
المفسرون، وأن يهيىء لهم من أمرهم رَشَداً أي خلاصا جميلا، وقرأ الجمهور «رشدا» بفتح الراء والشين، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وسكون الشين، والأولى أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط، فإنها كافية، ويحتمل ذكر «الرحمة» أن يراد بها أمر الآخرة وقد اختصرت هذا القصص، ولم أغفل من مهمه شيئا بحسب اجتهادي، والله المعين برحمته، وقوله فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ الآية عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم، ويعبر عن هذا ونحوه ب «الضرب» لتبين قوة المباشرة وشدة اللصوق في الأمر المتكلم فيه والإلزام، ومنه ضرب الذلة والمسكنة، ومنه ضرب الجزية، ومنه ضرب البعث. ومنه قول الفرزدق: [الكامل]
ضربت عليك العنكبوت بنسجها | وقضى عليك به الكتاب المنزل |
هما حزبان من المؤمنين، وهذا لا يرتبط من ألفاظ الآية، وأما قوله أَحْصى فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض، وأَمَداً منصوب به على المفعول، و «الأمد» الغاية، وتأتي عبارة عن المدة من حيث للمدة غاية هي أمدها على الحقيقة، وقال الزجاج: أَحْصى هو أفعل، وأَمَداً على هذا نصب على التفسير، ويلحق هذا القول من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، وأَحْصى فعل رباعي، ويحتج لقول أبي إسحاق بأن أفعل من الرباعي قد كثر، كقولك ما أعطاه للمال، وآتاه للخير، وقال النبي عليه السلام في صفه جهنم: «هي أسود من القار» وقال في صفة حوضه عليه السلام «ماؤه أبيض من اللبن» وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فهو لما سواها أضيع» وهذه كلها أفعل من الرباعي، وقال مجاهد:
أَمَداً معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب، وقال الطبري: نصب أَمَداً ب لَبِثُوا، وهذا غير متجه.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٦]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) صفحة رقم 500

لما اقتضى قوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الكهف: ١٢] اختلافا وقع في أمر الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بِالْحَقِّ الذي وقع، وفي مجموع هذه الآيات جواب قريش عن سؤالهم الذي أمرتهم به بنو إسرائيل. و «القص» الإخبار بأمر يسرد، لا بكلام يروى شيئا شيئا، لأن تلك المخاطبة ليست بقصص، وقوله وَزِدْناهُمْ هُدىً أي يسرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عز وجل ومباعدة الناس والزهد في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان. وقوله وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها، ومنه الربط على قلب أم موسى، وقوله إِذْ قامُوا فَقالُوا يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد، وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول، وقرأ الأعمش «إذ قاموا قياما فقالوا»، وقولهم: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي لو دعونا من دون ربنا إلها، والشطط الجور، وتعدي الحد والغلو بحسب الأمر، ومنه اشتط الرجل في السوم إذا طلب في سلعته فوق قيمتها، ومنه شطوط النوى والبعد، ومن اللفظة قول الشاعر:
[الطويل]
ألا يا لقوم قد اشتط عواذلي | ويزعمن أن أودى بحقي باطلي |