فهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات والجملة في محل نصب على الحال أيضًا.
٥١ - وقوله: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ﴾ متعلق بمحذوف تقديره: يفعل ذلك بهم ليجزي سبحانه وتعالى ﴿كُلَّ نَفْسٍ﴾ مجرمة جزاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقًا لعملها ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فيتمه في أعجل ما يكون من الزمان. قيل: يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك، فلا يشغله حساب عن حساب، فيوفى الجزاء بحسبه، ولا يظلمهم ولا يزيدهم على عقابهم الذي يستحقونه. وقرأ (١) علي وأبو هريرة وابن عباس وعكرمة وابن جبير وابن سيرين والحسن بخلاف عنه وسنان بن سلمة بن المخنق وزيد بن علي وقتادة وأبو صالح والكلبي وعيسى الهمذاني وعمرو بن فائد وعمرو بن عبيد ﴿من قَطِرٍ﴾ بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء ﴿آن﴾ بوزن عان، وهي قراءة شاذة وليست متواترة، وجعلوا كلمتين، والقطر: النحاس، والآني: اسن فاعل من أنى يأنى؛ أي: تناهى في الحرارة كقوله: ﴿وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾. وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب: ﴿من قَطْران﴾ - بفتح القاف وإسكان الطاء - بزنة سكران وهي قراءة شاذة أيضًا. وقرأ الجمهور: ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ﴾ بالنصب وقرىء بالرفع، فالأول على نحو قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ فهو على حقيقة الغشيان، والثانية على التجوز جعل ورود الوجه على النار غشيانًا. وقرىء: ﴿وتغشى وجوههم﴾ بمعنى تتغشى.
٥٢ - ﴿هَذَا﴾ القرآن الذي أنزل إليك يا محمد - ﷺ - ﴿بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: مبلغ (٢) للناس إلى مراتب السعادة، وموصل لهم إليها، فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل. وميل: المعنى ﴿هَذَا﴾ القرآن الذي أنزل إليك يا محمد بما فيه من فنون العظات والقوارع ﴿بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: كفاية لهم في الموعظة والتذكير. قال في
(٢) الفتوحات.
"القاموس": البلاغ: كسحاب الكفاية. وقوله: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾: معطوف على محذوف مع متعلقه تقديره: أنزل إليك ليبلغهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم، ولينذروا به؛ أي: وليخوفوا بالقرآن ومواعظه وزواجره عما فيه هلاكهم وشقاؤهم ﴿وَلِيَعْلَمُوا﴾ بما فيه من الحجج والبراهين ﴿أَنَّمَا هُوَ﴾؛ أي: الله سبحانه وتعالى ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: معبود منفرد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له، فيعبدوه ولا يعبدوا إلهًا غيره من الدنيا والهوى والشيطان وما يعبدون من دون الله؛ أي: وليعلموا بما فيه ويستدلوا على وحدانية الله تعالى ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: وليتعظ بهذا القرآن وما فيه من المواعظ أصحاب العقول الكاملة، والأفهام الثاقبة، والعقائد الصحيحة فهو عظة لمن اتعظ وعبرة لمن اعتبر. وقيل (١): هذه اللامات متعلقة بـ ﴿بَلَاغٌ﴾؛ أي: هذا القرآن بلاغ للناس؛ أي: كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله تعالى فيه من الحجج والبراهين ووحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه لا شريك له، وليتعظ به أصحاب العقول التي تعقل وتدرك، وأسند التذكر والاتعاظ إلى من له لب؛ لأنهم هم الذين يجدي فيهم التذكر.
واعلم: أنه (٢) سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي: الغاية والحكمة في إنزال الكتب، وتكميل الرسل للناس واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى. وقرأ (٣) مجاهد وحميد شذوذًا: ﴿ولتنذروا﴾ بتاء مضمومة وكسر الذال كأن البلاغ لعموم المخاطبين. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي: ﴿ولينذروا﴾ بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به، فاستعد له قالوا: ولم يعرف لهذا الفعل مصدر، فهو مثل عسى وغيره مما استعمل من الأفعال، ولم يعرف له أصل.
وناسب مختتم هذه السورة مفتتحها (٤)، وكثيرًا ما جاء في سور القرآن حتى إن بعضهم زعم أن قوله: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِه﴾ معطوف على قوله: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾.
(٢) البيضاوي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
وجملة ما هذه السورة من الموضوعات ثمانية:
١ - هداية الناس إلى معرفة ربهم الخالق للسماوات والأرض.
٢ - ذم الكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا، ويصدون عن الدين القويم.
٣ - بيان أن الرسل إنما يرسلون بلغات أقوامهم؛ ليسهل عليهم فهم الأوامر والنواهي.
٤ - التذكير بأيام الله تعالى ببيان ما حدث للرسل مع أقوامهم؛ ليكون في ذلك تسلية لرسوله وما هدد به الأمم رسلهم من الإخراج والنفي من الديار.
٥ - وعيد الكافرين على كفرهم، وذكر ما يلقونه من العذاب، وضرب الأمثلة لذلك.
٦ - وعد المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار، وضرب المثل لذلك.
٧ - دعوة إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام التي أضلت كثيرًا من الناس، ثم شكره على ما وهبه من الأولاد على كبر سنه، ثم طلبه المغفرة منه له ولوالديه وللمؤمنين يوم العرض والحساب.
٨ - بيان أن تأخير العذاب عن المجرمين ليوم معلوم إنما كان لحكمة اقتضت ذلك، وحينئذ يرون من الذلة والصغار وسوء العذاب ما يجل عنه الوصف.
الإعراب
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢)﴾.
﴿وَلَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا﴾: فعل ومفعولان في مجل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿غَافِلًا﴾. ﴿يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما يعمله. ﴿إِنَّمَا﴾؛ أداة حصر ﴿يُؤَخِّرُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة
مستأنفة لتعليل ما قبلها. ﴿لِيَوْمٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُؤَخِّرُهُمْ﴾. ﴿تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾: فعل وفاعل فيه متعلق بـ ﴿تَشْخَصُ﴾، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿يَوْمٍ﴾، ولكنها صفة سببية.
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)﴾.
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾: حالان من المضاف المحذوف؛ إذ التقدير: أصحاب الأبصار، أو تكون (١) الأبصار دلت على أربابها، فجاءت الحال من المدلول عليه، ويجوز أن يكونا مفعولين لفعل محذوف تقديره: تراهم مهطعين مقنعي رؤوسهم، والإضافة في قوله: ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ غير محضة؛ لأنه مستقبل أو حال. ﴿لَا يَرْتَدُّ﴾: فعل مضارع. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿طَرْفُهُمْ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في ﴿مُقْنِعِي﴾، أو بدل من ﴿مُقْنِعِي﴾، أو مستأنفة. ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿إِلَيْهِمْ﴾، والعامل فيه (٢) إما ﴿يَرْتَدُّ﴾، وإما ما قبله من العوامل، وأفرد ﴿هَوَاءٌ﴾ وإن كان خبرًا عن جمع؛ لأنه في معنى فارغة، ولو لم يقصد ذلك.. لقيل: أهوية؛ ليطابق الخبر مبتدأه. اهـ. "سمين". ومعنى الآية: أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئًا، ولا تعقل من شدة الخوف.
﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾.
﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ فـ ﴿يَوْمَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿وَأَنْذِرِ﴾، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: أهوال يوم وشدائده، فهو مفعول به لا مفعول فيه؛ إذ لا إنذار في ذلك اليوم وإنما الإنذار يقع في الدنيا اهـ شيخنا. ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على ﴿يَأْتِيهِمُ﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل صلة
(٢) الفتوحات.
الموصول. ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا﴾ إلى قوله: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول على كونه جواب النداء. ﴿أَخِّرْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَخِّرْنَا﴾. ﴿قَرِيبٍ﴾: صفة ﴿أَجَلٍ﴾. ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ﴾: فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الظالمين. ﴿وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿نُجِبْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الظالمين.
﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف، ويكون ذلك المحذوف مع ما عطف عليه مقولًا لقول محذوف، فيقال لهم: ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم؟ ﴿لم تكونوا﴾: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿تكون﴾، وجملة ﴿تكون﴾ في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا للقول المحذوف، وجملة القول المحذوف مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾ نافية حجازية، أو تميمية. ﴿لَكُمْ﴾: خبرها، أو خبر المبتدأ مقدم. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿زَوَالٍ﴾: اسمها مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (٤٥)﴾.
﴿وَسَكَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾. ﴿فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿سكنتم﴾. ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿وَتَبَيَّنَ﴾: فعل ماض، وفاعله محذوف معلوم مما بعده تقديره: فعلنا بهم، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾، ولا يصح (١)
أن يكون ﴿كَيْفَ فَعَلْنَا﴾ فاعلًا لـ ﴿تبين﴾؛ لأن الاستفهام له الصدارة، وقال بعض الكوفيين: إن جملة ﴿كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ هو الفاعل وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلًا. ﴿لَكُمُ﴾ متعلقان به ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام تعجيب في محل النصب على التشبيه بالمفعول به لـ ﴿فَعَلْنَا﴾ مبني على الفتح. ﴿فَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِمْ﴾: متعلق به، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَضَرَبْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق به. ﴿الْأَمْثَالَ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة.
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)﴾.
﴿وَقَدْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مَكْرُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿مَكَرُوا﴾. ﴿وَإِنْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿إن﴾: نافية. ﴿كَانَ مَكْرُهُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لِتَزُولَ﴾ (اللام): حرف جر وجحود. ﴿تزول﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود. ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿الْجِبَالُ﴾: فاعل مرفوع، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وإن كان مكرهم لزوال الجبال منه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كَانَ﴾ تقديره: وإن كان مكرهم صالحًا لزوال الجبال منه، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة.
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧)﴾.
﴿فَلَا﴾: (الفاء): تفريعية. ﴿لا تحسبن الله﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ وما بينهما جمل معترضة. ﴿مُخْلِفَ وَعْدِهِ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه. ﴿رُسُلَهُ﴾: مفعول به لـ ﴿وَعْدِهِ﴾؛ لأنه مصدر مضاف لفاعله، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾: صفة لـ ﴿عَزِيزٌ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد لأمتك قصة يوم تبدل الأرض، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾: فعل ونائب فاعل، وهو المفعول الأول. ﴿غَيْرَ الْأَرْضِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿تُبَدَّلُ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾: معطوف على ﴿الْأَرْضِ﴾. ﴿وَبَرَزُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على ﴿تُبَدَّلُ﴾. ﴿لله﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿برزوا﴾. ﴿الْوَاحِدِ﴾: صفة للجلالة. ﴿الْقَهَّارِ﴾: صفة ثانية للجلالة، أو صفة لـ ﴿الْوَاحِدِ﴾.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)﴾.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾: فعل ومفعول به؛ لأن ﴿ترى﴾ بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ترى﴾. ﴿مُقَرَّنِينَ﴾: حال من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾. ﴿فِي الْأَصْفَادِ﴾: متعلق به. ﴿سَرَابِيلُهُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿مِنْ قَطِرَانٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿مُقَرَّنِينَ﴾، أو من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾، أو من ﴿مُقَرَّنِينَ﴾. ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١)﴾.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿برزوا﴾، وما بينهما اعتراض، أو بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك بهم للجزاء. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يجزي﴾. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسٍ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)﴾.
﴿هَذَا بَلَاغٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿بَلَاغٌ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَلِيُنْذَرُوا﴾: (الواو): عاطفة على محذوف تقديره: أنزل إليك هذا القرآن ليبلغهم إلى مراتب السعادة. و (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿ينذروا﴾: فعل ونائب فاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: أنزل إليك لتبليغهم إلى مراتب السعادة ولإنذارهم به، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿بِهِ﴾ متعلقان به ﴿وَلِيَعْلَمُوا﴾ (الواو): عاطفة. ﴿ليعلموا﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يعلموا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولعلمهم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿أَنَّمَا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿ما﴾: كافة لكلها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿هُوَ إِلَهٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة ﴿إِلَهٌ﴾، والجملة الاسمية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: وليعلموا كون المعبود إلهًا واحدًا لا شريك له، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿وَلِيَذَّكَّرَ﴾ (الواو): عاطفة. و (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يذكر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ﴿يذكر﴾. ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه منصوب بأن مضمرة، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولتذكر أولي الألباب، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ قال الفراء: يقال: شخص الرجل بصره، وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى يشخص - من باب ذهب - شخوصًا إذا بقيت مفتوحة لا تتحرك من شدة الحيرة والدهشة.
﴿مُهْطِعِينَ﴾؛ أي: مسرعين إلى الداعي اسم فاعل (١) من أهطع الرباعي
يهطع إهطاعًا إذا أسرع. وقيل: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع، ومنه قول الشاعر:
بِدَجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أرَاهُمْ | بِدَجْلَةَ مُهْطِعِيْنَ إِلَى السَّمَاءِ |
﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾؛ أي: رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء وإقناع الرأس رفعه وأقنع صوته إذا رفعه، والمعنى: أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذل ولا ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل: إن إقناع الرأس نكسه. وقيل: يقال أقنع إذا رفع رأسه وأقنع إذا طأطأ ذلة وخضوعًا، والآية محتملة للوجهين. قال المبرد: والقول الأول أعرف في اللغة. قال الشاعر:
أنْغَضَ نَحْوِيْ رَأسَهُ وَأقْنَعَا | كَأَنَّمَا أبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَا |
﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾؛ أي: لا ترجع إليهم أبصارهم، وأصل الطرف تحريك الأجفان، وسميت العين طرفًا؛ لأنه يكون بها، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة:
وَأَغُضُّ طَرْفِيْ مَا بَدَتْ لِيْ جَارَتِي | حَتَّى يُوَارِي جَارتِيْ مَأوَاهَا |
ما طبق طرفه؛ أي: جفنه على الآخر، والطرف أيضًا تحريك الجفن. اهـ.
﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ﴾؛ أي: قلوبهم جمع فؤاد. ﴿هَوَاءٌ﴾؛ أي: خالية (١) من العقل والفهم، لفرط الحيرة والدهشة، ويقال للجبان والأحمق: قلبه هواء؛ أي: لا قوة ولا رأي له، كما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب:
أَلاَ أَبْلِغْ أبَا سفيانَ عَنِّي | فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءٌ |
ومعنى الآية: أن القلوب يومئذٍ زائلة عن أماكنها، والأبصار شاخصة، والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته.
﴿مِنْ زَوَالٍ﴾؛ أي: من انتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء.
﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: بينا لكم (٢) أنهم مثلكم في الكفر واستحقاق العذاب.
﴿وَبَرَزُوا﴾؛ أي: خرجوا من قبورهم.
﴿مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾؛ أي: مشدودين في القيود والأغلال جمع مقرن والمقرن من جمع في القرن، وهو الحبل الذي يربط به. وروي أن كل كافر يقرن مع شيطانه في سلسلة. والأصفاد جمع صَفَد - بفتحتين -: وهو القيد. والأغلال جمع غُل - بضم الغين -: وهو طوق من حديد، يقال: صفده يصفده صفدًا - من باب ضرب - إذا قيده، والاسم الصفد، وصفّده مشددًا للتكثير. اهـ. "سمين".
﴿سَرَابِيلُهُمْ﴾: السرابيل: القمص، واحدها: سربال، ومنه قول كعب بن مالك:
تَلْقَاكُمُ عُصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْ | مِنْ نَسْجِ دَاوُوْدَ فِيْ الْهَيْجَا سَرَابِيْلُ |
(٢) المراغي.
يقال: سربلته إذا ألبسته السربال.
﴿مِنْ قَطِرَانٍ﴾ والقطران؛ دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت، كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت وهو الهنأ: يقال: هنأت البعير أهنؤه بالهنأ إذا طلبته بالهنأ؛ وهو أسود اللون منتن الريح. وفي "السمين": القطران: ما يستخرج من شجر فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب؛ ليذهب جربها لحدته، وفيه لغات ﴿قطران﴾ - بفتح القاف وكسر الطاء - وهي قراءة العامة المتواترة، ﴿قَطْران﴾ بزنة سكران، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. و ﴿قِطْران﴾ - بكسر القاف وسكون الطاء - بزنة سرحان، ولم يقرأ بها فيما علمت. وقرأ جماعة ﴿من قطر﴾ - بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء (آن) بوزن عان، وجعلوها كلمتين كما مر في مبحث القراءة وقد مر أيضًا أن هذه القراءات شاذة عدا قراءة الجمهور ﴿قَطِران﴾.
﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾؛ أي: تعلوها وتحيط بها.
﴿هَذَا بَلَاغٌ﴾ والبلاغ: اسم مصدر لبلغ تبليغًا، فهو بمعنى اسم الفاعل؛ أي: مبلغ للناس إلى مراتب السعادة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التهديد في قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، والأصل: وأفئدتهم كالهواء، لفراغها من جميع الأشياء، فصار التشبيه بليغًا.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ حذف منه والسماوات تبدل غير السماوات لدلالة ما سبق عليه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية، حيث شبه شرائع الإِسلام ومعجزات
الرسول - ﷺ - بالجبال بجامع الثبات والقرار في كل.
ومنها: الإظهار مقام الإضمار في قوله: ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا﴾ لتقدم المرجع في قوله: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾.
ومنها: العدول عن المضارع إلى الماضي في قوله: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ﴾ بدل: ويبرزون؛ للدلالة على تحقق الوقوع مثل: ﴿أتى أمر الله﴾ فكأنه حدث ووقع، فأخبر عنه بصيغة الماضي.
ومنها: رد العجز على الصدر في قوله: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾ فقد افتتحت هذه السورة بقوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾... الخ، فهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين آمين (١).
* * *
والحمد لله أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وسرًّا وجهرًا على إتمام تفسير هذا الجزء الثالث عشر، لقد بذلنا جهدنا وطاقتنا على حسب القوى البشرية في تلخيصه وتهذيبه وتنقيحه، فرحم الله امرأ نظر فيه بعين الإنصاف فسامح، ووقوف في التصحيح على خطأ فأصلح، وأعوذ بالله من حاسد إذا حسد وبغى، وأستغفره - جل اسمه - من قلم زلَّ وسهى، أو حرف شيئًا عن موضعه وطغى، وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا باللهِ العلي العظيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
تمَّ المجلد الرابع عشر من تفسير "حدائق الروح والريحان"، ويليه المجلد الخامس عشر، وأوله سورة الحجر.
وما أحسن قول القائل:
العَفوُ يُرْجَى مِنْ بَنِيْ آدَمِ... فَكَيفَ لاَ يُرجَى مِنَ الرَّبِّ
فإنَّه أرأفُ بي منهم... حسبي به حسبي به حسبي
آخرُ
سبحانك لا علم لنا... إلا ما أَلْهمتَ لنا
آخرُ
يا مَنْ مَلَكوت كُلِّ شَيءٍ بِيَدِه... طُوْبَى لِمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْزًا لِغَدِهْ
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الخامس عشر»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[١٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صفحة رقم 4
وما أصَدْقَ قولَ القائل
سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا... إِلاَ ما أَلْهَمْتَ لَنَا
لَكَ الشُّكْرُ يَا مَوْلاَنا... عَلَى مَا أسْعَفتَ لَنَا
شعر آخر
عَلَيْكَ بِالْقَصْدِ لاَ تَطْلُبْ مُكَاثَرَةً... فَالْقَصْدُ أَفْضَلُ شَيءٍ أَنْتَ طَالِبُهُ
فَالْمَرْءُ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا... وَلاَ يُفَكِّرُ مَا كَانَتْ عَوَاقِبُهُ
حَتَّى إِذَا ذَهَبَتْ عَنْهُ وَفَارَقَهَا... تَبَيَّنَ الْعُيْنَ فَاشْتَدَّتْ مَصَائِبُهُ
ولقَدَ أجَادَ مَنْ قال
لَوْ عِشْتُ عَامٍ... في سَجْدَةٍ لَرَبَى
شُكْرًا لِفَضْلِ يَوْمٍ... لَمْ أَقْضِ بِالتَّمَامِ
وَالْعَامُ أَلْفُ شَهْرٍ... وَالشَّهْرُ أَلْفُ يَوْمِ
وَالْيَوْمُ أَلْفُ حِيْنٍ... وَالْحِيْنُ أَلْفُ عَامِ
آخر
وَلاَ تَمْشِ فَوْقَ الأرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمُ مِنْكَ أَرْفَعُ
فَإِنْ كُنْتَ في عِزٍّ وَحِرْزٍ وَرِفْعَةٍ... فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمُ مِنْكَ أَمْنَعُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظةً وشفاء لما في الصدور، وجعَلَه مَنْهلًا عذبًا للورود والصدور، أظهره من مقام الجمع والتنزيه والنون، فألزمه حجة لأهل الظواهر والبطون، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد وآله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم ممن تخلق بالقرآن في كل زمان، ما تعاقب الملوان وطلع المرزمان.أما بعد: فلما فرغت من تفسير الجزء الثالث عشر من القرآن.. أخذت في تفسير الجزء الرابع عشر منه بتوفيق الله سبحانه وتعالى وتيسيره. اللهم كما عودتني في الأول خيرًا كثيرًا، فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، فلك الحمد في الأولى والأخرى على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سورة الحجر
وهي كلها مكية بإجماع المفسرين، وهي تسع وتسعون آية، وكلماتها: ست مئة وأربع وخمسون كلمة، وألفان وسبع مئة وستون حرفًا.
فائدة: أطول كلمة في القرآن: ﴿فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ لأنها أحد عشر حرفًا، وأما: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ فعشرةٌ. اهـ "روح البيان". صفحة رقم 7
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من السورة من وجوهٍ (١):
١ - أنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سابقتها، من وصف الكتاب المبين.
٢ - أنها شرحت أحوال الكفار يوم القيامة، وتمنيهم أن لو كانوا مسلمين، كما كانت السالفة كذلك.
٣ - أن في كل منهما وصف السموات والأرض.
٤ - أن في كل منهما قصصًا مفصلًا عن إبراهيم عليه السلام.
٥ - أن في كل منهما تسلية لرسول الله - ﷺ - بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم، وكانت العاقبة للمتقين.
فضلها: ومما ورد في فضلها: ما (٢) روي عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "من قرأ سورة الحِجر.. كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمدٍ - ﷺ - " والله أعلم.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الحجر جملة ما فيها من المنسوخ خمس آيات (٣):
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا﴾ الآية (٣) نسخت بآية السيف.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ الآية (٨٥) نسخت بآية السيف.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ الآية (٨٨) نسخت بآية السيف.
(٢) البيضاوي.
(٣) الناسخ والمنسوخ.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ﴾ الآية (٨٩) نسخ معناها أو لفظها بآية السيف.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية (٩٤) نصفها محكم ونصفها منسوخ بآية السيف. انتهى.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)﴾.المناسبة
مناسبة أوَّل هذه السورة لآخر التي قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (١) في آخر السورة التي قبلها أشياء من أحوال القيامة، من تبديل السموات والأرض، وأحوال الكفار في ذلك اليوم، وأن ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار.. ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس، وأحوال الكفرة وودادتهم لو كانوا مسلمين.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه
الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) استهزاء الكفار به - ﷺ -، ونسبته إلى الجنون، واقتراح نزول الملائكة.. سلَّاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن المرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا هدَّد (٢) الكافرين وبالغ في ذلك أيما مبالغة.. شرع يذكر بعض مقالاتهم في محمد - ﷺ - المتضمنة للكفر بما جاء به، ثم يذكر ما هم فيه من جحود وعناد، بلغا مدى تنكر معه المشاهدات، ويدعى معه السحر والخداع حين رؤية المبصرات، ثم ذكر سبحانه لرسوله - ﷺ - تسليةً له أن ما صدر منهم من السفه ليس بدعًا، فهذا دأب كل محجوج، فكثيرٌ من الأمم السالفة فعلت مثل هذا مع أنبيائها، فلك أسوة بهم في الصبر على سفاهتهم وجهلهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (٣) شديد جحودهم، وأنهم مهما أوتوا من الآيات لم يفدهم ذلك شيئًا، حتى بلغ من أمرهم أن ينكروا المشاهدات، ويدعوا الخداع حين رؤية المبصرات.. أعقب هذا ببيان أنهم قد كانوا في غنى عن كل هذا، فإن في السماء وبروجها العالية، وشموسها الساطعة وأقمارها النيِّرة، وسيَّاراتها الدائرة، وثوابتها الباسقة، عبرة لمن اعتبر، وحجة لمن اعتبر، وحجةً لمن ادكر، فهلَّا نظروا إلى الكواكب وحسابها ونظامها ومداراتها، وكيف حدثت بها الفصول والسنون، وكيف كان ذلك بمقادير محدودة، وأوقات معلومة لا تغيير فيها ولا تبديل، فبأمثال هذا يكون اليقين، وبالتدبر فيه تقوى دعائم الدين، ويشتد أزر سيد المرسلين، وهلَّا رأوا الأرض كيف مدت، وثبتت جبالها، وأنبتت نباتها بمقادير معلومة موزونة في عناصرها وأوراقها وأزهارها وثمارها، وجعل فيها معايش للإنسان والحيوان، أفلا يعتبرون بكل هذا؟ ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)﴾.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.