
(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء إيمانا بالله واحتسابا للأجر عنده، وعملوا الصالحات حينما يكشفها ويبدّل النعماء بها ويشكره باستعمالها فيما يرضيه من عمل البر والخير لعباده، أولئك لهم مغفرة من ربهم تمحو ما علق بأنفسهم من ذنب أو تقصير، وأجر كبير فى الآخرة على ما وفّقوا لعمله من بر وخير كثير.
والخلاصة- إن الإنسان وإن كان مؤمنا حق الإيمان لا يسلم من ضيق صدر حين حلول الضراء والمصايب، وذلك مما ينافى كمال الرضا، كما لا يسلم حين النعماء من شىء من الزّهو والتقصير فى الشكر، فيغفر له كل منهما بصبره وشكره وإنابته إلى ربه.
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ».
ووصف الأجر بالكبير- لما حواه من نعيم سر مدى وأمن من العذاب ورضا من الله عز وجل ونظر إلى وجهه الكريم «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ».
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
تفسير المفردات
لعل هنا للاستفهام الإنكارى الذي يفيد النهى، وضيق الصدر: يراد به الغم والحزن، والكنز: ما يدّخر من المال فى الأرض، والوكيل: الرقيب الحفيظ للأمور،

الموكّل بحراستها، والاستجابة للداعى: إجابته، والإسلام: الإذعان والخضوع والانقياد:
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فى بدء السورة قولهم فى القرآن: إنه سحر مبين، وأنهم يستغشون ثيابهم كى لا يسمعوه- قفّى على ذلك بذكر تكذيبهم للرسول ﷺ والقرآن وبيان أن همه وحزنه ﷺ قد بلغ من كلامهم كل مبلغ، ثم أعقبه بتحدّيه لهم بالقرآن كى يأتوا بعشر سور مثله، حتى إذا ما عجزوا علم أنه وحي من عند الله.
روى عن ابن عباس أن الآية نزلت حين قال رؤساء مكة: يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك فقال لا أقدر على ذلك.
الإيضاح
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي أفتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك، مما يشقّ سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك والإنذار والوعيد لهم، والنعي على معبوداتهم وتسفيه أحلامهم، وضائق به صدرك أن تبلّغهم إياه كما أنزل.
ذاك أنهم كانوا يتهاونون به فيضيق صدره أن يلقى إليهم ما لا يقبلون وما يضحكون منه، فاستحثه سبحانه على أداء الرسالة وعدم المبالاة باستهزائهم، وطرح مقالاتهم الساخرة وراءه ظهريا.
وخلاصة ذلك- تحمّل أخف الضررين وهو تحمل سفاهتهم، على ترك بعض الوحى والوقوع فى الخيانة فيه

(أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أي كراهة أن يقولوا:
هلا أعطاه ربه كنزا من عنده يغنيه ويمتاز به عن غيره، أو جاء معه ملك يؤيده فى دعوته كما حكى الله عنهم فى سورة الفرقان «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها».
وجملة المعنى- إن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم مما من شأنه أن يقتضى ضيق الصدر بحسب الطباع البشرية أو أن يخطر على البال ترك بعض الوحى، ولولا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك لاجترحت ذلك واستسلمت لما لمثله جرت العادة، ولكن الله حفظك حتى تؤدى رسالته وترحم العالمين بنور نبوتك كما قال: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا».
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقوله: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» وقوله: «المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ».
(إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحى إليك غير مبال بما يصدر منهم ويطلق ألسنتهم، والله هو الرقيب على عباده وليس عليك من أعمالهم شىء.
وقد جاء بمعنى الآية قوله: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ».

وبعد أن ذكر ضيق صدره لتكذيب المشركين له، قفى على ذلك بذكر ما قالوه فى القرآن فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة إن محمدا قد افترى هذا القرآن؟ فقل لهم إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم لا تدّعون أنها من عند الله، فإنكم أهل اللّسن والبيان والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة وفنون الشعر والخطابة، ولم يسبق لى مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أن أزاول شيئا من ذلك، فإن كان من كلام البشر فأنتم على مثله أقدر، وإنكم لتعلمون أنى لم أكذب على بشر قط، فكيف أفترى على الله، وإن زعمتم أن لى من يعيننى على تأليفه ووصفه، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله، ومن جميع خلقه ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر، ولتكن مثله مفتريات تشتمل على مثل ما فيه من تشريع دينى ومدنى وحكم ومواعظ، وآداب وأنباء غيبية إخبارا عن ماض، وأنباء غيبية إخبارا عن مستقبل، بمثل هذا النظام البديع والأسلوب البالغ حد الإعجاز، والبلاغة الساحرة للألباب، والسلطان الحاكم على الأنفس والأرواح- إن كنتم صادقين فى دعواكم.
والخلاصة- إن مشركى مكة المعاندين لم يجدوا شهة فى القرآن بعد شبهة السحر التي لم تجد آذانا صاغية عند العرب، لأنهم أرباب الفصاحة واللسن فعرفوا فضله على سائر الكلام- إلا زعمهم أن محمدا قد افتراه جملة وليس بوحي من عند الله، فتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله فى النظم والأسلوب، محتوية على التشريع القيّم من دينى ومدنى وسياسى، وحكم ومواعظ وآداب، وكلّفهم دعوة من استطاعوا من دون الله ليظاهروهم ويعاونوهم على ذلك، فعجزوا ولم يجدوا من فصحائهم من يستجيب لهم، فقامت الحجة عليهم وعلى غيرهم إلى يوم الدين، وهذا معنى قوله:
(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) أي فإن لم يستجب لكم من

تدعونهم من دون الله ليعاونوكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة للقرآن من فحول الكتاب ومصاقع الخطباء وعلماء أهل الكتاب العارفين أخبار الأنبياء، فاعلموا أنما أنزل على محمد ﷺ بمقتضى علم الله وإرادته أن يبلغه لعباده على لسان رسوله ولا يقدر عليه محمد ولا غيره ممن تدّعونه زورا أنهم أعانوه، لأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله به.
(وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أنه لا إله يعبد بحق إلا هو، إذ من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره، وأن يعجز من عداه عن مثل ما يقدر عليه.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فهل أنتم بعد أن قامت عليكم الحجة داخلون فى الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن، مؤمنون بما فيه من عقائد ووعد ووعيد وأحكام وحكم وآداب.
والخلاصة- إنه لم يبق لكم بعد أن دحضت شبهتكم وانقطعت معاذيركم إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار، والعاقل المنصف لا يرضى لنفسه بمثل هذا دعاء المشركين.
افتراء النبي ﷺ للقرآن
افتراء القرآن يشمل ناحيتين:
(١) افتراء فى جملته بإسناده إلى الله ادعاء أنه من كلامه أوحاه إليه.
(٢) افتراء أخبار الغيب التي يدّعى أنها من عند الله ولا يعلمها إلا هو وبها استدل على نبوته، وقد حكى الله عنهم ادعاء الأمرين فى سورة الفرقان بقوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».
وأساطير الأولين: هى قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها، وكانت العرب تسلّى نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها أساطير الأولين.

وأنباء الغيب ضربان:
(ا) أنباء الغيب الماضية، وتشمل قصص الرسل مع أقوامهم، وأخبار التكوين كخلق السموات والأرض وما بينهما كخلق الإنسان والجانّ.
(ب) أنباء الغيب الآتية، وتشمل وعد الله بنصره لرسله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم فى الأرض وخذلان أعدائهم الكافرين، والقيامة والبعث والحساب والجزاء على العقائد والأعمال، وقد كانوا ينكرون ذلك ويستبعدونه.
ما حوته قصص القرآن
إن فى قصص القرآن لأشعة من ضياء العلم والهدى جاءت على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا، ويمكن أن بحمل أغراضها فيما يلى:
(١) بيان أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله وتوحيده وعلمه وحكمته وعدله ورحمته والإيمان بالبعث والجزاء.
(٢) بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله لعباده فحسب، ولا يملكون وراء ذلك نفعا ولا ضرا:
(٣) بيان سنن الله فى استعداد الإنسان النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر والخير والشر.
(٤) بيان سنن الله فى الاجتماع وطباع البشر وما فى خلقه للعالم من الحكمة.
(٥) آيات الله وحججه على خلقه فى تأييد رسله.
(٦) نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم كقوم نوح فى غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون وملئه فى ثروتهم وعتوهم، وقوم عاد فى قوتهم وبطشهم، وقوم لوط فى فحشهم.
فإن أمكن أن يكون كل هذا حديثا مفترى، فان مفتريه يكون أكمل منهم جميعا علما وعملا وهداية وإصلاحا، فما أجدرهم أن يتبعوه، وما أحقهم أن يهتدوا بهديه،