
والثاني: أنها وقائع الله في الأمم قبلهم، قاله ابن زيد وابن السائب ومقاتل. والثالث: أنها أيام نِعَم الله عليهم وأيام نِقَمِه ممن كَفر من قوم نوح وعاد وثمود، قاله الزجاج.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: التذكير لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على طاعة الله وعن معصيته شَكُورٍ لأنعُمه. والصبَّار: الكثير الصبر، والشَّكور: الكثير الشُّكر، وإِنما خصه بالآيات، لانتفاعه بها. وما بعد هذا مشروح في سورة البقرة.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ مذكور في (الأعراف) «١». وفي قوله لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي، قاله الحسن. والثاني: لئن شكرتم إِنعامي لأزيدنكم من فضلي، قاله الربيع. والثالث: لئن وحَّدتموني لأزيدنكم خيراً في الدنيا، قاله مقاتل. وفي قوله: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ قولان: أحدهما: أنه كفر بالتوحيد. والثاني: كفران النِّعَم. قوله تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أي: غني عن خَلْقه، محمود في أفعاله، لأنه إِمّا متفضِّل بفعله، أو عادل.
قوله تعالى: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ قال ابن الأنباري: أي: لا يحصي عددهم إِلا هو، على أن الله تعالى أهلك أُمماً من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفَت آثارهم، فليس يعلمهم أحد إِلا الله.
قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فيه سبعة أقوال:
أحدها: أنهم عضُّوا أصابعهم غيظاً، قاله ابن مسعود، وابن زيد. وقال ابن قتيبة: «في» ها هنا بمعنى: «إِلى»، ومعنى الكلام: عضُّوا عليها حَنَقاً وغيظا، كما قال الشاعر «٢» :
(٢) هذا صدر بيت، لم أجد من نسبه لقائل، وهو في «تفسير القرطبي» ٩/ ٣٤٦:
تردّون في فيه غش الحسود | حتى يعضّ عليّ الأكفا |
قَدَ افْنَى أَنامِلَه أَزْمُهُ | فأضحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا «١» |
والثاني: أنهم كانوا إِذا جاءهم الرسول فقال: إِني رسول، قالوا له: اسكت، وأشاروا بأصابعهم إِلى أفواه أنفسهم، رَدَّاً عليه وتكذيباً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم لما سمعوا كتاب الله، عجّوا ورجعوا بأيديهم إِلى أفواههم، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: أنهم وضعوا أيديَهم على أفواه الرسل. ردَّاً لقولهم، قاله الحسن. والخامس: أنهم كذَّبوهم بأفواههم، وردُّوا عليهم قولهم، قاله مجاهد، وقتادة. والسادس: أنه مَثَلٌ، ومعناه: أنهم كَفُّوا عما أُمروا بقبوله من الحق، ولم يؤمنوا به. يقال: رَدَّ فلان يده إِلى فمه، أي: أمسك فلم يُجِب، قاله أبو عبيدة. والسابع: رَدُّوا ما لَوْ قبلوه لكان نِعَماً وأياديَ من الله، فتكون الأيدي بمعنى: الأيادي، و «في» بمعنى: الباء، والمعنى: رَدُّوا الأياديَ بأفواههم، ذكره الفراء، وقال: قد وجدنا مِن العرب مَن يجعل «في» موضعَ الباء، فيقول:
أدخلك الله بالجنة، يريد: في الجنة، وأنشدني بعضهم:
وأَرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورهطِهِ | ولكنَّني عن سَنْبَسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ |
قوله تعالى: وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي: على زعمكم أنكم أُرسلتم، لا أنهم أقرُّوا بإرسالهم. وباقي الآية قد سبق «٢» تفسيره. قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ هذا استفهام إِنكار، والمعنى:
لا شك في الله، أي: في توحيده يَدْعُوكُمْ بالرّسل والكتاب لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال أبو عبيدة: «من» زائدة، كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ، قال أبو ذؤيب:
جَزَيْتُكِ ضِعْفَ الحُبِّ لمَّا شَكَوتِهِ | وما إِن جزاكِ الضِّعْفَ مِن أَحَدٍ قبلي |
قوله تعالى: وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا فيه قولان: أحدهما: بيَّن لنا رشدنا. والثاني: عرَّفنا طريق التوكل. وإِنما نصّ هذا وأمثاله على نبيّنا ﷺ ليقتديَ بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم. قوله تعالى: لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ يعني: الكافرين بالرّسل. وقوله: مِنْ بَعْدِهِمْ أي: بعد هلاكهم.
ذلِكَ الإِسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي قال ابن عباس: خاف مُقامه بين يديَّ. قال الفراء: العرب قد
(٢) سورة هود: ٦٢.