
قال الرازي: واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا «١».
الفصل الخامس عشر من قصة يوسف تعرّف أولاد يعقوب على يوسف في المرة الثالثة واعترافهم بخطئهم وعفوه عنهم
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٨ الى ٩٣]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)

الإعراب:
لَأَنْتَ يُوسُفُ اللام: لام الابتداء، وأنت: مبتدأ، ويُوسُفُ: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر: في موضع رفع خبر «إن» ويجوز أن تكون لَأَنْتَ ضمير فصل على قول البصريين، أو عمادا على قول الكوفيين.
مَنْ يَتَّقِ مَنَّ شرطية مبتدأ، وخبره: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وكان الأصل أن يقال: فإن الله لا يضيع أجرهم، ليعود من الجملة إلى المبتدأ ذكر، إلا أنه أقام المظهر مقام المضمر، كقول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء. أي يسبقه شيء. وهو كثير في كلام العرب. والجملة من المبتدأ والخبر خبر إن الأولى، والهاء فيها: ضمير الشأن والحديث.
ويَصْبِرْ: مجزوم بالعطف على يَتَّقِ. ومن قرأ «يتقي» على جعل من بمعنى «الذي» وإذا كانت بمعنى الذي، ففيها معنى الشرط، ولهذا تأتي الفاء في خبرها في الأكثر، مثل:
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين ٦٣/ ١٠].
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا: نافية للجنس، وتَثْرِيبَ: اسمها، وعَلَيْكُمُ متعلق بالخبر المحذوف، وتقديره: لا تثريب مستقر عليكم، واليوم منصوب بالخبر المحذوف. ولا يجوز أن يتعلق أحدهما بتثريب، لأنه لو كان متعلّقا به، لوجب أن يكون منونا، كقولهم: لا خيرا من زيد.
المفردات اللغوية:
الضُّرُّ أي شدة الجوع بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي بدراهم رديئة أو زيوف، يدفعها التجار، من أزجى الشيء: إذا دفعه برفق، كما في قوله تعالى: يُزْجِي سَحاباً [النور ٢٤/ ٤٣].
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي فأتم لنا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة عن رداءة بضاعتنا، أو برد أخينا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يثيبهم أحسن الجزاء، والتصدق: التفضل مطلقا، ولكنه اختص عرفا بما يبتغى به ثواب من الله تعالى.
ثم قال لهم توبيخا: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من الضرب والبيع وغير ذلك وَأَخِيهِ فعلهم بأخيه: إفراده عن يوسف وإذلاله، حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز

وذلة إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قبح أو عاقبة فعلكم، فأقدمتم عليه. وإنما قال ذلك تحريضا لهم على التوبة وشفقة عليهم، لما رأى من عجز هم وتمسكنهم، لا معاتبة وتثريبا.
قالُوا بعد أن عرفوه، لما ظهر من شمائله أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير وإثبات، وحقق بأن ودخول اللام عليه وَهذا أَخِي من أبي وأمي، ذكره تعريفا لنفسه به، وتفخيما لشأنه قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أنعم علينا بالاجتماع والسلامة والكرامة مَنْ يَتَّقِ يخف الله وَيَصْبِرْ على ما يناله من البليات، أو على الطاعات وعن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وضع الظاهر الْمُحْسِنِينَ موضع الضمير أجرهم للتنبيه على أن المحسن: من جمع بين التقوى والصبر.
آثَرَكَ فضلك، واختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة وبالملك والسلطة وغيرها وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ إن مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا، أي والحال أن شأننا أنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، وآثمين في أمرك. والخاطئ: الذي يتعمد الخطيئة، والمخطئ: الذي يريد الصواب فيخطئه ويصير إلى غيره. والخطء: الذنب.
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا لوم ولا تأنيب عليكم الْيَوْمَ خصه بالذكر، لأنه مظنة التثريب، فغيره أولى. وهو متعلق بالتثريب، أو بالخبر المحذوف وتقديره: لا تثريب كائن أو حاصل عليكم يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ لأنه صفح عن جريمتهم التي اعترفوا بها حينئذ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإنه يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا هو قميص إبراهيم الذي لبسه، حين ألقي في النار، كان في عنقه في الجبّ، فهو القميص المتوارث، أو القميص الذي كان عليه. يَأْتِ بَصِيراً يصر مبصرا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي ائتوني أنتم وأبي وزوجته بنسائكم وذراريكم ومواليكم.
المناسبة:
الكلام مرتبط بما قبله، بتقدير محذوف، وهو أن يعقوب لما قال لبنيه:
اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ قبلوا من أبيهم هذه النصيحة، وعادوا إلى مصر للمرة الثالثة، يبحثون عن يوسف وأخيه، بلا يأس، وإنما بأمل وجدّ في البحث، فلما التقوا مع يوسف العزيز، ورق قلبه لاستعطافهم، عرّفهم بنفسه، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر.

التفسير والبيان:
فلما ذهبوا في المرة الثالثة، فدخلوا مصر، ودخلوا على يوسف عليه السلام، فقالوا مختبرين بذكر حالهم، واستعطافهم، وشكواهم إليه رقة الحال وقلة المال مما يرقق القلب: يا أيها العزيز- وكان أبوهم يرى أن هذا العزيز هو يوسف- قد أصابنا وأهلنا الضرر الشديد من الجدب والقحط والجوع وقلة الطعام، وأتينا إليك بثمن الطعام الذي نمتاره، وهو ثمن قليل أو رديء زيوف لا يروج بين التجار في الأسواق، فأتم لنا الكيل كما عودتنا من إحسانك، وتصدّق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة، وتسامح فيها بعد أن تتغاضى عن قلتها أو رداءتها، إن الله يجزي المتصدقين أحسن الجزاء، فيخلف لهم ما ينفقون، ويضاعف الثواب لهم.
وكان القصد من هذا الكلام الرقيق والتضرع والتذلل اختبار حال العزيز، هل يرق قلبه، ويظهر نفسه، ويعلن عن شخصه؟ بعد أن ذكروا له ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام، وما لدى أبيه من الحزن لفقد ولديه.
وقد نجحوا في هذا الاستعطاف، فأخذته رقة ورأفة ورحمة على أبيه وإخوته، وهو في حال الملك والتصرف والسعة، فأجابهم بقوله، مستفهما عن مدى استقباح فعلهم السابق بيوسف: هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه بنيامين؟ حيث ألقيتم يوسف في الجبّ، وعرضتموه للهلاك، وفرقتم بينه وبين أخيه، وما عاملتم به أخاه من معاملة جافّة قاسية، حال كونكم جاهلين قبح ما فعلتموه، من عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم والقرابة، وذلك كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ الآية [النحل ١٦/ ١١٩].
والمراد بهذا الاستفهام التقريع والتوبيخ، ومراد يوسف تعظيم الواقعة، أي ما أعظم ما ارتكبتم بيوسف، كما يقال: هل تدري من عصيت؟ والصحيح أنه

قال جاهِلُونَ تأنيسا لقلوبهم وبيانا لعذرهم، كأنه قال: إنما دفعكم لهذا الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور، وكأنه لقنهم الحجة، كقوله تعالى:
ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار ٨٢/ ٦] «١».
وهذا تذكير رقيق بذنوبهم، تمهيدا لتعريفهم بنفسه، لا معاتبة ولوما وتوبيخا، بعد أن حان الوقت في هذه المرة الثالثة من لقاء يوسف مع إخوته، وكان قد أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بتقدير الله وأمره، وهو مصداق قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف ١٢/ ١٥].
فاغتنموا فرصة هذا التذكير وتساؤل العارف الخبير بأحوالهم، فسألوه سؤال المتعجب المستغرب المقرّر المثبت أنه أخوهم يوسف: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ أي إنهم استفهموا استفهام تعجب من موقفه أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، ولكنهم في هذه المرة عرفوه بقولهم ذلك، وتوسموا أنه يوسف، واستفهموه استفهام استخبار، وقيل: استفهام تقرير، وهو أولى في تقديري، لأنهم كانوا عرفوه بعلامات.
قال ابن عباس: إن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ رفع التاج عنه، فعرفوه، فقالوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ أي إنهم قالوا: من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف.
قالَ: أَنَا يُوسُفُ قال: نعم أنا يوسف المظلوم العاجز، الذي نصرني الله وقواني وصرت إلى ما ترون، وهذا أخي بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه،

ومقصوده: أن هذا أيضا كان مظلوما كما كنت، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى، كما ترون.
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي قد أنعم الله علينا بالاجتماع بعد الفرقة وبعد طول المدة، وأعزنا في الدنيا والآخرة. وفيه إشارة إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخي.
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ.. أي إن كل من يتقي الله حق التقوى فيما أمر به ونهى، ويصبر على طاعة الله وعلى المحن التي يتعرض لها، فإن الله حسبه وكافيه من كل سوء، ومنجيه من كل مكروه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين.
قالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ.. أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل، والله لقد فضلك الله علينا، وآثرك بالعلم، والحلم، والخلق، والملك والسعة والتصرف، والنبوة أيضا، وأقروا له بأنهم أساؤوا إليه، وأخطئوا في حقه، وأعلنوا بأنهم المذنبون الخاطئون، الذين لا يعذرون.
وبعد اعتذارهم وإعلان توبتهم صفح عنهم فقال: لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم، وكذا فيما قبله من الأيام، وخص اليوم بالذكر، لأنه مظنة التثريب والعتاب.
ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة، فقال: يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا.. لما عرف يوسف نفسه إخوته، سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره، أي عمي من كثرة البكاء، فقال لهم بما عرف بالوحي:
اذهبوا بقميصي هذا الذي على بدني، أو المتوارث عن أجدادي وآبائي إبراهيم

وإسحاق ويعقوب، فألقوه على وجه أبي فور وصولكم إليه، يأت مبصرا (ذا بصر) كما كان، فإن الغشاوة التي ألمت به تزول بالفرح والبشرى، وذلك بفضل الله وكرمه، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنساء والأولاد، روي أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- جواز الشكوى عند الضّرّ، أي الجوع، بل يجب على الإنسان إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره، أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع، كما يجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه، ولا يكون ذلك معارضا التوكل:
وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط. ويظل الصبر والتجلّد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى، كما قال يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده.
أما الشكوى لمن لا يؤمل منه إزالتها فهو عبث وسفه، إلا أن يكون على وجه البثّ والتسلي.
٢- جواز طلب الزيادة على الحق على سبيل الصدقة، والصدقة كما ذكر مجاهد لم تحرم إلا على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم.
وروى ابن جرير أن سفيان بن عيينة سئل: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع قوله: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا، إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.

٣- استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع: لأن إخوة يوسف قالوا له: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ فكان يوسف هو الذي يكيل.
وكذلك الوزّان والعدّاد وغيرهم، لأن على البائع تسليم المبيع وتمييزه عما عداه، إلا إذا باع شيئا معينا أو ما لا يحتاج إلى الكيل أو الوزن أو العدد، ولأن البائع لا يستحق الثمن إلا بعد إيفاء الحق بالكيل أو الوزن.
وكذلك أجرة النقد (فحص الدراهم التي هي الثمن) على البائع أيضا، لأنه هو الذي يدّعي الرداءة، ولأن النفع يقع له، فصار الأجر عليه.
ويكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق عليّ، لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم، لا رب غيره.
٤- استنباط الأحكام من فحوى الكلام وما يصحبه من إشارات، فإن يوسف وجّه لإخوته استفهاما بمعنى التذكير والتوبيخ بقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟ ففهموا منه أنه يوسف، فقالوا على سبيل استفهام التقرير والإثبات: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟.
ودل قوله إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ على أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف، وليسوا أنبياء، لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته، ويدل على أنه حسنت حالهم الآن، أي فعلتم فعلكم إذ أنتم صغار جهال.
وتعرف إخوة يوسف عليه، فتجاوب معهم وعرفهم بنفسه قائلا: أَنَا يُوسُفُ أي أنا المظلوم.
قال ابن عباس: كتب يعقوب إلى يوسف بطلب ردّ ابنه، وفي الكتاب:
من يعقوب صفيّ الله ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر:

أما بعد، فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدّي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحبّ أولادي إلي، حتى كفّ بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا، والسّلام.
فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعرّ جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره، فباح بالسرّ.
وأعلن يوسف عن مزيد فضل الله عليه بقوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالاجتماع بعد الفرقة، وبالعز بعد الذل، وبالنجاة والملك.
٥- إن من اتقى الله بالتزام ما أمر واجتناب ما نهى، وصبر على المصائب وعن المعاصي، فإن الله يدخر له ثواب إحسانه العمل، ولا يضيع منه شيئا.
٦- الاعتراف بالذنب أو الخطأ سبيل الحظوة بالعفو والصفح، فإن قول إخوة يوسف: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أي مذنبين، متضمن سؤال العفو، وقد ظفروا به.
ولا مانع من العفو عن الخطأ وإن كان عمديا، فهو تجاوز للحق، أيا كانت صفته، وكل من اقترف ذنبا متجاوز لمنهاج الحق، واقع في الشبهة والمعصية.
٧- شهد الله تعالى لنبيه يوسف عليه السّلام بصفات المتقين الصابرين المحسنين، وكفى بشهادة الحق فخرا، وهذا تعليم وتدريب ومثل عملي لنا.
٨- كانت عبارة يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ مثلا رائعا في السماحة والعفو والصفح، فهو عفو لا لوم فيه ولا تعيير، وهو صفح في حال المقدرة على العقاب، وهو تنازل عن أي حق دون أي حقد أو كراهية، وأضيف إليه الدعاء بالمغفرة على الذنب والستر، والرحمة في عالم الآخرة بين يدي أرحم الراحمين. وهو لا يكون إلا عن وحي، فكان مرد الفضل في النهاية إلى الله تعالى.

واحتذى نبينا عليه الصلاة والسّلام حذو أخيه يوسف عليه السّلام في هذا القول العظيم يوم فتح مكة بإعلان العفو عن قريش،
روى ابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: ماذا تظنون يا معشر قريش؟ قالوا:
خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، قال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فخرجوا كأنما نشروا من القبور».
وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ، ألم تر قول يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وقال يعقوب:
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
٩- حدثت الفرحة الصغرى بعودة البصر إلى يعقوب حينما ألقي عليه قميص يوسف. وهو- في القول الأصح
المروي مرفوعا عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فيما ذكر القشيري- قميص إبراهيم الذي ألبسه الله أثناء إلقائه في النار من حرير الجنة
، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، ويعقوب علقه في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي. وهذا بإعلام الله يوسف به. وقيل: إنه قميص يوسف الذي خلعه من على بدنه، فإنه إذا ألقي على أبيه انشرح صدره، وحصل في قلبه الفرح الشديد، والفرح يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى الحسية، فيقوى بصره، ويزول عنه ما غشيه بسبب البكاء، والطب يؤيد ذلك.
١٠- تمت الفرحة الكبرى بطلب يوسف عليه السّلام من إخوته إحضار جميع أسرته إلى مصر لاتخاذها دارا، وكان عددهم سبعين أو ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة.