رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ لبيان أن الله خالقهم، وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم.
٥- ليس كلّ الأنبياء في درجة واحدة متساوية، وإنما يوجد تفاضل بينهم، فقد فضل الله بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم، كما بيّنا في التّفسير.
٦- أنزل الله تعالى الزّبور على داود عليه السّلام، والزّبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد، والقصد من الإشارة إليه في الآية محاجّة اليهود، وإعلامهم أنه كما آتينا داود الزّبور، فلا تنكروا أن يؤتي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن الكريم.
تفنيد آخر لشبهات المشركين
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
الإعراب:
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ... أُولئِكَ: مبتدأ، والَّذِينَ: صفته، ويَدْعُونَ: صلة الَّذِينَ، والعائد محذوف، أي يدعونهم. والَّذِينَ يَدْعُونَ: صفة المبتدأ. ويَبْتَغُونَ: خبر المبتدأ. وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ: مبتدأ وخبر، والجملة منصوبة بفعل مقدر، أي ينتظرون. ويحتمل أن تكون «أي» بمعنى الذي بدل من واو يَبْتَغُونَ فتكون «أي» مبنية.
أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ... : أَنْ الأولى: منصوبة بتقدير حذف حرف الجر، أي من أن نرسل، فلما حذف حرف الجر انتصب ب «منع». وأَنْ الثانية: فاعل منع، أي وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بمثلها. والمعنى أن تكذيب الأولين كان سببا لهلاكهم، فلو أرسلنا بالآيات إلى قريش، فكذبوها، لأهلكناهم، كما أهلكنا من تقدّمهم، وقد سبق في العلم القديم تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة، فلم نرسل بالآيات لذلك.
وَالشَّجَرَةَ.. منصوبة بالعطف على الرُّؤْيَا وهي مفعول أول ل جَعَلْنَا والثاني فِتْنَةً.
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فاعل يَزِيدُهُمْ مقدر، أي التخويف، دلّ عليه نُخَوِّفُهُمْ. وطُغْياناً: مفعول ثان ل يَزِيدُهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين.
البلاغة:
وَلا تَحْوِيلًا فيه إيجاز بالحذف، أي ولا تحويل الضّرّ عنكم، حذف لدلالة ما سبق.
يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ بينهما طباق.
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ المنع محال في حق الله تعالى إذ لا يمنعه شيء، فالمنع مجاز عن الترك، أي سبب ترك الإرسال هو التكذيب.
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً مجاز عقلي علاقته السببية، أي أنه لما كانت الناقة سببا في إبصار الحقّ والهدى، نسب إليها الإبصار.
المفردات اللغوية:
زَعَمْتُمْ أنهم آلهة، أي كذبتم، والزعم في الأصل: القول المشكوك في صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه زعم فهو كذب «١».
مِنْ دُونِهِ كالملائكة وعيسى وعزير. فَلا يَمْلِكُونَ لا يستطيعون. كَشْفَ الضُّرِّ إزالته.
وَلا تَحْوِيلًا ولا تحويله عنكم إلى غيركم.
يَدْعُونَ أي يدعونهم آلهة أو ينادونهم. يَبْتَغُونَ يطلبون. الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة، أي هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله تعالى القربة بالطاعة. أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يبتغي القربة أو الوسيلة الذي هو أقرب منهم إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ أو كيف تدعونهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً مخوّفا، حقيقا بأن يحذره كلّ أحد، حتى الرّسل والملائكة.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ما من قرية، والمراد أهلها. مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت.
أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وغيره. فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ. مَسْطُوراً مكتوبا. بِالْآياتِ التي اقترحها أهل مكة، فهي ما اقترحته قريش، مثل جعل الصّفا ذهبا.
إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي لما أرسلنا الآيات وكذبوا بها أهلكناهم، ولو أرسلناها إلى هؤلاء، لكذبوا بها، واستحقوا الإهلاك وعذاب الاستئصال، وقد كنّا حكمنا بإمهالهم، لإتمام نشر دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
مُبْصِرَةً آية بيّنة واضحة، أو ذات إبصار لمن يتأملها ويفكر فيها. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها فأهلكوا، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المعجزات أو الآيات المقترحة. إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد من نزول العذاب المستأصل، فيؤمنوا.
وَإِذْ قُلْنا واذكر إذ قلنا. أَحاطَ بِالنَّاسِ علما وقدرة، والمراد أنهم في قبضته وتحت قدرته، فبلغهم الرسالة ولا تخف أحدا، فهو يعصمك منهم، ولا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا. الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ عيانا ليلة الإسراء، والرُّؤْيَا: هي ما عاينه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الإسراء من العجائب، والمراد بها هنا خلافا للغالب: الرؤية البصرية، قال ابن عباس: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به»، ولو كانت رؤيا منام، لما كانت فتنة للناس، ولما ارتدّ بعضهم عن الإسلام. إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أهل مكة، إذ كذّبوا بها، وارتدّ بعضهم، لما أخبرهم بها. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، جعلناها فتنة لهم، إذ قالوا: النار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟ وَنُخَوِّفُهُمْ بها. فَما يَزِيدُهُمْ تخويفنا.
إِلَّا طُغْياناً الطغيان: تجاوز الحدّ في الفجور والضلال.
سبب النزول:
نزول الآية (٥٦) :
قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ: أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: كان
ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجنّ، فأسلم الجنيّون، واستمسك الآخرون بعبادتهم، فأنزل الله: قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ الآية.
وروي أنه لما أصاب القحط قريشا، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنزل الله هذه الآية.
نزول الآية (٥٩) :
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ:
أخرج أحمد والنسائي والحاكم والطّبراني عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، وأن ينحّي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت نؤتهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا، كما أهلكت من قبلهم، قال: «بل أستأني بهم» فأنزل الله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
نزول الآية (٦٠) :
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا: أخرج أبو يعلى عن أم هانئ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أسري به أصبح يحدّث نفرا من قريش يستهزئون به، فطلبوا منه آية، فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وأخرج ابن المنذر عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصبح يوما مهموما، فقيل له: مالك يا رسول الله؟ لا تهتم، فإنها رؤيا تنالهم، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
نزول الآية (٦٠) أيضا:
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: لما ذكر الله الزقّوم، خوّف به هذا الحي من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزّقوم الذي يخوفكم به محمد؟ قالوا: لا، قال:
الثّريد بالزّبد، أما لئن أمكننا منها لنزقمنها زقما، فأنزل الله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً، وأنزل تعالى:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان ٤٤/ ٤٣- ٤٤].
المناسبة:
بعد أن ندّد الله تعالى بإنكار المشركين البعث، عاد إلى الرّدّ عليهم في عبادتهم الملائكة والجنّ والمسيح وعزيرا، فهؤلاء يتوسّلون إلى الله بالطاعة والعبادة، ويخافون عذابه، فالمستحق للعبادة هو مالك هؤلاء، والقادر على النفع والضّر دونهم. وليس المراد الأصنام لأن ابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة.
ثم ذكر تعالى وعيده لهم وهو أن مصير قرى الكافرين إما الإبادة والاستئصال، وإما العذاب دون ذلك، كالقتل والسّبي واغتنام الأموال.
ثم ردّ تعالى على المشركين طالبي آيات حسيّة ومعجزات عظيمة قاهرة، مثل قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الآيات: ٩٠- ٩٣]، بأن تلبية اقتراحهم يهددهم، فلو جاء بالآيات، ثم كذبوا بها، عذبوا بعذاب الاستئصال، على وفق سنّة الله فيمن قبلهم، مثل آية ثمود البيّنة الواضحة.
وبالرغم من أن إظهار المعجزات ليس بمصلحة، فقد تجرأ أولئك الكفار بالطّعن بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين له: لو كنت رسولا حقّا من عند الله تعالى، لأتيت
بهذه المعجزات التي طلبناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعندئذ أبان الله تعالى أنه ناصره بقوله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ.
ثم أردف ذلك بأن ليلة الإسراء كانت فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما أن شجرة الزّقوم في نار جهنم فتنة وامتحان أيضا.
التفسير والبيان:
قل أيّها الرّسول لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، وهي الأصنام والأنداد، هل يجيبونكم، وارغبوا إليهم حين وقوع الضّرّ بكم من فقر ومرض وقحط وعذاب ونحوها، وانتظروا هل يستطيعون كشف الضّرّ عنكم أو تحويله أو تبديله من مكان أو من واحد إلى آخر؟ إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، فلا يقدرون على ذلك لغيرهم.
وإنما الذي يقدر عليه هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر.
قال ابن عباس: كان أهل الشّرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيرا.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربّهم، يقصدون ويطلبون التّوسل إليه والتّقرّب منه بالطاعات والقربات، ويخصونه بالعبادات، والوسيلة: هي القربة.
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ أي ويطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ أو أن معنى يبتغون الوسيلة:
يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى، وذلك بالطاعة وازدياد الخير
والصلاح، ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه كغيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «سلوا الله الوسيلة، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: القرب من الله، ثم قرأ هذه الآية».
وأما رجاء الرّحمة وخوف العذاب، فلأن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف يبتعد الإنسان عن المعاصي، وبالرجاء يكثر من الطاعات.
والعلّة في الخوف من العذاب هي كما قال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي إن عذاب ربّك كان مخوّفا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن يحذره ويخاف من وقوعه وحصوله العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فكيف أنتم؟! ثم أبان الله تعالى مصير الظالمين، فقال:
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها.. أي وما من قرية في علم الله المكتوب عنده في اللوح المحفوظ، من قرى الظالمين بالكفر والمعاصي إلا سيهلكها الله، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاب استئصال، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، لا ظلما، وإنما بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود ١١/ ١٠١].
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي كان ذلك حكما عاما ثابتا مسجّلا في علم الله أو في اللوح المحفوظ.
أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال:
ما أكتب؟ قال: اكتب المقدّر وما هو كائن إلى يوم القيامة».
ثم أوضح الله تعالى سبب عدم تلبية طلبات أهل مكة فقال:
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ.. أي وما صرفنا عن الإتيان بما يقترحونه من الآيات إلا تكذيب المتقدّمين الأولين بأمثالها، فإن أتينا بها وكذّب بها أهل مكة وأمثالهم، عجّلنا لهم العذاب، ولم يؤخّروا، كما هي سنّة الله في خلقه.
والآيات التي اقترحها أهل مكة- كما بيّنا في سبب النزول- مثل جعل الصّفا ذهبا، وتنحية الجبال عنهم، وجعل أراضيهم صالحة للزراعة.
وأما الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذّبوا بها لما أرسلت، فأهلكوا جميعا، مثل ناقة صالح لثمود، فلما عقروها أخذتهم الصيحة، وبقيت آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها الذاهب والعائد كما قال تعالى هنا: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي وأعطينا قبيلة ثمود الناقة حجّة واضحة دالّة على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي لبى الله دعاءه فيها. وقوله تعالى: مُبْصِرَةً أي بيّنة أو ذات إبصار يدركها الناس، وإنما خصّت بالذّكر هنا دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة من بلاد العرب وفي طريقهم. وقوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم.
وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي ولا نبعث بالآيات إلا تخويفا للناس من نزول العذاب العاجل لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، فإن لم يخافوا وقع عليهم.
ذكر ابن كثير أن الكوفة رجفت (زلزلت) على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس، إن ربّكم يستعتبكم فأعتبوه، وروي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ،
وفي الحديث المتّفق عليه بين الشيخين: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته،
ولكن الله عزّ وجلّ يخوّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، ثم قال: يا أمّة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».
ثم حرّض الله تعالى رسوله على إبلاغ رسالته، وأخبره بأنه قد عصمه من الناس، فقال: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر إذ أوحينا إليك أن الله هو القادر على عباده، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته، وقد عصمك من أعدائك قريش وغيرهم، وأن الله سينصرك عليهم كما قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧]، وقال مبشّرا بالنّصر في بدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٥]، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران ٣/ ١٢].
ولما بيّن تعالى أن إنزال آيات القرآن تتضمن التّخويف، ذكر آية الإسراء، فقال:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي وما جعلنا ما أطلعناك عليه ليلة الإسراء إلا اختبارا وامتحانا للنّاس، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكافرين المكذّبين، معرفة ينكشف بها حالهم أمام الناس، لا بالنّسبة إلينا، فنحن على علم سابق بكل ما سيحصل، وقد كذّب بها قوم وكفروا، وصدّق بها آخرون.
ذكر البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به. ويقال في العربية: رأيته بعيني رؤية ورؤيا.
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فيه تقديم وتأخير أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، أي اختبارا لهم، مثل حادث الإسراء والمعراج. وتلك الشجرة هي شجرة الزّقوم، قال تعالى:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدّخان ٤٤/ ٤٣- ٤٤]. وقد اختلف الناس فيها، فمنهم من ازداد إيمانا، فكثير من الأشياء لا تحرقها النار، ومنهم من ازداد كفرا كأبي جهل وعبد الله بن الزّبعرى، وقالوا: وما الزّقّوم إلا التّمر والزّبد، فجعلوا يأكلون ويتزقّمون منهما.
وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي ونخوّف الكفار بالوعيد والعذاب والنّكال في الدّنيا والآخرة، فما يزيدهم التّخويف إلا تماديا في الطّغيان وفيما هم فيه من الكفر والضّلال، فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
أفهمت الآيات المبادئ والأحكام التالية:
١- لا يملك أحد غير الله عزّ وجلّ كشف الضّر من فقر أو مرض أو بلاء أو غيره، أو تحويله وتبديله من مكان إلى مكان أو من شخص إلى آخر. وقد تحدّى الله المشركين في مكة بآية قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ.. بأن يدعوا ما يعبدون من دون الله، ويزعمون أنهم آلهة لكشف ما أحدق بهم من قحط سبع سنين.
٢- لا فائدة ولا جدوى من الاستعانة بغير الله من الآلهة المزعومة، فإن تلك المخلوقات كالملائكة وعيسى وعزير يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرّعون إلى الله تعالى في طلب الجنة. والوسيلة هي القربة.
وهذا إخبار من الله تعالى بأن المعبودين يبتغون القربة إلى ربّهم، فهم بأنفسهم بحاجة إلى ربّهم، فكيف يؤمل منهم الخير ودفع الضرّ والشّرّ لأتباعهم وعابديهم؟! ٣- ما من قرية ظالمة إلا وسيهلكها وأهلها الله أو يعذّبها عذابا شديدا قبل
مجيء يوم القيامة، فليتّق الله المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحلّ بها العذاب، قال ابن مسعود: إذا ظهر الزّنى والرّبا في قرية أذن الله في هلاكهم.
ولا يكون الإهلاك إلا بظلم من الناس، قال تعالى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٩].
٤- لا مانع يمنع الله سبحانه من الإرسال بالآيات التي اقترحها مشركو مكة إلا أن يكذّبوا بها، فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم، لذا أخّر الله تعالى العذاب عن كفار قريش، لعلمه أن فيهم من يؤمن، وفيهم من يولد مؤمنا.
٥- كان إيتاء ثمود الناقة آية دالّة مضيئة نيّرة على صدق صالح عليه السّلام، وعلى قدرة الله تعالى. ولما ظلموا أنفسهم بتكذيبها، أو جحدوا بها، وكفروا بأنها من عند الله تعالى، استأصلهم الله بالعذاب.
٦- لا يكون الإرسال بآيات الانتقام إلا تخويفا من المعاصي والكفر.
٧- بشّر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأنه أحاط بالناس، أي أهل مكة، وإحاطته بهم: إهلاكه إياهم، أو أحاطت قدرته بجميع الناس، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
٨- إن آية الإسراء وشجرة الزّقّوم اختبار للناس وامتحان لهم، ليكفر من سبق عليه الكفر، ويصدّق من سبق له الإيمان.
والثابت والأصح أن حادث الإسراء رؤيا عين أريها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به إلى بيت المقدس.
والشجرة الملعونة هي شجرة الزّقّوم، وهي في أبعد مكان من الرّحمة.
والله تعالى يخوف المشركين وغيرهم بالزّقوم، فما يزيدهم التّخويف إلا الكفر.