آيات من القرآن الكريم

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ

قصة أصحاب الكهف
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ٢٦]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةًيَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)

صفحة رقم 207

الإعراب:
مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) مِنْ آياتِنا حال، وعَجَباً: خبر كان، وهو وصف بالمصدر، أو على ذات عجب.

صفحة رقم 208

سِنِينَ عَدَداً (١١) سِنِينَ: ظرف منصوب، وعَدَداً: وصف لسنين منصوب، على معنى: ذات عدد، أو منصوب على المصدر.
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) : أي: مبتدأ مرفوع، أَحْصى: فعل ماض خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر سدت مسدّ مفعولي لِنَعْلَمَ وأَمَداً: ظرف زمان منصوب، وعامله: أَحْصى، وهو الأوجه، وقيل: لَبِثُوا. ولما لبثوا: حال من أَمَداً أو مفعول لأجله. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: صفة مصدر محذوف، فهو منصوب على المصدر، أي قولا شططا، أو منصوب بقلنا، مثل: قلنا شعرا.
يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ (١٥) : أي هلا يأتون على دعواهم بأنها آلهة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهؤلاء: مبتدأ، وقَوْمُنَا: عطف بيان، وجملة اتَّخَذُوا: خبر.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (١٦) : إِذِ: تتعلق بفعل مقدر، أي واذكروا إذ اعتزلتموهم. وما: إما مصدرية (أي وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله، فحذف المضاف) وإما اسما موصولا (أي وإذ اعتزلتموهم والذي يعبدونه) وإما نافية (أي وإذ اعتزلتموهم غير عابدين إلا الله، فتكون الواو واو الحال) وما: في الوجهين الأوليين: في موضع نصب بالعطف على الهاء والميم في اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وفي الوجه الثالث: في موضع نصب على الحال. وقوله إِلَّا اللَّهَ يجوز أن يكون استثناء متصلا لأنهم كانوا كأهل مكة يقرون بالخالق ويشركون معه، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ... (١٧) : الشَّمْسَ: مفعول تَرَى، وإِذا طَلَعَتْ وإِذا غَرَبَتْ: ظرفان يتعلقان بترى، وعَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ: يتعلق بترى. وتَتَزاوَرُ: جملة فعلية حال من الشَّمْسَ. وذاتَ الشِّمالِ:
يتعلق بتقرضهم. وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ: جملة اسمية حال.
باسِطٌ ذِراعَيْهِ.. فِراراً (١٨) : ذِراعَيْهِ: منصوب بباسط، وإنما أعمل اسم الفاعل، وإن كان للماضي لأنه أراد به حكاية الحال، مثل الإشارة للحاضر في قوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [القصص ٢٨/ ١٥] ولم يكن المشار إليهما حاضرين حين قص القصة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما حكى تلك الحال. وفِراراً ورُعْباً: منصوبان على المصدر.
كَمْ لَبِثْتُمْ (١٩) : كَمْ: هنا ظرفية في موضع نصب بلبثتم، أي كم يوما لبثتم، ويوما المحذوف: تمييز، ودليل التقدير: كم يوما: أنه قال في الجواب: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.

صفحة رقم 209

فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً (١٩) أَيُّها: مبتدأ، وأَزْكى: خبر المبتدأ، وطَعاماً: تمييز، والجملة مفعول فَلْيَنْظُرْ.
إِذْ يَتَنازَعُونَ (٢١) : إِذْ: ظرف زمان في موضع نصب: وعامله لِيَعْلَمُوا.
سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ، رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ (٢٢) : ثَلاثَةٌ: خبر مبتدأ أي هم ثلاثة.
ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ: جملة اسمية صفة ثَلاثَةٌ. وكذلك التقدير في قوله: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وقوله سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. وإنما جاء بالواو في قوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم يجئ به على الصفة كالعدد قبله لأن السبعة: أصل المبالغة في العدد، كما كانت السبعين كذلك في قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة ٩/ ٨٠] ولو جاء بالواو في ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ لكان جائزا ورَجْماً بِالْغَيْبِ: مفعول لأجله.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (٢٤) : في موضع نصب (بفاعل) بتقدير حذف حرف الجر، أي:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا بأن يشاء الله، وأن وصلتها في تأويل المصدر، وتقديره:
لمشيئة الله، إلا أنه حذف حرف الجر من أَنْ فاتصل الفعل به.
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ (٢٥) : بالتنوين تكون سِنِينَ منصوبا على البدل من ثَلاثَ أو عطف بيان على ثَلاثَ أو تكون بدلا مجرورا من مِائَةٍ لأن المائة في معنى سِنِينَ.
ومن لم ينون: أضاف مِائَةٍ إلى سِنِينَ تنبيها على الأصل الذي كان يجب استعماله.
وتِسْعاً: مفعول به، مثل وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يوسف ١٢/ ٦٥] وليس بظرف، أي وازدادوا لبث تسع سنين، فحذف المضاف.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ (٢٦) : أي ما أسمعه وأبصره، وتقديره: أسمع به، إلا أنه حذف اكتفاء بالأول عنه. وموضع أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ الرفع لإرادة التعجب.
البلاغة:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا استئناف مبني على سؤال من قبل المخاطب، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.
يَهْدِ ويُضْلِلْ أَيْقاظاً ورُقُودٌ ذاتَ الْيَمِينِ وذاتَ الشِّمالِ بين كل طباق.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ.. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ بينهما طباق معنوي لأن معنى الأول: أنمناهم والثاني أيقظناهم.
إِذْ قامُوا فَقالُوا بينهما جناس ناقص.

صفحة رقم 210

أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغة تعجب.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ استعارة تبعية، شبهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان، كما تضرب الخيمة على السكان.
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة تبعية أيضا لأن الربط هو الشد، والمراد شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية.
المفردات اللغوية:
أَمْ حَسِبْتَ ظننت، وأَمْ: للانتقال من كلام إلى آخر، بمعنى: بل وهمزة الاستفهام، أي بل أحسبت، والخطاب في الظاهر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به كل مخاطب الْكَهْفِ الغار أو النقب المتسع في الجبل وَالرَّقِيمِ لوح حجري كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقيل: اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً كانوا في قصتهم من جملة آياتنا محل تعجب، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات، أو أعجبها.
أَوَى اتخذه مأوى الْفِتْيَةُ جمع فتى، وهو الشاب الكامل، وهم فتية من الأشراف أرادهم دقيانوس على الشرك، فأبوا وهربوا إلى الكهف، خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار مِنْ لَدُنْكَ من قبلك رَحْمَةً توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو وَهَيِّئْ يسّر، وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء رَشَداً هداية إلى الطريق الموصل للمطلوب، والمعنى: هيّئ لنا من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار طريقا نصير به راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون، وأصله: ضربنا على آذانهم حجابا يمنع السماع سِنِينَ عَدَداً معدودة.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ علم مشاهدة أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الفريقين المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم وهما الحزب القائل: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والحزب القائل:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. أَحْصى فعل ماض، أو أفعل بمعنى أضبط لِما لَبِثُوا للبثهم أَمَداً غاية ومدة لها حد نَحْنُ نَقُصُّ نخبرك بِالْحَقِّ بالصدق الْفِتْيَةُ شبان جمع فتى وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناهم على قول الحق، والصبر على هجر الوطن والأهل والمال إِذْ قامُوا بين يدي ملكهم: دقيانوس الجبار، وقد أمرهم بالسجود للأصنام مِنْ دُونِهِ من غيره شَطَطاً أي قولا ذا شطط، أي إفراط في الكفر إن دعونا إلها غير الله على سبيل الفرض لقول الشطط: هو الخارج عن المعقول المفرط في الظلم هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا إخبار في معنى الإنكارهلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة أو ببرهان ظاهر،

صفحة رقم 211

فإن الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن مالا دليل عليه من الديانات مردود، وإن التقليد فيه غير جائز فَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خاطب بعض الفتية بعضهم الآخر بذلك وَما يَعْبُدُونَ عطف على الضمير المنصوب في الفعل المتقدم، أي ولأجل أنكم اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ يبسط الرزق لكم، ويوسع عليكم من رحمته في الدارين وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما ترتفقون به أي تنتفعون، من غداء وعشاء. وقد جزموا بذلك لقوة ثقتهم بفضل الله تعالى.
تَتَزاوَرُ بتخفيف الزاي والتشديد أي تميل عنه، ولا يقع شعاعها عليهم، فيؤذيهم لأن الكهف كان جنوبيا، أو لأن الله تعالى زورها عنه ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين تَقْرِضُهُمْ تتركهم وتتجاوز عنهم، فلا تصيبهم البتة فَجْوَةٍ متسع من الكهف أي في وسطه، ينالهم برد الريح ونسيمها ذلِكَ المذكور وهو شأنهم أو تحول الشمس عنهم مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي من يهد الله بالتوفيق، فهو المهتدي الذي أصاب الفلاح، والمراد به إما الثناء عليهم، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن المنتفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها وَمَنْ يُضْلِلْ ومن يخذله، فلن تجد له من يليه ويرشده.
وبعبارة أخرى: من اهتدى بآيات الله واختار الإيمان بالدليل، فقد هداه الله ووفقه لاختياره، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضل وانحرف، ولن تجد له من يرشده ويهديه.
وَتَحْسَبُهُمْ لو رأيتهم أَيْقاظاً أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة رُقُودٌ نيام، جمع راقد وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ لئلا تأكل الأرض لحومهم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ يديه واسم كلبهم: قطمير بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف، وقيل: بباب الكهف، وكان يتقلب في النوم واليقظة مثلهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم مِنْهُمْ رُعْباً منعهم الله بالرعب من دخول أحد عليهم. والرعب: الخوف الذي يملأ الصدر. عن معاوية رضي الله عنه: أنه غزا الروم، فمرّ بالكهف، فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء، فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنه:
ليس لك ذلك، وقد منع الله تعالى من هو خير منك، فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فلم يسمع، وبعث ناسا، فلما دخلوا، جاءت ريح، فأحرقتهم.
وَكَذلِكَ كما فعلنا بهم ما ذكرنا بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ عن حالهم ومدة لبثهم قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم دخلوا عند طلوع الشمس، وبعثوا عند غروبها، فظنوا أنه غروب يوم الدخول، فقولهم مبني على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة لبثه، لذا أحالوا العلم إلى الله تعالى، فقالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ويجوز أن يكون ذلك قول

صفحة رقم 212

بعضهم، وهذا إنكار الآخرين عليهم. ولما علموا أن الأمر ملتبس مجهول عليهم اتجهوا إلى ما يهمهم وقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ بفضتكم، الورق: الفضة، مضروبة كانت أو غيرها إِلَى الْمَدِينَةِ هي طرسوس أو أفسوس فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فلينظر أيّ أطعمة المدينة أحل وأطيب، وأكثر وأرخص وَلْيَتَلَطَّفْ وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن أو في التخفي حتى لا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ إن يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، والضمير لأهل المدينة يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ يصيروكم إليها كرها، من العود بمعنى الصيرورة وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن عدتم في ملتهم.
وَكَذلِكَ كما بعثناهم أَعْثَرْنا أطلعنا عَلَيْهِمْ قومهم والمؤمنين لِيَعْلَمُوا أي قومهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ ثابت لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت، ثم يبعث، والقادر على إنامتهم المدة الطويلة، وإبقائهم على حالهم بلا غذاء، قادر على إحياء الموتى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها لا شك فيها إِذْ معمول لأعثرنا أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون يَتَنازَعُونَ أي المؤمنين والكفار، والتنازع: التخاصم أَمْرَهُمْ أمر الفتية، في البناء حولهم فَقالُوا أي الكفار ابْنُوا عَلَيْهِمْ أي حولهم بُنْياناً يسترهم. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة إما من الله رد على المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من المتنازعين للرد إلى الله، بعد ما تذكروا أمرهم.
قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ هم رؤساء البلد أهل الرأي وهم المؤمنون حين أماتهم الله ثانيا بالموت لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ حولهم مَسْجِداً معبدا يصلى فيه، وكانوا نصارى على المشهور وفعل ذلك على باب الكهف.
سَيَقُولُونَ أي المتنازعون في عدد الفتية في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي يقول بعضهم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ أي هم ثلاثة وَيَقُولُونَ يقول بعضهم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ والقولان لنصارى نجران رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا ورميا بالخبر الخفي الذي لا اطلاع لهم عليه، والرحم:
القول بالظن، والغيب: ما غاب عن الإنسان، والمراد هنا: القول بالظن والتخمين ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال ابن عباس: أنا من القليل، وذكرهم سبعة.
فَلا تُمارِ تجادل إِلَّا مِراءً المراء: المحاجة فيما فيه مرية وشك وتردد وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً لا تطلب الفتيا من أحد من أهل الكتاب: اليهود، أو لا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد، فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنه لا علم لهم بها، بل ولا سؤال متعنت، تريد افتضاح المسؤول وتزييف ما عنده، فإنه مخلّ بمكارم الأخلاق.

صفحة رقم 213

وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً لا تقل لأجل شيء: سأفعله غدا أو فيما يستقبل من الزمان إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا متلبسا بمشيئة الله تعالى بأن تقول: إن شاء الله. وهذا نهي تأديب من الله تعالى لنبيه، حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فسألوه، فقال: ائتوني غدا أخبركم، ولم يقل: إن شاء الله، فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما، حتى شق عليه، وكذبته قريش، فنزلت الآية.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي مشيئته، معلقا الأمر بها إِذا نَسِيتَ التعليق بها، ويكون ذكرها بعد النسيان كذكرها مع القول، ما دام في المجلس، كما قال الحسن وغيره، وعن ابن عباس: ولو بعد سنة ما لم يحنث لِأَقْرَبَ مِنْ هذا من خبر أهل الكهف في الدلالة على نبوتي رَشَداً هداية، وقد تم المراد، وهداه الله لأعظم من ذلك، كقصص الأنبياء الغابرين، والإخبار عن المغيبات في المستقبل إلى قيام الساعة.
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ هي عند أهل الكتاب شمسية، وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين، فقال: وَازْدَادُوا تِسْعاً أي تسع سنين، فالثلاث مائة الشمسية: ثلاث مائة وتسع قمرية أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ممن اختلفوا فيه لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علمه أَبْصِرْ بِهِ بالله، وهي صيغة تعجب وَأَسْمِعْ كذلك، بمعنى: ما أبصره وما أسمعه، وهما على جهة المجاز، والمراد:
أنه تعالى لا يغيب عن بصره وسمعه شيء ما لَهُمْ لأهل السموات والأرض وَلِيٍّ ناصر وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ولا يشرك في قضائه أحدا منهم، ولا يجعل له فيه مدخلا لأنه غني عن الشريك.
سبب النزول:
سبق ذكر سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء ١٧/ ٨٥]. وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مفصلا موضحا، فقال: كان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلّم أحاديث رستم وإسفنديار، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله، وحدّث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس.

صفحة رقم 214

ثم إن قريشا بعثوه، وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما إلى المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود:
سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو متقوّل، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاءوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألوه،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن- لم يقل: إن شاء الله-
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة، حتى أرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، فشق عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطوّاف «١».
نزول الآية (٢٤) : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ..
أخرج ابن جرير عن الضحاك، وابن مردويه عن ابن عباس قال: حلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على يمين، فمضى له أربعون ليلة، فأنزل الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه جعل الزينة على ظهر الأرض، وفي ذلك من العجائب والإبداع ما يفوق القصص وغرائبها، أبان أن قصة أهل الكهف ليست

(١) تفسير الرازي: ٢١/ ٨٣، تفسير الألوسي: ١٥/ ٢١٦ [.....]

صفحة رقم 215

بالعجب وحدها من بين آياتنا، وأنها أقل عجبا من تزيين الأرض بالنبات، والحيوان والبشر، والشجر والأنهار وغير ذلك.
التفسير والبيان:
إجمال القصة:
هذا هو الخبر اليقين عن قصة أصحاب الكهف الذين بقوا أحياء ثلاث مائة وتسع سنوات في حال سبات (نوم) وهي من العجائب التي أشارت إليها الكتب السالفة.
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ... تعجب القوم من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل الامتحان، فقال تعالى:
أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط، فلا تحسبن ذلك، فإن آياتنا كلها عجب، فليست قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة أعجب من حال الدنيا، فإن زينة الأرض وعجائبها أعظم وأبدع وأعجب من هذه القصة، فإن من قدر على تزيين الأرض ثم جعلها ترابا، وعلى خلق السموات والأرض، قادر على كل شيء، ومن قدرته أن يحفظ طائفة من الناس دون طعام وشراب زمانا معلوما.
وبعبارة أخرى موجزة: لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم وهو اسم كلبهم أو واديهم أو كتاب بنيانهم كانوا آية عجبا من آياتنا، لا تظن ذلك فآياتنا كلها عجيبة وغريبة. والرقيم في الظاهر من الآية كما رجح ابن جرير وابن كثير:
الكتاب.
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.. اذكر أيها الرسول حين لجأ أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم، لئلا يفتنوهم عنه، إلى غار في جبل ليختفوا عن

صفحة رقم 216

قومهم عبدة الأصنام، فقالوا حين دخلوا سائلين الله تعالى الرحمة واللطف بهم:
رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي اجعل عاقبتنا رشدا، بأن توفر المصلحة لنا، وتجعلنا راشدين غير ضالين، مهتدين غير حائرين، أو اجعل أمرنا رشدا كله.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي ألقينا النوم الثقيل عليهم حين دخلوا إلى الكهف، فلم يعودوا يسمعون أي صوت، وناموا سنين كثيرة معدودة.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي ثم بعثناهم من رقدتهم تلك، وأيقظناهم من نومتهم ليظهر للناس معلومه سبحانه، أي الطائفتين المتنازعتين فيهم أحصى مدة لبثهم وغاية بقائهم نياما، فيظهر لهم عجزهم، ويعرفوا ما صنع الله بهم، فيتيقنوا من كمال قدرة الله على البعث وغيره.
تفصيل القصة:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي نحن نخبرك خبرهم على وجه الصدق، وهذا يعني أن الأخبار المتداولة عنهم بين العرب لم تكن صحيحة.
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ.. أي إنهم شباب صدقوا بتوحيد ربهم، وشهدوا أن لا إله إلا هو، وزدناهم توفيقا للهداية بالإصرار على العقيدة والإقبال على الله وإيثار العمل الصالح.
وفي هذا إيماء إلى أن الشباب أقبل للحق وأهدى للسبل من الشيوخ الذين عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا- كما ذكر ابن كثير- كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم شبابا، وأما المشايخ من قريش فبقوا على دينهم، ولم

صفحة رقم 217

يؤمن منهم إلا القليل. أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب، وقرأ: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء ٢١/ ٦٠] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف ١٨/ ٦٠] إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ.
واستدل بهذه الآية: وَزِدْناهُمْ هُدىً على زيادة الإيمان وتفاضله بين الناس، وأنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد ٤٧/ ١٧] وقال سبحانه:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة ٩/ ١٢٤] وقال عز وجل: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح ٤٨/ ٤].
زمنهم أو عصرهم:
ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، ورجح ابن كثير أنهم كانوا قبل النصرانية، بدليل أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها، كما تقدم في سبب النزول، وبدليل ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة، فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد، فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا، ولا يدري هذا علام خرج هذا، فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا، فإن اجتمعوا على شيء، وإلا كتم بعضهم بعضا، فاجتمعوا على كلمة واحدة، فقالوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: مِرفَقاً ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف، فضرب الله تعالى على آذانهم، فناموا وفقدوا في أهلهم، فجعلوا يطلبونهم، فلم يظفروا بهم، فرفع أمرهم إلى الملك، فقال:
ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية

صفحة رقم 218

ولا شيء يعرف، فدعا بلوح من رصاص، فكتب فيه أسماءهم، ثم طرح في خزانته، ثم كان من شأن قصتهم ما قصه الله سبحانه وتعالى «١».
إصرارهم على توحيد الله:
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا.. أي صبرناهم على مخالفة قومهم، وثبتناهم على عقيدتهم، وألهمناهم قوة العزيمة، حتى تركوا ما كان عليه قومهم من العيش الرغيد والسعادة، وقالوا حين مثلوا أمام ملكهم الجبار الذي يدعى (دقيانوس) والذي كان يحث الناس على عبادة الأصنام والطواغيت، ويدعوهم إليها ويأمرهم بها: ربنا هو رب السموات والأرض، لن ندعو إلها من دونه مطلقا إذ لا رب سواه، ولا معبود غيره، وأن الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض.
وقد أعلنوا في الجملة الأولى: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توحيد الألوهية، وذلك يقرّ به عبدة الأصنام، وفي الجملة الثانية: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً توحيد الربوبية، وذلك ما ينفيه عبدة الأصنام، بدليل ما حكى القرآن:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥] وقوله:
ما نَعْبُدُهُمْ- أي الأصنام- إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
وقوله: لَنْ لنفي التأبيد، أي لا يقع منا هذا أبدا لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا، لهذا عللوا اعتقادهم بقولهم:
لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي إذا دعونا غير الله، لقد قلنا باطلا وكذبا وبهتانا. والشطط في اللغة: مجاوزة الحد، والبعد عن الحق. والمعنى: لقد قلنا إذن قولا شططا. وهذا يدل على أنهم دعوا لعبادة الأصنام، ولامهم الملك على ترك عبادتها.

(١) تفسير الألوسي: ١٥/ ٢١٧

صفحة رقم 219

تنديدهم بعبادة قومهم الأصنام:
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. أي قال أصحاب الكهف عن قومهم الذين كانوا في زمان (دقيانوس) يعبدون الأصنام: هلا يأتون بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة؟! وهلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا؟! وهذا يدل على أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة صحيحة عقلا ومنطقا.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أشد ظلما من افتراء الكذب على الله، ونسبة الشريك إليه، فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك.
وكان من لطف الله بهم أن ملكهم بعد أن هددهم وتوعدهم، أمهلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، فوجدوها فرصة مواتية، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة.
قال ابن كثير: وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما
جاء في حديث البخاري وأبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن»
ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
العزلة بينهم وبين قومهم:

صفحة رقم 220

قومكم وفارقتموهم عزلة مادية بالمفارقة بالأبدان والمقر والمقام، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينكم واعتزالكم معبوديهم غير عبادة الله وحده.
وقوله: إِلَّا اللَّهَ إما استثناء متصل أو منقطع كما ذكرنا، ويجوز أن يكون كلاما معترضا، إخبارا من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله.
وفارقوا قومكم جسديا، والجؤوا إلى الكهف (الغار الواسع في الجبل) بعد فراقهم روحيا، وأخلصوا العبادة لله في مكان خال بعيد عن أهل الشرك، فإن فعلتم ذلك يبسط الله عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، ويسهل لكم من أمركم مرفقا، أي أمرا ترتفقون به وتنتفعون.
حالهم في الكهف وانحسار الشمس عنهم:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ... أي وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين، بأن تقلص شعاعها بارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، وتراها عند الغروب تبتعد عنهم وتتركهم لا تقربهم وتعدل عنهم جهة الشمال، والحال أنهم في متسع من الكهف ووسطه، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا.
وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا، بل الإخبار بكون الكهف في مكان لا تؤثر فيه الشمس أثناء طلوعها وغروبها، أي أنهم طوال نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس، لولا أن الله يحجبها عنهم.
مكان الكهف:
ذكر المؤرخون أقوالا في تعيين مكان الكهف، فقيل: هو واد قريب من أيلة في العقبة جنوب فلسطين، وقيل: عند نينوى في الموصل شمال العراق

صفحة رقم 221

وقيل: في جنوب تركيا من بلاد الروم سابقا، وكلها أقوال يعوزها الدليل.
قدرة الله تعالى وعنايته ولطفه:
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إن بقاء هؤلاء الفتية في الكهف سنين عديدة، وما صنعه الله بهم من تنحية الشمس عنهم عند الطلوع والغروب، بانعكاس أشعتها وتقليص وهجها عنهم، آية من آيات الله العجيبة الكثيرة الدالة على كمال قدرته وسعة علمه، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده، وأن التوحيد دين الحق، وأن عبادة الأصنام والأوثان ضلال وشرك وزيغ، وأن صون أهل الكهف بلطف من الله وعناية منه، لذا قال:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أي من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، كأهل الكهف، فهو المهتدي إلى طريق الحق، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين.
والمراد من ذلك إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن السعيد من وفقه الله تعالى للتأمل بها والاستبصار بها والاهتداء بها «١». والخلاصة: أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية.
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي ومن يضلل الله بأن لم يوفقه للاهتداء بآياته، لسوء اختياره واستعداده، وتوجيه رأيه إلى جادة الانحراف، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة، ولا هادي له، كأمثال الكفرة منكري البعث لأن التوفيق والخذلان بيد الله، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء.

(١) تفسير الألوسي: ١٥/ ٢٢٣- ٢٢٤

صفحة رقم 222

وتفويض الهداية والإضلال إلى الله تعالى يخفف من معاناة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قومه، ويسرّي عنه حزنه وألمه على إعراضهم عن قبول دعوته.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ أي وتظنهم إذا رأيتهم أيقاظا لانفتاح أعينهم وهم نيام، لئلا يسرع إليها البلى، كأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم.
وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ونقلبهم مرة في ناحية اليمين ومرة في ناحية الشمال، حتى لا تؤثر الأرض في أجسادهم، ولكي تتعرض جلودهم للهواء.
واختلفوا في مدة التقليب، فقيل: يقلّبون في العام مرتين، وقيل: مرة في العام، ولا دليل لكل من القولين، ولا يرشد إليها العقل، ولم يشر إليها القرآن، ولم يرد فيه خبر صحيح، فيبقى النص على إطلاقه. قال ابن عباس:
لو لم يقلّبوا لأكلتهم الأرض.
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو بباب الكهف يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، كأنه يحرسهم، وقد أصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار.
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي لو نظرت عليهم لأدبرت عنهم فرارا وهربا، ولملئت منهم رعبا وفزعا لأن الله تعالى ألقى عليهم المهابة والوقار، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم، إلى أن انتهى أجل لبثهم راقدين، وتحققت فيهم الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة، وأقام الله فيهم الدليل المادي الحسي على قدرته على البعث والإعادة، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.

صفحة رقم 223

بعثتهم من نومهم صحاح الأبدان بعد ثلاث مائة سنة وتسع سنين:
قال تعالى: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ... أي كما زدناهم هدى وأنمناهم، وحفظنا أجسادهم من البلى والفناء، وأبقيناهم أحياء من غير أكل ولا شرب مدة طويلة من الزمان، ونقلبهم، فكذلك بعثناهم، أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، لنعرّفهم مدى قدرتنا وعجيب فعلنا في الناس، وليتبصروا في أمرهم وليتساءلوا بينهم، واللام هنا لام العاقبة أو الصيرورة: فقال قائل منهم: كم لبثتم، أي كم رقدتم في نومكم؟ لإحساسهم بطول الرقاد. قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أي أجاب بعضهم قائلا: لبثنا في تقديرنا يوما كاملا أو جزءا من اليوم لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في أخر النهار، لذا استدركوا فقالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
قالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أجاب بعض آخر: ربكم أعلم بأمركم، وبمقدار لبثكم، وهذا استشعار منهم وتردد بكثرة نومهم، لما رأوا حالهم متغيرة، أي فالله أعلم منكم، وأنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وهذا أدب الإيمان اليقظ في الرد على جواب البعض الأول.
الوكالة في شراء الطعام:
ثم تذاكروا فيما بينهم وقرروا البحث في المهم من أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا:
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أي فأرسلوا أحدكم بدراهمكم أو فضتكم هذه التي استصحبوها معهم من منازلهم، لتغطية حوائجهم، إلى المدينة وهي «طرسوس» أي مدينتكم التي خرجتم منها، كما أكد الرازي «١».

(١) تفسير الرازي: ٢١/ ١٠٣

صفحة رقم 224

فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي فليبصر أي الأطعمة أجود وأنفع وأطيب وأيسر سعرا، فليأتكم بمقدار مناسب منه.
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي وليكن لطيفا رفيقا في الطلب وفي خروجه ودخوله المدينة، وفي شرائه، ولا يخبرن أو لا يعلمن أحدا من أهل المدينة بمكانكم.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي إن أصحاب دقيانوس الملك إن اطلعوا على مكانكم، يقتلوكم بالرجم بالحجارة، أو يجبروكم ويكرهوكم على العودة إلى دينهم- دين الوثنية وعبادة الأصنام.
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي وإن وافقتموهم على العود إلى ملتهم أو دينهم، فلا فلاح لكم أبدا في الدنيا والآخرة.
اطلاع الناس عليهم:
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ.. أي وكما أنمناهم ثم بعثناهم، أطلعنا الناس عليهم وعلى أحوالهم، وهم أولئك الذين كان لديهم شك في قدرة الله على إحياء الموتى، وفي البعث، وفي أمر القيامة، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك، وليدركوا ويعلموا أن وعد الله بالبعث حق وصدق وثابت، وأن حدوث الساعة أي القيامة أمر لا شك فيه، فمن شاهد حال أهل الكهف علم صحة الخبر وصدق وعد الله بالبعث لأن حالهم في نومتهم، وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث.
وسمى إعلام الناس بهم إعثارا لأن من غفل عن شيء ثم عثر به، نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سببا في العلم، والمعنى: أعثرنا عليهم حين يتنازعون بينهم.

صفحة رقم 225

إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان حين كان بعضهم يتنازع مع بعض في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، ومن مؤمن بها وكافر، فجعل اطلاعهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم، وفرح الملك وشعبه بآية الله على البعث، وزال أمر الخلاف في أمر القيامة.
آراء القوم في شأنهم بعد اطلاعهم عليهم:
فَقالُوا: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً.. أي انقسم القوم في شأن أهل الكهف حين توفاهم الله تعالى فريقين: فريق- قيل هم الكفار منهم- قالوا: نسدّ عليهم باب كهفهم، ونتركهم على حالهم فإنهم كانوا على ديننا، فنتخذ عليهم بنيانا، أي على باب كهفهم، لئلا يدخل إليهم الناس، ضنا بتربتهم، ومحافظة عليها.
وقوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة، أي أعلم بشأنهم للرد على المتنازعين في عقيدتهم وبيان أنسابهم وأسمائهم ومدة لبثهم.
وفريق آخر تغلبوا على الفريق الأول بالرأي وهم المسلمون وملكهم قالوا- وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم-: لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.
عددهم:
سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.. أي إن الناس بعدئذ اختلفوا في عددهم، وهم من خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب والمؤمنين، إنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه، فنزلت الآية إخبارا ببيان عددهم وأن المصيب منهم من يقول: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
بعضهم قال: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وآخرون قالوا: هم خَمْسَةٌ

صفحة رقم 226

سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
، وهم في هذا يقولون: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قولا بلا علم، وإنما هو مجرد ظن وتخمين، لا دليل عليه، ولا يقين معه، بدليل اتباع القولين الأولين بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وقال جماعة آخرون: إنهم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، ولما حكى تعالى هذا القول، وسكت عليه أو قرره، دل على صحته، وأنه هو الواقع في الأمر نفسه.
قل يا محمد: ربي أعلم بعددهم، ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وأكثر أهل الكتاب الذين ذكروا أعدادهم على ظن وتخمين. وقوله رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى إذ لا داعي إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم.
قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة.
والمهم في الأمر ليس معرفة العدد، وإنما المهم الاعتبار بالقصة، والانتفاع بما دلت عليه من إثبات قدرة الله تعالى على البعث والإعادة.
وتساءل صاحب الكشاف: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم دخلت عليها دون الجملتين الأوليين؟ ثم أجاب: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، وفائدتها تأكيد اتصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، أي أن الذين قالوا:
سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قالوه عن ثبات وعلم، ولم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم.
فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدلا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى

صفحة رقم 227

الله إليك فحسب، ولا تزيد، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف في الرد عليهم، كما قال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥] وقال: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت ٢٩/ ٤٦].
وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد لأن الله قد أرشدك، بأن أوحى إليك قصتهم.
وهذا يدل على عدم جواز الرجوع إلى أهل الكتاب في شيء من العلم.
إرشاد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأمته بتعليق الخبر بمشيئة الله:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً.. أي لا تقولن أيها الرسول لأجل شيء عزمت على فعله في المستقبل: إني سأفعل ذلك غدا إلا بأن تقرنه بمشيئة الله عز وجل، فتقول: إن شاء الله، كما
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفهن الليلة على سبعين امرأة- وفي رواية مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقيل له- وفي رواية قال له الملك-: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن، فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا لحاجته».
وفي رواية: «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».
وقد عرفنا سبب نزول هذه الآية في
قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: «غدا أجيبكم»
فتأخر الوحي خمسة عشر يوما.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أي واذكر مشيئة ربك، وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء، ثم تنبهت، فتداركها بالذكر، سواء طال الفصل أو قصر، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد

صفحة رقم 228

سنة ما لم تحنث. والاستثناء بالمشيئة عند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. وأوضح ابن جرير معنى قول ابن عباس: وهو أنه إذا نسي أن يقول في كلامه أو في حلفه: إن شاء الله، وتذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك، ليكون آتيا بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث. لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة.
وَقُلْ: عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي وقل يا محمد:
عسى أن يوفقني ربي لشيء آخر بدل المنسي أو أقرب خيرا ومنفعة، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك.
مدة لبثهم في الكهف:
أخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مقدار لبث أهل الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، فقال:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً أي إنهم أقاموا في الكهف مقدار ثلاث مائة سنة وتسع سنوات هلالية، وهي ثلاث مائة سنة شمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاث مائة: وَازْدَادُوا تِسْعاً. وأكد ذلك الإخبار بقوله:
قُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا... أي إذا سئلت عن مدة لبثهم، وليس عندك علم في ذلك من الله تعالى، فقل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه، فلا تتعجل بالأخبار ما لم يكن عندك دليل عليها، والحق ما أخبرك به، لا ما يقولونه إذ له غيب السموات والأرض، وهو العالم بكل شيء، وأعلم من الذين اختلفوا في مقدار مدة لبثهم.

صفحة رقم 229

وبما أن الله أخبر عن مدة لبثهم، فهو الحق الذي لا شك فيه. وفائدة تأخير إيراد هذه الجملة الدلالة على أنهم تنازعوا في مدة اللبث، كما تنازعوا في عددهم، وجاء هذا التذييل هنا كالتذييل المتقدم في حكاية عددهم: قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.
والخلاصة: إن الخبر اليقين في بيان عدد أهل الكهف ومدة لبثهم هو من عند الله تعالى لأنه أعلم بالأشياء وبالحقائق، وأما أقوال الناس فهي ظنون لا دليل عليها، وتستند إلى الشائعات، ولله وحده علم ما غاب في شؤون السموات والأرض، وخفي من أحوال أهلها.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ هذا من صيغ التعجب والمبالغة، أي إن الله تعالى لبصير بهم، سميع لهم، وذلك في معنى المبالغة في المدح والتعجب، كأنه قيل:
ما أبصره وأسمعه، أي ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. قال قتادة في هذه الصيغة: فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم، وليس له وزير ولا نصير.
وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً أي أن الله تعالى له الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، ولا يشاركه في قضائه أحد من الناس، وليس له شريك ولا مشير.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من بيان قصة أصحاب الكهف ما يأتي:
١- ليس حال هذه القصة هي الآية العجاب من آيات الله فقط، وإنما خلق السموات والأرض وما فيهما أشد عجبا وأعظم روعة، وأدل على قدرة الله عز وجل، فلا يعظم ذلك أيها النبي بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة.

صفحة رقم 230

٢- كان إيواء الفتية المؤمنين إلى الكهف من أبناء أشراف مدينة «دقيانوس» الملك الكافر فرارا بدينهم من فتنة الكافرين عبدة الأصنام. وهذا دليل صريح في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال، خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فارّا بدينه، وكذلك أصحابه، كما نص الله تعالى في سورة براءة. إنهم هجروا أوطانهم، وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
وهذه الحالة المستثناة لجواز العزلة عن الناس باتفاق العلماء مقصورة على حال خشية الفتنة في الدين. وأما ما عدا ذلك فالمخالطة أفضل من العزلة،
روى البغوي وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم».
٣- لما فر أصحاب الكهف ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء، ولجؤوا إلى الله تعالى قائلين: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي آتنا مغفرة ورزقا، وهيّئ لنا توفيقا للرشاد والسداد والصواب.
وقد اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف في مكانهم، أما الزمان الذي كانوا فيه: فقيل: إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح ثم بعثوا بعد عيسى وقبل محمد، وقيل: إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح.
وأما مكان هذا الكهف فلا يعرف على وجه اليقين، ويقال: إنه في بلاد الروم أي في جنوب تركيا اليوم في طرسوس، وهو الظاهر.
٤- كان من تدبير الله تعالى لأهل الكهف للمكث فيه راقدين (٣٠٩) سنوات

صفحة رقم 231

إلقاء النوم عليهم ومنعهم من السماع لأن النائم إذا سمع انتبه، ثم بعثتهم من بعد نومهم، ثم اطلاع الناس على شأنهم.
وكان إيقاظهم من أجل اختبار الناس لمعرفة مقدار مدة لبثهم، وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى معناه: لنعلم ذلك موجودا، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الفريقين أحصى الأمد. والفريقان أو الحزبان: الفتية الذين ظنوا لبثهم قليلا، وأهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية.
٥- إن صفات هؤلاء الفتية أو الجماعة من الشبان: أنهم آمنوا بالله، وألهم الله قلوبهم الصبر والثبات، وزاد الله في إيمانهم بالتيسير للعمل الصالح من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا.
وكان من أثر شدة عزيمتهم وقوة صبرهم التي أعطاها الله لهم أنهم أعلنوا أمام الكفار: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.
وكانوا يتذاكرون شأن إيمانهم، فقال بعضهم: هؤلاء أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة، فهلا يأتون بحجة على عبادتهم الصنم؟! ٦- لقد قال الله لهم أو قالوا لبعضهم: إذ اعتزلتم قومكم، فأووا إلى الكهف تغمركم رحمة الله، ويهيء الله لكم ما ترتفقون وتنتفعون به من شؤون الحياة.
٧- كان من رحمة الله بهم ولطفه بهم بعد الرقاد أن الشمس تتنحى عنهم وتميل جهة اليمين وجهة الشمال، أي عن يمين الكهف وعن شماله، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار، وكان الرائي يحسبهم أيقاظا لأن أعينهم كانت مفتوحة وهم نائمون، وأن كلبهم باسط ذراعيه في باب الكهف لحراستهم، وهو

صفحة رقم 232

نائم مثلهم. ومن لطفه تعالى بهم أيضا تقليبهم ناحية اليمين وناحية الشمال لئلا تأكل الأرض لحومهم، وكان التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فينسب إلى الله تعالى.
٨- يجوز اتخاذ الكلاب للحاجة والصيد والحراسة،
ورد في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان».
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند الإمام مالك: هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السرّاق. وكلب الزرع: هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار، لا من السرّاق. وقد أجاز غير مالك اتخاذ الكلاب لسرّاق الماشية والزرع.
٩- ينتفع الإنسان بصحبة الأخيار ومخالطة الصلحاء والأولياء، بدليل جعل كلب أهل الكهف مثلهم، إنه كلب أحب قوما، فذكره الله معهم.
روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدّة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أعددت لها؟ قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: «فأنت مع من أحببت».
وأكثر المفسرين: على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه، أو غنمه، واسم «قطمير» كلب أنمر، والصحيح أنه زبيري.
١٠- ألقى الله عليهم الهيبة أو المهابة والوقار، فلو شاهدهم إنسان أشرف على الهرب منهم، وامتلأ قلبه خوفا ورعبا منهم. قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها، لتكون لهم ولغيرهم فيهم

صفحة رقم 233

آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهمّ.
١١- بعد الرقاد والتقليب أيقظهم الله من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم، وليصيروا إلى التساؤل فيما بينهم عن مدة نومهم، فقال بعضهم:
لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقال آخرون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.
١٢- دل قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً.. الآية على مشروعية الوكالة، وعلى حسن السياسة والتلطف في دخول المدينة وخروجها وشراء الطعام من أهلها، حتى لا يعلم أهل المدينة بهم، فيقتلوهم بالحجارة، وهو أخبث القتل.
والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام،
وقد وكل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض الصحابة في تزويجه من بعض النسوة، ووكل عروة البارقي في شراء أضحية، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهما.
والوكالة عقد نيابة أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه، وقيام المصلحة في ذلك إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره، أو بترفّه، فيستنيب من يريحه. ودل القرآن في غير هذه الآية على جواز الوكالة، مثل قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة ٩/ ٦٠] وقوله: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا [يوسف ١٢/ ٩٣].
والوكالة جائزة عند الجمهور لمن له عدر ومن لا عذر له، وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز لمن لا عذر له. ودليل الجمهور حديث البخاري عن أبي هريرة المتضمن توكيل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إعطاء بعض أنواع الإبل وفاء لدينه، وقال: «ان خيركم أحسنكم قضاء».

صفحة رقم 234

١٣- تضمنت هذه الآية: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ.. أيضا جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم، كما تضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء، وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة ٢/ ٢٢٠].
١٤- أطلع الله تعالى الناس على أهل الكهف للعبرة والعظة والاسترشاد وإقامة الحجة على قدرة الله على الحشر وبعث الأجساد من القبور، والحساب.
١٥- إن اتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها، والبناء عليها، غير جائز في شرعنا، لما
روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زوّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسّرج».
ويجوز الدفن في التابوت، لا سيما إذا كانت الأرض رخوة، وقد دفن دانيال ويوسف عليهما السلام في تابوت، وكان تابوت دانيال من حجر، وتابوت يوسف من زجاج. لكن يكره في شرعنا.
١٦- قوله تعالى: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تنبيه على أن هذا العدد هو الحق لسكوت النص على التعقيب عليه، خلافا لما قال تعالى في الجملتين المتقدمتين: رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وقوله سبحانه قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أمر دال على أن يردّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علم عدّتهم إلى الله عز وجل، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل.
وقوله فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم، فلهذا قال: إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي ذاهبا، ودليل على أنه لم يبح له في هذه الآية المراء والجدال إلا بالتي هي أحسن، كما جاء في آية أخرى.

صفحة رقم 235

وفي قوله سبحانه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
١٧- السّنة والأدب الشرعيان يقتضيان تعليق الأمور المستقبلية بمشيئة الله تعالى للآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين، بأن يقول:
إن شاء الله.
ويؤمر الإنسان بالذكر بعد النسيان، أي بذكر مشيئة الله عند التذكر ولو بعد حين، سنة أو أقل، أو أكثر.
١٨- أخبر تعالى في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ... عن مدة لبث أهل الكهف، وهي ثلاث مائة وتسع سنوات، كانوا في هذه المدة نياما، لا أمواتا. وأمر الله تعالى برد العلم بمدتهم إلى الله عز وجل، كما أمر بذلك في معرفة عددهم لأن الله تعالى أعلم بكل شيء، وأعلم بغيب السموات والأرض وما فيها من أحوال المخلوقات، ولا شريك له ولا مشير، ولا نصير ولا معين ولا وزير.
والظاهر أن أهل الكهف ماتوا موتا حقيقيا، وإن كان لا مانع شرعا من بقاء أجسادهم محفوظة، لم يطرأ عليها البلى والفناء لأن أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء الصالحين لا تفنى ولا تبلى.
١٩- العبرة من القصة: دلت هذه القصة على أن الله قادر على البعث والقيامة لأن إثبات البعث والقيامة يدور على أصول ثلاثة: أحدها- أنه تعالى قادر على كل الممكنات، والثاني- أنه تعالى عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، والثالث- أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.

صفحة رقم 236
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ واذكروا يا أهل الكهف ذلك الخطاب الذي صدر من بعضكم لبعض حينما صممتم على الفرار بدينكم فاعتزلتم