
لنا في ذلك، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ومشيئته وإرادته وليس ذلك في قدرتنا.
أما تقليدكم الآباء لأنهم آباء ولو كانوا في ضلال مبين فهذا شيء يجب أن يدخل في الحسبان ويرد عليه بالبرهان.
بعد هذا النقاش انتقلت المسألة إلى العمل والانتقام من الأنبياء فقال لهم الأنبياء:
إنا لا نخاف تهديدكم، ولا يضيرنا وعيدكم، بل نحن نتوكل على الله وحده، ونعتمد عليه ولا نقيم وزنا لما تفعلون، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون فهم أحق به وأولى من غيرهم.
وما لنا ألا نتوكل على الله؟ وكيف لا يكون هذا، وأى شيء عرض لنا حتى لا نتوكل عليه؟ وقد هدانا لأقوم طريق وأهدى سبيل، ولنصبرن على إيذائكم وعلى الله فليستمر توكل المؤمنين، وفقنا الله إلى التوكل عليه حقا.
العاقبة للمتقين [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٨]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)

المفردات:
لَتَعُودُنَّ لتصيرن وكثيرا ما تستعمل عاد بمعنى صار مِلَّتِنا الملة: الشريعة والدين مَقامِي قيامي للحساب وَاسْتَفْتَحُوا طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء خابَ هلك جَبَّارٍ الجبار هو العاتي المتكبر الذي يجبر غيره على اتباع رأيه ولو باطلا صَدِيدٍ يسيل من جلودهم، من دم أو قيح يَتَجَرَّعُهُ جرعته الدواء سقيته جرعة بالشدة والقهر يُسِيغُهُ يزدرده عاصِفٍ شديد الريح.
بعد الحوار والنقاش بين الرسل وأقوامهم تأتى مرحلة العمل والحرب، وفي النهاية الغلبة للمتقين وتلك سنة الله في جميع الأزمنة ومع كل الأمم والرسل.
المعنى:
وقال الذين كفروا لرسلهم حين دعوهم إلى التوحيد وترك عبادة الأوثان، ورأوا في الرسل إصرارا على هذا الدين. قالوا: ليكونن أحد الأمرين، ولا ثالث لهما أبدا:
إما أن تخرجوا من أرضنا أو لتصيرن في ملتنا وشرعنا: وذلك كما قال قوم مدين لشعيب ومن آمن معه لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [سورة الأعراف آية ٨٨] وكما قال كفار مكة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية ٧٦].
قال الكفار هذا مغرورين بقوتهم وكثرتهم، وقلة عدد المؤمنين وضعفهم فأوحى ربك إلى الأنبياء، لا تحزنوا وأبشروا. لنهلكن الظالمين من المشركين ولنسكنكم الأرض من بعدهم عقوبة لهم على قولهم. لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا ولقد كرر هذا المعنى في القرآن كثيرا كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٢١] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا

لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[سورة الصافات الآيات ١٧١- ١٧٣] وقال موسى لقومه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف آية ١٢٨].
ذلك لمن خاف مقامي وخشي حسابي، وخاف وعيدي بتجنب سخطى وغضبى.
واستفتحوا نعم استفتح كل من الأمم والرسل ألا ترى إلى قوله- تعالى- حكاية عن كفار مكة: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [سورة الأنفال آية ٣٢] الآية وإن كان هذا يدل على منتهى الحماقة وسوء الرأى، وتأصل العناد واستفتحت الرسل على أممها واستنصرت بالله.
فقال الله: وخاب كل جبار عنيد وهلك كل متكبر يجبر غيره على أخذ رأيه الباطل وهو عنيد، أمامه جهنم وبئس القرار، ويسقى من ماء صديد هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [سورة ص الآيتان ٥٧ و ٥٨] شرابهم في جهنم الصديد الذي يخرج من جوفهم، والحميم الشديد الحرارة والغساق الشديد البرودة وآخر من شكله أزواج، وعبارة القرآن تفيد أن هلاك الجبار قاعدة وقانون.. وهل يشرب شرابه بسهولة؟
أم يشربه بعسر وألم؟ فذكر الله أنه يتجرعه جرعة بعد جرعة بمنتهى الألم والشدة والقسوة ولا يكاد يسيغه من شدة كراهته له ورداءة طعمه ولونه وريحه وحرارته، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [سورة الرعد آية ١٥] وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف آية ٢٩].
ويأتيه ألم الموت وشدة نزع الروح من كل مكان في جسمه، وما هو بميت ولكنه الألم والتعب والهم والحزن، ومن وراء ذلك كله عذاب غليظ.
أليس هذا تصويرا لجهنم ومن فيها تصويرا يجعلنا نرسم لها صورة بشعة، صورة مؤلمة حقا وقانا الله شرها.
هذا جزاء الكفار، أليس لهم في الدنيا من عمل يخفف عنهم؟ فقال الله ردا: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا أى: صفتهم العجيبة الغريبة غرابة المثل هي أن أعمالهم كرماد اشتدت به الريح، أى: حملته بشدة وسرعة في يوم عاصف، ريحه شديد،