آيات من القرآن الكريم

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ

أَقْطَاعًا وَفَرَّقَهُ أَجْزَاءً عَلَى مَعْنَى جَعَلَهُ أَقْطَاعًا وأجزاء فكذا هاهنا قَوْلُهُ: نَقَضَتْ غَزْلَهَا أَنْكَاثًا أَيْ جَعَلَتْ غَزْلَهَا أَنْكَاثًا الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْكاثاً حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ مِثْلَ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَزَلَتْ غَزْلًا وَأَحْكَمَتْهُ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَ نَقَضَتْهُ فَجَعَلَتْهُ أَنْكَاثًا.
ثم قال تَعَالَى: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الدَّخَلُ وَالدَّغَلُ الْغِشُّ وَالْخِيَانَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا دَخَلَهُ عَيْبٌ قِيلَ هُوَ مَدْخُولٌ وَفِيهِ دَخَلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الدَّخَلُ مَا أُدْخِلَ فِي الشَّيْءِ عَلَى فَسَادٍ.
ثم قال: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أَرْبَى أَيْ أَكْثَرُ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ تَكُونُ فِي الْعَدَدِ وَفِي الْقُوَّةِ وَفِي الشَّرَفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ ثُمَّ يَجِدُونَ مَنْ كَانَ أَعَزَّ مِنْهُمْ وَأَشْرَفَ فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ الْأَوَّلِينَ وَيُحَالِفُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ فِي الْعَدَدِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّرَفِ.
فَقَوْلُهُ: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَتَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ بِسَبَبِ أَنَّ أُمَّةً أَزْيَدُ فِي الْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى.
ثم قال تَعَالَى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أَيْ بِمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَيَتَمَيَّزُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٣]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَلَّفَ الْقَوْمَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَتَحْرِيمِ نَقْضِهِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَفَاءِ وَعَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْإِلْجَاءِ، أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ إِلَى الْكُفْرِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ، فَلَا جَرَمَ مَا أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ قَدْ تَكَرَّرَتْ مرارا كثيرة،
وروى الواحدي أن عزيزا قَالَ: يَا رَبِّ خَلَقْتَ الْخَلْقَ فَتُضِلُّ مَنْ تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزير أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، فَأَعَادَهُ ثَانِيًا. فَقَالَ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، فَأَعَادَهُ ثَالِثًا، فَقَالَ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَإِلَّا مَحَوْتُ اسْمَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مَشِيئَةُ الْإِلْجَاءِ، أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بعده: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا عَبَثًا، وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ سَبَقَ مِرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)

صفحة رقم 265

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَذَّرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْ نَقْضِ الْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَذَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْذِيرَ عَنْ نَقْضِ مُطْلَقِ الْأَيْمَانِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرِيرُ الْخَالِي عَنِ الْفَائِدَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، بَلِ الْمُرَادُ نَهْيُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَنْ نَقْضِ أَيْمَانٍ مَخْصُوصَةٍ أَقْدَمُوا عَلَيْهَا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ نَقْضِ عَهْدِهِ، لِأَنَّ هَذَا الوعيد وهو قَوْلُهُ: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها لَا يَلِيقُ بِنَقْضِ عَهْدٍ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِنَقْضِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الْإِيمَانِ بِهِ وَشَرَائِعِهِ. وَقَوْلُهُ: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها مَثَلٌ يُذْكَرُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ بَعْدَ عَافِيَةٍ، وَمِحْنَةٍ بَعْدَ نِعْمَةٍ، فَإِنَّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ سَقَطَ عَنِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَوَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الضَّلَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَذُوقُوا السُّوءَ أَيِ الْعَذَابَ: بِما صَدَدْتُمْ أَيْ بِصَدِّكُمْ: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أَيْ ذَلِكَ السُّوءُ الَّذِي تَذُوقُونَهُ سُوءٌ عَظِيمٌ وَعِقَابٌ شَدِيدٌ، / ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا التَّحْذِيرَ فَقَالَ:
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يُرِيدُ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَعْنِي أَنَّكُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِمَّا يَجِدُونَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يَجِدُونَهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: الْحِسُّ شَاهِدٌ بِأَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْمُنْقَطِعَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا عَالِيًا شَرِيفًا أَوْ كَانَ خَيْرًا دَنِيًّا خَسِيسًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا عَالِيًا شَرِيفًا فَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَنْقَطِعُ يَجْعَلُهُ مُنَغَّصًا حَالَ حُصُولِهِ، وَأَمَّا حَالَ حُصُولِ ذَلِكَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّهَا تَعْظُمُ الْحَسْرَةُ وَالْحُزْنُ، وَكَوْنُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ كَذَلِكَ يُنَغِّصُ فِيهَا وَيُقَلِّلُ مَرْتَبَتَهَا وَتَفْتُرُ الرَّغْبَةُ فِيهَا، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الْمُنْقَطِعَةَ كَانَتْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْخَسِيسَةِ فَهَمُّنَا مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَيْرَ الدَّائِمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْمُنْقَطِعِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا.
البحث الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَاقٍ لَا يَنْقَطِعُ. وَقَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدِ الْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى ذَلِكَ الِالْتِزَامِ وَأَنْ لَا يَرْجِعَ عَنْهُ وَأَنْ لَا يَنْقُضَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَلَوَازِمِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا الْتَزَمُوهُ، فقال:

صفحة رقم 266

وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَيْ عَلَى مَا الْتَزَمُوهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ يَجْزِيهِمْ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَأْتِي بِالْمُبَاحَاتِ وَبِالْمَنْدُوبَاتِ وَبِالْوَاجِبَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ يُثَابُ لَا عَلَى فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَفْظَةُ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً تُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْوَعْدِ بِالْخَيْرَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ الْوَعْدِ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ إِثْبَاتًا لِلتَّأْكِيدِ وَإِزَالَةً لِوَهْمِ التَّخْصِيصِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مُغَايِرٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ؟
وَالْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي كَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ. وَشَرْطُ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْأَثَرَ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يُفِيدُ الْأَثَرَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ أَوْ كَانَ مَعَ عَدَمِهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِفَادَةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ، أَمَّا إِفَادَتُهُ لِأَثَرٍ غَيْرِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيمَانِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: الْأَقْرَبُ أَنَّهَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجْزِيهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ فَهَذَا لَا امْتِنَاعَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَمَا هِيَ؟
وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا قِيلَ: هُوَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، وَقِيلَ: عِبَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَكْلِ الْحَلَالِ، وَقِيلَ:
الْقَنَاعَةُ، وَقِيلَ: رِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَقَوْلُ من يقول: إن الْقَنَاعَةُ حَسَنٌ مُخْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ عَيْشُ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَيْشَ الْقَانِعِ وَأَمَّا الْحَرِيصُ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبَدًا فِي الْكَدِّ وَالْعَنَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ فِي الدَّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ رِزْقَهُ إِنَّمَا حَصَلَ

صفحة رقم 267
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية