
سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب.
وقوله: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر: إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه.
قوله عز وجل:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
المعنى: اذْهَبُوا إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل، فَتَحَسَّسُوا، أي استقصوا ونقروا، والتحسس: طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع، ويستعمل في الخير والشر، فمن استعماله في الخير هذه الآية، وفي الشر نهي النبي ﷺ في قوله: ولا تحسسوا.
وقوله: مِنْ يُوسُفَ يتعلق بمحذوف يعمل فيه تحسسوا التقدير: فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف. لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازا.
وقرأت فرقة: «تيأسوا» وقرأت فرقة «تأيسوا» على ما تقدم، وقرأ الأعرج «تئسوا» بكسر التاء.
وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختارا. وهذان قد منعا الأوبة.
و «الروح» : الرحمة. ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين. إذ فيه إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل بصفات الله تعالى.
وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز «من روح الله» بضم الراء. وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي روحه فيرجى، ومن هذا قول الشاعر: [الطويل] وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع ومن هذا قول عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب... وغائب الموت لا يؤوب
ويظهر من حديث الذي قال: إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح. فلئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من الناس، إنه يئس من روح الله، وليس الأمر كذلك، لأن قول النبي ﷺ في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمنا إذ لا يغفر

الله لكافر، فبقي أن يتأول الحديث، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب، فذلك معنى بين، وإما أن تكون من القدرة، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالا، ولا يلزمه بهذا كفر. قال النقاش: وقرأ ابن مسعود «من فضل» وقرأ أبي بن كعب: «من رحمة الله».
وقوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ الآية، في هذا الموضع اختصار محذوفات يعطيها الظاهر، وهي:
أنهم نفذوا من الشام إلى مصر ووصلوها والضمير في عَلَيْهِ عائد على يوسف، والضُّرُّ أرادوا به المسغبة التي كانوا بسبيلها وأمر أخيهم الذي أهم أباهم وغم جميعهم، و «البضاعة» : القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح، وال مُزْجاةٍ معناها المدفوعة المتحيل لها، ومنه إزجاء السحاب، ومنه إزجاء الإبل كما قال الشاعر:
على زواحف تزجى مخهارير وكما قال النابغة: [البسيط]
وهبت الريح من تلقاء ذي أزل | تزجى مع الليل من صرّادها صرما |
الواهب المائة الهجان وعبدها | عوذا تزجي خلفها أطفالها |
بحاجة غير مزجاة من الحاج وقال حاتم:
ليبك على ملحان ضيف مدفع | وأرملة تزجي مع الليل أرملا |
واختلف في تلك العروض: ما كانت؟ فقيل: كانت السمن والصوف- قاله عبد الله بن الحارث- وقال علي بن أبي طالب: كانت قديد وحش- ذكره النقاش- وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: كانت الصنوبر والحبة الخضراء.
قال القاضي أبو محمد: وهي الفستق.
وقيل: كانت المقل، وقيل: كانت القطن، وقيل: كانت الحبال والأعدال والأقتاب.
وحكى مكي أن مالكا رحمه الله قال: المزجاة: الجائزة.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعرف لهذا وجها، والمعنى يأباه. ويحتمل أن صحف على مالك وأن صفحة رقم 275