍ فَعَامَّتُهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً شباباً. وقال مُجَاهِدٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي آذَانِ بَعْضْهِمُ الْقِرَطَةُ، يَعْنِي الْحَلَقَ، فَأَلْهَمَهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ، وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ فَآمَنُوا بِرَبِّهِمْ، أَيْ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ استدل بهذه الآية وأمثالها على زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾، كَمَا قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ اهتدوا زَادَهُمْ هدى تقواهم﴾، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عِيسَى ابن مريم، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: وَصَبَّرْنَاهُمْ عَلَى مخالفة قومهم، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالسَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ الرُّومِ وَسَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمًا فِي بَعْضِ أَعْيَادِ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ مجتمع في السنة يجتمعون فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالطَّوَاغِيتَ ويذبحون لها، وكان لها مَلِكٌ جَبَّارٌ عَنِيدٌ يُقَالُ لَهُ (دَقْيَانُوسُ) وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِمُجْتَمَعِهِمْ

ذَلِكَ وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ مَعَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُمْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِمْ، عَرَفُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي يَصْنَعُهُ
قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِأَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ؛ فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَخَلَّصُ مِنْ قومه وينحاز عنهم، واتخذوا لَهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، فَعَرَفَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ فَوَشَوْا بِأَمْرِهِمْ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ بِالْحَقِّ وَدَعَوْهُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا﴾ وَ «لَنْ» لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ: أَيْ لَا يَقَعُ مِنَّا هَذَا أَبَدًا لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَكَانَ بَاطِلًا، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: ﴿لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾ أَيْ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَبُهْتَانًا، ﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ أَيْ هَلَّا أَقَامُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا صَحِيحًا، ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾، يَقُولُونَ: بَلْ هُمْ ظَالِمُونَ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيُقَالُ إِنَّ مَلِكَهُمْ تهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم وأجّلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا لطف الله بهم فإنهم تَوَصَّلُوا إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي النَّاسِ أَنْ يَفِرَّ الْعَبْدُ مِنْهُمْ خَوْفًا عَلَى دِينِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ أَحَدِكُمْ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» (الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سعيد)، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُشْرَعُ الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ وَلَا تُشْرَعُ فِيمَا عَدَاهَا، لِمَا يَفُوتُ بِهَا من ترك الجماعات والجمع، فلما عَزْمُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ وَالْهَرَبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ﴾: أَيْ وَإِذَا فَارَقْتُمُوهُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ بِأَدْيَانِكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، فَفَارِقُوهُمْ أَيْضًا بِأَبْدَانِكُمْ، ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾: أَيْ يَبْسُطْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةً يَسْتُرُكُمْ بِهَا مِنْ قومكم ﴿ويهيىء لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ﴾ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، ﴿مِّرْفَقاً﴾ أَيْ أَمْرًا تَرْتَفِقُونَ به، فعند ذلك خرجوا هرباً إِلَى الْكَهْفِ، فَأَوَوْا إِلَيْهِ فَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَتَطَلَّبَهُمُ الْمَلِكُ، فَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ حِينَ لَجَأَ إِلَى (غَارِ ثَوْرٍ).