
وقوله: وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ هذه العبارة إذا قالها الإنسان عن نفسه أو قيلت له فيما يقع تحت مقدوره- فمعناها النهي والحظر، وإن كان ذلك فيما لا قدرة له عليه- فمعناها نفي ذلك الأمر جملة، وكذا هي آيتنا، وقال المهدوي لفظها لفظ الحظر ومعناها النفي.
واللام في قوله: «ليتوكل» لام الأمر. وقرأها الجمهور ساكنة وقرأها الحسن مكسورة، وتحريكها بالكسر هو أصلها. وتسكينها طلب التخفيف، ولكثرة استعمالها وللفرق بينها وبين لام كي التي ألزمت الحركة إجماعا.
وقوله: ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ الآية، وقفتهم الرسل على جهة التوبيخ على تعليل في أن لا يتوكلوا على الله، وهو قد أنعم عليهم وهداهم طريق النجاة وفضلهم على خلقه، ثم أقسموا أن يقع منهم الصبر على الإذاية في ذات الله تعالى. وما في قوله: ما آذَيْتُمُونا مصدرية، وهي حرف عند سيبويه بانفرادها، إلا أنها اسم مع ما اتصل بها من المصدر، وقال بعض النحويين: «ما» المصدرية بانفرادها اسم. ويحتمل أن تكون ما- في هذا الموضع- بمعنى الذي، فيكون في آذَيْتُمُونا ضمير عائد، تقديره آذيتموناه، ولا يجوز أن تضمر به سبب إضمار حرف الجر، هذا مذهب سيبويه، والأخفش يجوز ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٧]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
قوله: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالت فرقة: أَوْ هنا بمعنى: «إلا أن» كما هي في قول امرئ القيس: [الطويل]
فقلت له لا تبك عيناك إنما | نحاول ملكا أو نموت فنعذرا |
و «العودة» أبدا إنما هي إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، فإنما المعنى. صفحة رقم 329

لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالا، وذلك عند الكفار كون في ملتهم.
وخصص تعالى الظَّالِمِينَ من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.
وقوله: لَنُسْكِنَنَّكُمُ الخطاب للحاضرين، والمراد هم وذريتهم، ويترتب هذا المعنى في قوله:
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [إبراهيم: ١٠] أي يؤخركم وأعقابكم.
وقرأ أبو حيوة: «ليهلكن» و «ليسكننكم» بالياء فيهما.
وقوله: مَقامِي يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة، فإضافته- إذا كان مصدرا- إضافة المصدر إلى الفاعل، وإضافته- إذا كان ظرفا- إضافة الظرف إلى حاضره، أي مقام حسابي، فجائز قوله: مَقامِي وجائز لو قال: مقامه، وجائز لو قال: مقام العرض والجزاء، وهذا كما تقول: دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم.
وقال أبو عبيدة: مَقامِي مجازه، حيث أقيمه بين يدي للحساب، و «الاستفتاح» طلب الحكم، والفتاح: الحاكم، والمعنى: أن الرسل استفتحوا، أي سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، وقيل: بل استفتح الكفار، على نحو قول قريش عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: ١٦] وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. هذا قول أبي زيد.
وقرأت فرقة «واستفتحوا» بكسر التاء، على معنى الأمر للرسل، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن.
وخابَ معناه: خسر ولم ينجح، و «الجبار» : المتعظم في نفسه، الذي لا يرى لأحد عليه حقّا، وقيل: معناه يجبر الناس على ما يكرهون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المفهوم من اللفظ، وعبر قتادة وغيره عن «الجبار» بأنه الذي يأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
و «العنيد» الذي يعاند ولا ينقاد، وقوله: مِنْ وَرائِهِ ذكر الطبري وغيره من المفسرين: أن معناه:
من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: ٧٩] وأنشد الطبري:
أتوعدني وراء بني رياح | كذبت لتقصرن يداك دوني |