
بالقتل والأسر وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أشد وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
مانع يمنعهم من العذاب.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ في دخولها اختلفوا في الرافع للمثل.
فقال الفراء: هو ابتداء وخبر على قوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقيل معنى المثل الصفة كقوله وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «١» أي الصفة العليا وقوله ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ «٢» ومجاز الآية صفة الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أنّ الأنهار تجري من تحتها وكذا وكذا.
وقيل مثل وجه مجازها الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، والعرب تفعل هذا كثيرا بالمثل والمثل كقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٣» أي ليس هو كشيء.
وقيل معناه: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى «٤». قيل الجنة [بدل] منها.
قال مقاتل: معناه شبه الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار [في العذاب و] الشدّة والكرب «٥».
أُكُلُها دائِمٌ لا ينقطع ولا يفنى وَظِلُّها ظليل لا يزال وهذا رد على الجهمية، حيث قالوا: إن نعيم الجنة يفنى تِلْكَ عُقْبَى يعني ما فيه الَّذِينَ اتَّقَوْا الجنة وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني القرآن وهم أصحاب محمد يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني الكفار الذين كذبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود والنصارى
(٢) سورة الفتح: ٢٩.
(٣) سورة الشورى: ١١.
(٤) سورة الرعد: ١٨.
(٥) المصدر السابق: ٩/ ٣٢٥.

مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وذلك أنهم آمنوا بسورة يوسف وقالوا إنها واطأت كتابنا وهذا قول مجاهد وقتادة.
وقال باقي العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدء ما أنزل فلما أسلم عبد الله ابن سلام وأصحابه: ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن لأن ذكر الرحمن في التوراة كثير فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك قوله الله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية.
فقالت قريش حين نزلت هذه الآية: ما بال محمد كان يدعو إلى إله واحد فهو اليوم يدعو إلى إلهين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وفرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن فأنزل الله وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الله من ذكر الرحمن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني مشركي قريش من يذكر بعضه «١».
قال الله قُلْ يا محمد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ مرجعي وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وكما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد وأنكره الأحزاب، كذلك أيضا أنزلنا الحكم والدين حُكْماً عَرَبِيًّا وإنما وصفه بذلك لأنه أنزل على محمد وهو عربي، فنسب الدين إليه إذ كان منزلا عليه فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا، وقال قوم معنى الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغناهم كذلك أنزلنا عليك القرآن حُكْماً عَرَبِيًّا ثم توعده على إتباع هوى الأحزاب فقال وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ قيل بما شاء الله، وقيل في أهل القبلة لأنّه ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ فجعلناهم بشرا مثلك وَجَعَلْنا لَهُمْ ينكحوهن وأولاد ينسلوهم ولم يجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحوهن، فنجعل الرسول إلى قومك ملائكة ولكن أرسلنا إلى قومك بشرا مثلهم كما أرسلنا إلى من قبلهم من الأمم بشرا مثلهم وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وهذا جواب عبد الله بن أبي أمية ثم قال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لكل أمر أمضاه الله كان قد كتبه لجميع عبيده، الضحاك: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل ووقت ينزل فيه وهذا من المقلوب يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.
قرأ حميد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: وَيُثْبِتُ بالتخفيف.
وقرأ الآخرون: بالتثقيل واختاره أبو عبيد لكثرة من قرأها ولقوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «٢».
واختلف المفسرون في معنى الآية،
فروى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ إلّا الشقاوة والسعادة والموت» [١٥٢] «٣».
(٢) سورة إبراهيم: ٢٧.
(٣) جامع البيان للطبري: ١٣/ ٢١٧.

وعن ابن عباس قال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ إلا أشياء: الخلق والخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
عكرمة عنه هما كتابان سوى أم الكتاب يَمْحُوا اللَّهُ فهما ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الذي لا يغير منه شيء.
أبو صالح والضحاك: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب وَيُثْبِتُ ما فيه ثواب وعقاب «١».
وروى عفان عن همام عن الكلبي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ. قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه. قلت من حدثك؟
قال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقدم الكلبي بعد فسئل عن هذه الآية فقال: حتى إذا كان يوم الخميس يطرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. مثل قولك أكلت، شربت، دخلت، خرجت ونحوها من الكلام وهو صادق، وَيُثْبِتُ ما كان فيه الثواب وعليه العقاب «٢».
وقال بعضهم: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ كل ما يشاء [من] «٣» غير استثناء كما حكى الكلبي عن راذان عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
روى أبو عثمان النهدي: أنّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يطوف بالبيت السبت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فإن كنت كتبت عليّ الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب «٤».
ابن مسعود: إنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وروى حماد بن أبي حمزة عن إبراهيم: أن كعبا قال لعمر (رضي الله عنه) : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: وما هو؟ قال: قول الله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «٥».
(٢) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٢١.
(٣) زيادة اقتضاها السياق.
(٤) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٣٠.
(٥) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٢٠ تفسير القرطبي: ٩/ ٣٣٠.

وروى عطية عن ابن عباس: في هذه الآية قال: هو الرجل يعمل للزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل الذي عمل بطاعة الله وقد كان يقول: خير أمتي يموت وهو في طاعة الله، فهو الذي يثبت «١».
قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من القرون وَيُثْبِتُ ما يشاء منها كقوله كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ «٢» وقوله ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ «٣».
سعيد بن جبير وقتادة: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله وَيُثْبِتُ ما يشاء وما ينسخه.
الحسن: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يعني آجال بني آدم في كتاب يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من جاء أجله فيذهب به وَيُثْبِتُ من لم يجيء أجله إلى أجله.
مجاهد وابن قيس: حين ما أنزل ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «٤» ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرع من أمره. فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعدا لهم أي إن يشاء أحدثها من أمر. قاله بأشياء ويحدث في كل رمضان فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فيمحوا ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وينسئهم له «٥».
محمد بن كعب القرظي: إذا ولد الإنسان. أثبت أجله ورزقه وإذا مات محى أجله ورزقه.
وروى سعيد بن جبير: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ذنوب عباده فيغفرها وَيُثْبِتُ ما يشاء بتركها فلا يغفرها.
عكرمة: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني بالتوبة جميع الذنوب وَيُثْبِتُ بدل الذنوب حسنات فإنه إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «٦».
وروى عن الحسن أيضا: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني الآباء وَيُثْبِتُ يعني الأبناء.
السدي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني القمر وَيُثْبِتُ يعني الشمس.
بيانه قوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «٧».
(٢) سورة يس: ٣١. [.....]
(٣) سورة المؤمنون: ٣١.
(٤) سورة الرعد: ٣٨.
(٥) المصدر السابق: ٢٢٢.
(٦) سورة الفرقان: ٧٠.
(٧) سورة الإسراء: ١٢.